ثم أخبر تعالى عن أحوال الخلق ، وأن الجميع يسألونه مطالبهم ، ويستدفعونه ما يضرهم ، ولكن مقاصدهم تختلف ، فمنهم : { مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا } أي : يسأله من مطالب الدنيا ما هو من شهواته ، وليس له في الآخرة من نصيب ، لرغبته عنها ، وقصر همته على الدنيا ، ومنهم من يدعو الله لمصلحة الدارين ، ويفتقر إليه في مهمات دينه ودنياه ، وكل من هؤلاء وهؤلاء ، لهم نصيب من كسبهم وعملهم ، وسيجازيهم تعالى على حسب أعمالهم ، وهماتهم ونياتهم ، جزاء دائرا بين العدل والفضل ، يحمد عليه أكمل حمد وأتمه ، وفي هذه الآية دليل على أن الله يجيب دعوة كل داع ، مسلما أو كافرا ، أو فاسقا ، ولكن ليست إجابته دعاء من دعاه ، دليلا على محبته له وقربه منه ، إلا في مطالب الآخرة ومهمات الدين .
والحسنة المطلوبة في الدنيا يدخل فيها كل ما يحسن وقعه عند العبد ، من رزق هنيء واسع حلال ، وزوجة صالحة ، وولد تقر به العين ، وراحة ، وعلم نافع ، وعمل صالح ، ونحو ذلك ، من المطالب المحبوبة والمباحة .
وحسنة الآخرة ، هي السلامة من العقوبات ، في القبر ، والموقف ، والنار ، وحصول رضا الله ، والفوز بالنعيم المقيم ، والقرب من الرب الرحيم ، فصار هذا الدعاء ، أجمع دعاء وأكمله ، وأولاه بالإيثار ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء به ، والحث عليه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وِمِنْهُمْ مّن يَقُولُ رَبّنَآ آتِنَا فِي الدّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النّارِ }
اختلف أهل التأويل في معنى الحسنة التي ذكر الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : يعني بذلك : ومن الناس من يقول : ربنا أعطنا عافية في الدنيا وعافية في الاَخرة : ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا حَسَنَةً وفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً قال : في الدنيا عافية ، وفي الاَخرة عافية .
قال قتادة : وقال رجل : اللهمّ ما كنت معاقبي به في الاَخرة فعجله لي في الدنيا فمرض مرضا حتى أضنى على فراشه ، فذكر للنبيّ صلى الله عليه وسلم شأنه ، فأتاه النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقيل له : إنه دعا بكذا وكذا ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّهُ لا طاقَةَ لأِحَدٍ بِعُقُوبَةِ اللّهِ ، وَلَكِنْ قُلْ : رَبّنا آتِنا فِي الدّنيْا حَسَنَةً وفي الاَخِرِةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذَابَ النّار » فقالها ، فما لبث إلا أياما أو يسيرا حتى برأ .
3حدثني المثنى ، قال : حدثنا سعيد بن الحكم ، قال : أخبرنا يحيى بن أيوب ، قال : ثني حميد ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول : عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً قد صار مثل الفرخ المنتوف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هَلْ كُنْتَ تَدْعُو اللّهَ بِشَيْءٍ ، أوْ تَسألُ اللّهَ شَيْئا ؟ » قال : قلت : اللهمّ ما كنت معاقبي به في الاَخرة فعاقبني به في الدنيا . قال : «سُبْحانَ اللّهِ هَلْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ أحَدٌ أوْ يُطِيقُهُ فهَلاّ قُلْتَ : اللّهُمّ آتِنا فِي الدّنْيا حَسَنَةً ، وفِي الاَخِرَة حَسَنَةً ، وَقِنا عَذَابَ النّارِ » .
وقال آخرون : بل عنى الله عز وجل بالحسنة في هذا الموضع : في الدنيا : العلم والعبادة ، وفي الاَخرة : الجنة . ذكر من قال ذلك :
3حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عباد ، عن هشام بن حسان ، عن الحسن : وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا حَسَنَةً وفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً قال : الحسنة في الدنيا : العلم والعبادة ، وفي الاَخرة : الجنة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن سفيان بن حسين ، عن الحسن في قوله : رَبّنا آتِنا فِي الدّنيْا حَسَنَةً ، وفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً ، وَقِنا عَذَابَ النّارِ قال : العبادة في الدنيا ، والجنة في الاَخرة .
3حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن واقد العطار ، قال : حدثنا عباد بن العوّام ، عن هشام ، عن الحسن في قوله : رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا حَسَنَةً قال : الحسنة في الدنيا : الفهم في كتاب الله والعلم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت سفيان الثوري يقول هذه الآية : رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا حَسَنَةً وفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً قال : الحسنة في الدنيا : العلم والرزق الطيب ، وفي الاَخرة حسنة : الجنة .
وقال آخرون : الحسنة في الدنيا : المال ، وفي الاَخرة : الجنة . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا حَسَنَةً وفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذَابَ النّارِ قال : فهؤلاء النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبّنا آتِنا فِي الدّنْيا حَسَنَةً وفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً هؤلاء المؤمنون أما حسنة الدنيا فالمال ، وأما حسنة الاَخرة فالجنة .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله جل ثناؤه أخبر عن قوم من أهل الإيمان به وبرسوله ، ممن حجّ بيته ، يسألون ربهم الحسنة في الدنيا ، والحسنة في الاَخرة ، وأن يقيهم عذاب النار . وقد تجمعُ الحسنة من الله عزّ وجل العافية في الجسم والمعاش والرزق وغير ذلك والعلم والعبادة . وأما في الاَخرة فلا شك أنها الجنة ، لأن من لم ينلها يومئذٍ فقد حرم جميع الحسنات وفارق جميع معاني العافية .
وإنما قلنا إن ذلك أولى التأويلات بالآية لأن الله عز وجل لم يخصص بقوله مخبرا عن قائل ذلك من معاني الحسنة شيئا ، ولا نصب على خصوصه دلالة دالة على أن المراد من ذلك بعض دون بعض ، فالواجب من القول فيه ما قلنا من أنه لا يجوز أن يخصّ من معاني ذلك شيء ، وأن يحكم بعمومه على ما عمه الله .
وأما قوله : وَقِنا عَذَابَ النّارِ فإنه يعني بذلك : اصرف عنا عذاب النار ، يقال منه : وقيته ، كذا أقيه وقاية وواقية ووقاء ممدودا ، وربما قالوا : وقاك الله وَقْيا : إذا دفعت عنه أذى أو مكروها .
{ ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة } يعني الصحة والكفاف وتوفيق الخير . { وفي الآخرة حسنة } يعني الثواب والرحمة . { وقنا عذاب النار } بالعفو والمغفرة وقول علي رضي الله تعالى عنه : الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة ، وفي الآخرة الحوراء . وعذاب النار المرأة السوء وقول الحسن : الحسنة في الدنيا العلم والعبادة ، وفي الآخرة الجنة . وقنا عذاب النار معناه احفظنا من الشهوات والذنوب والمؤدية إلى النار أمثلة للمراد بها .
{ حسنة } أصلها صفة لفعلة أو خصلة ، فحذف الموصوف ونزل الوصف منزلة الاسم مثل تنزيلهم الخير منزلة الاسم مع أن أصله شيء موصوف بالخيرية ، ومثل تنزيل صالحة منزلة الاسم في قول الحطيئة :
كيفَ الهجاءُ وما تنفك صالحة *** من آل لأْمٍ بظهر الغَيْب تَأتِينِي
ووقعت حسنة في سياق الدعاء فيفيد العموم ، لأن الدعاء يقصد به العموم كقول الحريري :
* يا أَهْل ذا المَغْنَى وُقِيتُمْ ضُرَّا *
وهو عموم عرفي بحسب ما يصلح له كل سائل من الحسنتين .
وإنما زاد في الدعاء { وقنا عذاب النار } لأن حصول الحسنة في الآخرة قد يكون بعد عذاب ما فأريد التصريح في الدعاء بطلب الوقاية من النار .