اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمِنۡهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٗ وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ حَسَنَةٗ وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ} (201)

قوله تعالى : { فِي الدنيا حَسَنَةً } [ البقرة : 201 ] يجوز في الجارِّ وجهان .

أحدهما : أن يتعلَّق ب " آتنا " كالذي قبله .

والثاني : أجازه أبو البقاء{[24]} أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حالٌ من " حَسَنَةٌ " ؛ لأنه كان في الأصل صفةً لها ، فلما قُدِّم عليها ، انتصَبَ حالاً .

قوله : { وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً } هذه الواوُ عاطفةٌ شيئَيْن على شيئَيْن متقدِّمَيْن ف " في الآخِرةِ " عطفٌ على " في الدُّنْيَا " بإعادةِ العاملِ ، و " حَسَنَةً " عطفٌ على " حَسَنَةً " ، والواو تَعْطِفُ شيئين فأكثرَ ، على شيئين فأكثرَ ؛ تقول : " أَعْلَمَ اللَّهُ زَيْداً عَمْراً فَاضِلاً ، وَبَكْراً خَالِداً صَالِحاً " ، اللهم إلا أن تنوبَ عن عاملين ، ففيها خلافٌ وتفصيلٌ يأتي في موضعِه - إنْ شاء الله - ، وليس هذا كما زعم بعضُهُم : أنه من بابِ الفصْلِ بين حرفِ العطفِ وهو على حرفٍ واحد ، وبين المعطوفِ بالجارِّ والمجرور ، وجعله دليلاً على أبي عليٍّ الفارسيِّ ؛ حيثُ منع ذلك إلا في ضَرَورةٍ ؛ لأن هذا من باب عَطْفِ شيئين على شيئين ؛ كما ذكرتُ لك ، لا من باب الفصلِ ، ومحلُّ الخلافِ إنما هو نحو : " أَكْرَمْتُ زَيْداً وَعِنْدَك عَمْراً " ، وإنما يُرَدُّ على أبي عَليٍّ بقولِه : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ } [ النساء : 58 ] وقوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ }

[ الطلاق : 12 ] .

فصل

ذكر المفسِّرُون في الحُسْنَيين وجوهاً :

قال عليٌّ بن أبي طالب : في الدُّنيا امرأة صالحة ، وفي الآخِرَة الجنَّة{[25]} ؛ رُوِي عن رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ أنه قال : الدُّنْيَا كُلُّهَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِهَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ{[26]} .

وقال الحسن{[27]} : في الدُّنيا حَسَنَة العلم والعِبَادةً ، وفي الآخِرَة : الجَنَّة والنظر .

روى الضحّاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ؛ " أنّ رجلاً دَعَا ربَّه فقال : " رَبِنا آتِنَا في الدُّنْيا حَسَنة وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَاَب النَّارِ " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " ما أَعْلَمُ أنّ هذا الرَّجُل سأَلَ الله شَيْئاً من أمر الدُّنْيَا " ، فقال بَعْضُ الصحابة : بَلَى يا رسُول الله إنّه قال : " ربَّنّا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة " ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنّه يَقُول ربَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا عملاً صَالِحاً {[28]} " .

وقال السُّدِّيُّ وابن حيان : في الدُّنْيَا رِزْقاً حَلاَلاً وعَمَلاً صَالِحاً ، وفي الآخرة المَغْفِرة والثَّوَاب{[29]} .

وقال عوف : من آتاهُ الله الإِسْلام والقُرْآن وأَهْلاً ومالاً ، فقد أُوتِي في الدُّنْيا حَسَنَة وفي الآخِرة حسَنَة{[30]} .

وقيل : الحَسَنة في الدُّنْيا الصِّحَة والأَمن ، والكفاية ، والولد الصَّالِح ، والزَّوجَة الصَّالحة ، والنُّصْرة على الأَعْداء ؛ لأن اللَّهَ تعالى سمَّى الخَصْب والسَّعَة في الرِّزق حسَنة ؛ فقال : { إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ } [ التوبة : 50 ] .

وقيل في قوله تعالى : { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ }

[ التوبة : 52 ] أنهما الظَّفَر والنُّصْرة ، وأمّا الحَسَنةُ في الآخِرة فهي الفوز بالثَّواب والخلاص من العِقاب .

وقال قتادة : هو طَلَبُ العافية في الدَّارَيْن{[31]} .

وبالجُمْلة فهذا الدُّعاء جامِعٌ لجميع مطالب الدُّنْيَا والآخرة ؛ روى ثابتٌ ؛ أنَّهم قالوا لأَنس : ادع لنا ، فقال : " اللَّهُم آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنة وفي الآخِرَة حَسَنَة وقِنا عَذَاب النَّار " قالوا : زدنا ، فأعادها ، قالوا : زدنا ، قال : ما تُرِيدون ؛ قد سأَلتُ لك خير الدُّنيا والآخرة{[32]} .

وعن أنس ؛ قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِر أن يَقُول : " رَبَّنا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنة وفي الآخرة حَسَنةً وقِنا عذاب النَّارِ " {[33]} .

وعن عبد الله بن السَّائِب ؛ أنّه سمع النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقُول فيما بين رُكْن بني جمح والرُّكن الأَسود " رَبِنا آتِنَا في الدُّنْيا حَسَنَة وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ " {[34]} .

فصل

قال ابن الخطيب{[35]} : اعلم أن مَنْشأ البَحث في الآية الكريمة أنّه لو قِيلَ : آتِنا في الدنيا الحَسَنَة وفي الآخِرة الحَسَنة ، لكان ذلك مُتَنَاوِلاً لكل الحَسَناتِ ، ولكنه قال : " آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخِرَة حَسَنَةً " ، وهذا نَكِرَة في محلِّ الإثبَاتِ ، فلا يتنَاول إلاّ حَسَنةً واحِدَة ؛ فلذلك اخْتَلف المُفَسِّرون ، فكل واحد منهم حَمَل اللَّفظ على ما رآه أَحْسَن أَنْوَاع الحَسَنة ، وهذا بناء منه على أنّ الفَرْد المُعَرَّف بالأَلف واللاَّم يَعمُّ{[36]} ، وقد اختار في " المَحْصُول " خلافه .

ثم قال : فإن قيل : أليس أنّه لو قيل : آتِنَا الحَسَنة في الدُّنيا والحَسَنة في الآخِرَة ، لكان مُتَنَاوِلا لكلِّ الأقْسَام ، فلم تَرَك ذلك وذكره مُنكَّراً ؟

وأجاب{[37]} بأن قال : إنّا بَيَّنَّا أنّه ليس للدَّاعِي أن يَقُول : اللهم أَعْطِني كَذَا وكَذَا ، بل يجب أن يقول : اللَّهُم إن كان كّذَا مَصْلَحَةً لي ، وموافِقاً لقَضَائِك وقَدَرِك ، فأَعْطِني ذَلِك ، فلو قال : اللهم أَعْطِني الحَسَنَة في الدُّنْيَا ، لكان ذلك جَزْماً ، وقد بَيَّنَّا أنّه غير جَائِز ، فلمّا ذكَرَه على سبيل التَّنْكِير ، كان المراد منه حَسَنَة واحدة ، وهي التي تُوَافِقُ قَضَاءَه وقدَرَه ، وكان ذلك أحسن وأقْرَب إلى رعايته الأَدَب .

وقوله : " قِنَا " : ممَّا حُذِفَ منه فاؤُه ولامُه من وَقَى يقي وِقَايةً ، أمَّا حذفُ فائه ، فبالحَمْلِ على المضارع ؛ لوقوع الواوِ بين ياءٍ وكسرةٍ كما حُذِفَت يقي ويَشي مثل بعد ، هذا قول البصريِّين ، وقال الكُوفِيُّون : حُذِفت فرقاً بين اللازم والمُتَعدِّي .

قال محمَّد بن زيد : وهذا خطأ ؛ لأن العرب تقول : وَرِمَ يَرِمُ ، فيحذفون الواو وأمَّا حذفُ لامِهِ ؛ فلأنَّ الأمر جارٍ مَجْرَى المضارع المجزوم ، وجزمِه بحذفِ حرفِ العلةِ ؛ فكذلك الأمرُ منه ، فوزن " قِنَا " حينئذ : عِنَا ، والأصل : اوْقِنَا ، فلمَّا حُذِفَت الفاءُ اسْتُغُنِي عن همزةِ الوصل ، فَحُذِفَتْ ، و " عَذَابَ " مفعولٌ ثانٍ .


[24]:ينظر ديوانه ص 216، ولسان العرب (ثور)، وخزانة الأدب 7/210، ورصف المباني ص 41 والمصنف 1/68، والدر المصون 2/6.
[25]:قرأ بها عيسى بن عمر كما في الشواذ 129، وستأتي في سورة "ص" آية 1،2.
[26]:تقدمت.
[27]:سقط في أ.
[28]:سقط في أ.
[29]:ينظر: المشكل 1/123.
[30]:ينظر: الكتاب 3/324.
[31]:ينظر:الإملاء 1/ 122.
[32]:ينظر: الكشاف 1/335، والمحرر الوجيز 1/397، والبحر المحيط 2/ 389، الدر المصون 2/7. وأما رد الفارسي لكلام أبي إسحاق الزجاج وانتصاره للأخفش فلم أجده في "الحجة" في مظنته، بل إنه لم يحك مذهب كسر الميم.
[33]:ينظر معاني القرآن للزجاج 1/327. وفي ب الذي حكاه الأخفش من كسر الميم- خطأ لا يجوز، ولا تقوله العرب لثقله.
[34]:وهذا الطعن عندي ضعيف، لأن الكسرة حركة فيها بعض الثقل والياء أختها، فإذا اجتمعا، عظم الثقل، ثم يحصل الانتقال منه إلى النطق بالألف في قولك: "الله" وهو في غاية الخفة، فيصير اللسان منتقلا من أثقل الحركات إلى أخف الحركات، والانتقال من الضد إلى الضد دفعة واحدة صعب على اللسان، أما إذا جعلنا الميم مفتوحة، انتقل اللسان من فتحة الميم إلى الألف في قولنا: "الله" فكان النطق بها سهلا، فهذا وجه تقرير قول سيبويه والله أعلم. ينظر الرازي 7/134.
[35]:(10) في أ: وبقوله.
[36]:سقط في أ.
[37]:روي ذلك عن مقاتل، وذكره أبو حيان في البحر المحيط 2/389.