فحينئذ تغيظ عليه وتوعده فقال : { لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا } دون القتل ، { أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ } أي : حجة واضحة على تخلفه ، وهذا من كمال ورعه وإنصافه أنه لم يقسم على مجرد عقوبته بالعذاب أو القتل لأن ذلك لا يكون إلا من ذنب ، وغيبته قد تحتمل أنها لعذر واضح فلذلك استثناه لورعه وفطنته .
وقوله : لأُعَذّبَنّهُ عَذَابا شَدِيدا يقول : فلما أخبر سليمان عن الهدهد أنه لم يحضر وأنه غائب غير شاهد ، أقسم لأُعَذّبَنّه عَذَابا شَدِيدا وكان تعذيبه الطير فيما ذُكر عنه إذا عذّبها أن ينتف ريشها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا الحماني ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، في قوله لأُعَذّبَنّهُ عَذَابا شَدِيدا قال : نتف ريشه .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن عطية ، عن شريك ، عن عطاء ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، في لأُعَذّبَنّهُ عَذَابا شَدِيدا عذابه : نتفه وتشميسه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله لأُعَذّبَنّهُ عَذَابا شَدِيدا قال : نتف ريشه وتشميسه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد لأُعَذّبَنّهُ عَذَابا شَدِيدا قال : نتف ريشه كله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله لأُعَذّبَنّهُ عَذَابا شدِيدا قال : نتف ريش الهدهد كله ، فلا يغفو سنة .
قال : ثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، قال : نتف ريشه .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله لأُعَذّبَنّهُ عَذَابا شَدِيدا يقول : نتف ريشه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، عن يزيد بن رومان أنه حدّث أن عذابه الذي كان يعذّب به الطير نتف جناحه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : قيل لبعض أهل العلم : هذا الذبح ، فما العذاب الشديد ؟ قال : نتف ريشه بتركه بَضعة تنزو .
حدثنا سعيد بن الربيع الرازيّ ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن بشار ، عن ابن عباس ، في قوله لأُعَذّبَنّهُ عَذَابا شَدِيدا قال : نتفه .
حدثني سعيد بن الربيع ، قال : حدثنا سفيان ، عن حسين بن أبي شدّاد ، قال : نتفه وتشميسه .
أو لأذبحنه ، يقول : أو لأقتلنه . كما :
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : أوْ لأَذْبَحَنّه يقول : أو لأقتلنه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عباد بن العوّام ، عن حُصَين ، عن عبد الله بن شدّاد : لأُعَذّبَنّهُ عَذَابا شَدِيدا أَوْ لأَذْبحَنّهُ . . . الاَية ، قال : فتلقاه الطير ، فأخبره ، فقال : ألم يستثن ؟
وقوله : أوْ لَيَأْتِيَنّي بسُلْطانٍ مُبِينٍ يقول : أو ليأتيني بحجة تبين لسامعها صحتها وحقيقتها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ بن الحسين الأزديّ ، قال : حدثنا المعافىَ بن عمران ، عن سفيان ، عن عمار الدّهْني ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، قال : كل سلطان في القرآن فهو حجة .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله أوْلَيَأْتِيَنّي بِسُلْطانٍ مَبِينٍ يقول : ببينة أعذره بها ، وهو مثل قوله : الّذِينَ يُجادِلُونَ في آياتِ اللّهِ بغَيْرِ سُلْطانٍ يقول : بغير بيّنة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن رجل ، عن عكرِمة ، قال : كل شيء في القرآن سلطان ، فهو حجة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا عبد الله ، بن يزيد ، عن قَباث بن رَزِين ، أنه سمع عكرِمة يقول : سمعت ابن عباس يقول : كلّ سلطان في القرآن فهو حجة ، كان لهدهد سلطان .
حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة أوْلَيَأْتِيَنّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ قال : بعذر بين .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه أوْلَيأْتِيَنّي بِسُلْطانٍ مُبِينِ : أي بحجة عذر له في غيبته .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله : أوْليَأْتِيَنّي بِسُلْطانٍ مُبِينِ يقول : ببينة ، وهو قول الله الّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللّهِ بغَيْرِ سُلْطانٍ بغير بينة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله أوْلَيَأْتِيَنّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ قال : بعذر أعذره فيه .
{ لأعذبنه عذابا شديدا } كنتف ريشه وإلقائه في الشمس ، أو حيث النمل يأكله أو جعله مع ضده في قفص . { أو لأذبحنه } ليعتبر به أبناء جنسه . { أو ليأتيني بسلطان مبين } بحجة تبين عذره ، والحلف في الحقيقة على أحد الأولين بتقدير عدم الثالث لكن لما اقتضى ذلك وقوع أحد الأمور الثلاثة ثلث المحلوف عليه بعطفه عليهما ، وقرأ ابن كثير أو " ليأتينني " بنونين الأولى مفتوحة مشددة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لأعذبنه عذابا شديدا}... {أو لأذبحنه} يعني: لأقتلنه، {أو ليأتيني بسلطان مبين}، يعني: حجة بينة أعذره بها.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"لأُعَذّبَنّهُ عَذَابا شَدِيدا" يقول: فلما أخبر سليمان عن الهدهد أنه لم يحضر وأنه غائب غير شاهد، أقسم "لأُعَذّبَنّه عَذَابا شَدِيدا"
[عن] الضحاك في قوله: "أوْ لأَذْبَحَنّه "يقول: أو لأقتلنه...
وقوله: "أوْ لَيَأْتِيَنّي بسُلْطانٍ مُبِينٍ" يقول: أو ليأتيني بحجة تبين لسامعها صحتها وحقيقتها... عن قَتادة "أوْلَيَأْتِيَنّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ" قال: بعذر بيّن...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
في هذه الآية دليل على مقدار الجُرْمِ، وأنه لا عِبْرَةَ بصغر الجثة وعِظَمِها...
وتعيين ذلك العذاب الشديدِ غيرُ ممكنٍ قطعاً، إلا تجويزاً واحتمالاً.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: من أين حل له تعذيب الهدهد؟ قلت: يجوز أن يبيح له الله ذلك، لما رأى فيه من المصلحة والمنفعة؛ كما أباح ذبح البهائم والطيور للأكل وغيره من المنافع؛ وإذا سخر له الطير ولم يتم ما سخر له من أجله إلا بالتأديب والسياسة، جاز أن يباح له ما يستصلح به.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الطَّيْرَ كَانُوا مُكَلَّفِينَ؛ إذْ لَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ فِعْلٍ إلَّا مَنْ كُلِّفَ ذَلِكَ الْفِعْلَ...
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَانَ الْهُدْهُدُ صَغِيرَ الْجرْمِ، وَوُعِدَ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ لِعَظِيمِ الْجُرْمِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَدَّ عَلَى قَدْرِ الذَّنْبِ، لَا عَلَى قَدْرِ الْجَسَدِ..
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{لأعذبنه} أي بسبب غيبته فيما لم آذن فيه {عذاباً شديداً} أي مع إبقاء روحه تأديباً له وردعاً لأمثاله. {أو لأذبحنه} أي تأديباً لغيره، {أو ليأتيني} أي ليكونن أحد هذه الثلاثة الأشياء، أو تكون {أو} الثانية بمعنى إلا أن فيكون المعنى: ليكونن أحد الأمرين: التعذيب أو الذبح: إلا أن يأتيني {بسلطان مبين} أي حجة واضحة في عذره، فكأنه قال: والله ليقيمن عذره أو لأفعلن معه أحد الأمرين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويتضح أنه غائب، ويعلم الجميع من سؤال الملك عنه أنه غائب بغير إذن! وحينئذ يتعين أن يؤخذ الأمر بالحزم، كي لا تكون فوضى. فالأمر بعد سؤال الملك هذا السؤال لم يعد سرا. وإذا لم يؤخذ بالحزم كان سابقة سيئة لبقية الجند. ومن ثم نجد سليمان الملك الحازم يتهدد الجندي الغائب المخالف: (لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه).. ولكن سليمان ليس ملكا جبارا في الأرض، إنما هو نبي. وهو لم يسمع بعد حجة الهدهد الغائب، فلا ينبغي أن يقضي في شأنه قضاء نهائيا قبل أن يسمع منه، ويتبين عذره.. ومن ثم تبرز سمة النبي العادل: أو ليأتيني بسلطان مبين. أي حجة قوية توضح عذره، وتنفي المؤاخذة عنه.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
فإذا كان قد غاب مستهينا مستهترا فإني أعذبه عذابا شديدا، وإن كان متمردا فإني أذبحه، وأكد العذاب والتذبيح بما يشبه القسم وباللام وبنون التوكيد الثقيلة، وإن كان غائبا لحاجة، فليأتيني بسلطان مبين أي بحجة بينة مبينة لأمر جديد.