فإن كنتم مؤمنين فامتثلوا لأمر اللّه ، ولا تخشوهم فتتركوا أمر اللّه ، ثم أمر بقتالهم وذكر ما يترتب على قتالهم من الفوائد ، وكل هذا حث وإنهاض للمؤمنين على قتالهم ، فقال : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ْ } بالقتل { وَيُخْزِهِمْ ْ } إذا نصركم اللّه عليهم ، وهم الأعداء الذين يطلب خزيهم ويحرص عليه ، { وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ْ } هذا وعد من اللّه وبشارة قد أنجزها . { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ
ثم أمرهم - سبحانه - أمراً صريحاً قاطعاً بمقاتلة المشركين . ورتب على هذه المقاتلة خمسة أنواع من الفوائد فقال : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } .
أى : أقدموا على قتالهم وباشروهم بشجاعة وإخلاص كما أمركم ربكم ، فإنكم متى فعلتم ذلك { يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } بسبب ما تنزلونه بهم من قتل وأسر وجراحات بليغة ، وإغتنام للأموال .
وأسند - سبحانه - التعذيب إليه ، لأنه أمر زائد على أسبابه من الطعن والضرب وما يفضيان إليه من القتل والجرح . . والأسر . تلك هي الفائدة الأولى من قتالهم .
أما الفائدتان الثانية والثالثة فتتجليان في قوله . تعالى . { وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ } .
أى : ويخزهم بسبب ما ينزل بهم من هزيمة وهوان وهم يتفاخرون بقواتهم وبأسهم ، وينصركم عليهم بأن يجعل كلمتكم هي العليا وكلمتهم هي السفلى .
قال الإِمام الرازى : فإن قالوا : لما كان حصول ذلك الخزى مستلزما لحصول هذا النصر ، كان إفراده بالذكر عبثاً ؟
فتقول : ليس الأمر كذلك ، لأنه من المحتمل أن يحصل الخزى لهم من جهة المؤمنين ، إلا أن المؤمنين قد تحصل لهم آفة لسبب آخر ، فلما قال : { وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ } دل على أنهم ينتفعون بهذا النصر والفتح والظفر .
والفائدة الرابعة بينها - سبحانه - في قوله { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } .
أى : أنكم بقتالكم لهم وانتصاركم عليهم ، تشفون قلوب جماعة من المؤمنين من غيظها المكظوم ، لأن هذه الجماعة قد لقيت ما لقيت من أذى المشركين وظلمهم وغدرهم . . فكان انتصاركم عليهم شفاء لصدورهم .
قالوا : المراد بهؤلاء القوم بنو خزاعة الذين غدر بهم بنو بكر بمساعدة قريش .
والأولى أن تكون الجملة الكريمة عامة في كل من آذاهم المشركون .
وقوله { قاتلوهم يعذبهم الله } الآية ، قررت الآيات قبلها أفعال الكفرة ثم حَّضض على القتال مقترناً بذنوبهم لتنبعث الحمية مع ذلك ، ثم جزم الأمر بقتالهم في هذه الآية مقترناً بوعد وكيد يتضمن النصرة عليهم والظفر بهم ، وقوله { يعذبهم } معناه بالقتل والأسر وذلك كله عذاب ، { ويخزهم } معناه يذلهم على ذنوبهم يقال خزي الرجل خزياً إذا ذل من حيث وقع في عار وأخزاه غيره وخزي خزاية إذا استحيا ، وأما قوله { ويشف صدور قوم مؤمنين } فإن الكلام يحتمل أن يريد جماعة المؤمنين لأن كل ما يهد من الكفر هو شفاء من هم صدور المؤمنين ، ويحتمل أن يريد تخصيص قوم من المؤمنين ، وروي أنهم خزاعة قاله مجاهد والسدي ووجه تخصيصهم أنهم الذين نقض فيهم العهد ونالتهم الحرب وكان يومئذ في خزاعة مؤمنون كثير ، ويقتضي ذلك قول الخزاعي عن المستنصر بالنبي صى الله علي وسلم : [ الرجز ]
ثُمّتَ أسلمنا فلم تنزع يدا*** وفي آخر الرجز :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** وقتلونا ركّعاً وسجّداً{[5550]}
استئناف ابتدائي للعود من غرض التحذير ، إلى صريح الأمر بقتالهم الذي في قوله : { فقاتلوا أئمة الكفر } [ التوبة : 12 ] وشأن مثل هذا العود في الكلام أن يكون باستئناف كما وقع هنا .
وجُزم { يعذبهم } وما عطف عليه في جواب الأمر . وفي جعله جواباً وجزاءً أنّ الله ضمن للمسلمين من تلك المقاتلة خمس فوائد تنحلّ إلى اثنتي عشرة إذ تشتمل كل فائدة منها على كرامة للمؤمنين وإهانة لهؤلاء المشركين وروعي في كلّ فائدة منها الغرض الأهمّ فصرح به وجعل ما عداه حاصلاً بطريق الكناية .
الفائدة الأولى تعذيب المشركين بأيدي المسلمين وهذه إهانة للمشركين وكرامة للمسلمين .
الثانية : خزي المشركين وهو يستلزم عِزّة المسلمين .
الثالثة : نصر المسلمين ، وهذه كرامة صريحة لهم وتستلزم هزيمة المشركين وهي إهانة لهم .
الرابعة : شفاء صدور فريق من المؤمنين ، وهذه صريحة في شفاء صدور طائفة من المؤمنين وهم خزاعة ، وتستلزم شفاء صدور المؤمنين كلّهم ، وتستلزم حرج صدور أعدائهم فهذه ثلاث فوائد في فائدة .
الخامسة : إذهاب غيظ قلوب فريق من المؤمنين أو المؤمنين كلّهم ، وهذه تستلزم ذهاب غيظ بقية المؤمنين الذي تحملوه من إغاظة أحلامهم وتستلزم غيظ قلوب أعدائهم ، فهذه ثلاث فوائد في فائدة .
والتعذيب تعذيب القتل والجراحة . وأسند التعذيب إلى الله وجعلت أيدي المسلمين آلة له تشريفاً للمسلمين .
والإخزاء : الإذلال ، وتقدّم في البقرة . وهو هنا الإذلال بالأسر .
والنصرُ حصول عاقبة القتال المرجوّة . وتقدّم في أول البقرة .
والشفاء : زوال المرض ومعالجة زواله . أطلق هنا استعارة لإزالة ما في النفوس من تعب الغيظ والحقد ، كما استعير ضدّه وهو المرض لما في النفوس من الخواطر الفاسدة في قوله تعالى : { في قلوبهم مرض } [ البقرة : 10 ] قال قيس بن زهير :
شَفيت النفسَ من حَمَل بننِ يَدّر *** وسيفي من حُذيفة قد شَفاني
وإضافة ال { صدور } إلى { قوم مؤمنين } دون ضمير المخاطبين يدلّ على أنّ الذين يشفي الله صدورهم بنصر المؤمنين طائفةٌ من المؤمنين المخاطبين بالقتال ، وهم أقوام كانت في قلوبهم إحن على بعض المشركين الذين آذوهم وأعانوا عليهم ، ولكنّهم كانوا محافظين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فلا يستطيعون مجازاتهم على سوء صنيعهم ، وكانوا يودّون أن يؤذَن لهم بقتالهم ، فلمّا أمر الله بنقض عهود المشركين سُرّوا بذلك وفرحوا ، فهؤلاء فريق تغاير حالته حالة الفريق المخاطبين بالتحريض على القتال والتحذيرِ من التهاون فيه . فعن مجاهد ، والسدّي أنّ القوم المؤمنين هم خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم وكانت نفوس خزاعة إحن على بني بكر بن كنانة ، الذين اعتدوا عليهم بالقتال ، وفي ذكر هذا الفريق زيادة تحريض على القتال بزيادة ذكر فوائده ، وبمقارنة حال الراغبين فيه بحال المحرضين عليه ، الملحوح عليهم الأمر بالقتال .