اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَٰتِلُوهُمۡ يُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ بِأَيۡدِيكُمۡ وَيُخۡزِهِمۡ وَيَنصُرۡكُمۡ عَلَيۡهِمۡ وَيَشۡفِ صُدُورَ قَوۡمٖ مُّؤۡمِنِينَ} (14)

قوله تعالى : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } الآية .

اعلم أنَّه تعالى لمَّا قال في الآية الأولى : " ألاَ تُقاتِلُونَ " وذكر الأشياء التي توجبُ إقدامهم على القتالِ ، ذكر في هذه الآية خمسة أنواع من الفوائد ، كلُّ واحد منها يعظم موقعه إذا انفرد فكيف إذا اجتمعت ؟ .

أولها : قوله : { يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } وسمى ذلك عذاباً ؛ لأنَّ اللهَ تعالى يعذب الكافرين ، إن شاءَ في الدُّنيا ، وإن شاء في الآخرة ، والمراد من هذا العذاب القتل تارةً ، والأسر أخرى ، واغتنام الأموال ثالثاً .

فإن قيل : أليس قد قال تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] فكيف قال ههنا : { يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } ؟ .

فالجواب : المراد من قوله { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] عذاب الاستئصال والمراد من قوله : { يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } عذاب القتل والحرب ، والفرق بين البابين : أنَّ عذابَ الاستئصال قد يتعدَّى إلى غير المذنب ، وإن كان في حقه سبباً لمزيد الثواب ، أمَّا عذابُ القتل ، فالظَّاهر أنه مقصورٌ على المُذْنب .

فصل

احتج أهل السنة على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى بقوله : { يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } فإنَّ المراد من هذا العذاب ، القتل والأسر ، وظاهر هذا النص يدلُّ على أنَّ ذلك القتل والأسر فعل الله تعالى ، يدخله في الوجود على أيدي العباد .

وأجاب الجبائيُّ عنه فقال : لو جاز أن يقال إنَّهُ يعذب الكُفَّار بأيدي المؤمنين لجاز أن يقال : إنه يعذب المؤمنين بأيدي الكُفار ، ولجاز أن يقال : إنَّهُ يكذب الأنبياء على ألسنة الكُفَّار ، ويلعن المؤمنين على ألسنتهم ، لأنَّه تعالى خالق لذلك ، فلمَّا لم يَجُزْ ذلك عند المجبرة ، علم أنَّه تعالى لم يخلق أعمال العباد ، وإنَّما نسب ما ذكر إلى نفسه على سبيل التوسع من حيثُ إنَّهُ حصل بأمره وألطافه ، كما يضيف جميع الطاعات إليه بهذا التفسير .

وأجيب : بأنَّ الذي ألزمتموه علينا فالأمر كذلك ، إلاَّ أنا لا نقوله باللِّسانِ ، كما نعلم أنه تعالى هو الخالقُ لجميع الأجسام ، ثم إنا لا نقول : يا خالق الأبوال والعذرات ، ويا مكون الخنافس ، والديدان ، فكذا ههنا ، وأيضاً : أنا توافقنا على أن الزِّنا واللِّواط وسائر القبائح ، إنما حصلت بتقدير الله وتيسيره ، ثمَّ لا يجوز أن يقال : يا مسهل الزنا واللواط ، ويا دافع الموانع عنها .

وأما قوله : المراد إذن الإقدارُ ، فهذا صرف للكلام عن ظاهره ، وذلك لا يجوزُ إلاَّ لدليل قاهر ، والدَّليل القاهر من جانبنا ، فإنَّ الفعل لا يصدر إلاَّ عند الدَّاعية الحاصلة ، وحصول تلك الدَّاعية ليس إلاَّ من الله تعالى .

وثانيها : قوله : " ويُخْزِهِمْ " أي : يذلهم بالأسر والقهر ، قال الواحديُّ " إنهم بعد قتلكم إيَّاهم " وهذا يدلُّ على أنَّ الإخزاء وقع بهم في الآخرة ، هذا ضعيف لما تقدَّم من أنَّ الإخزاء حاصلٌ في الدنيا .

وثالثها : قوله : " وينصُرْكُم عليْهِمْ " أي : لمَّا حصل لهم الخزي ، بسبب كونهم مقهورين فقد حصل النصر للمسلمين [ بسبب ] كونهم قاهرين .

فإن قيل : لمَّا كان حصُولُ الخزي مستلزماً لحصول النصر ، كان إفراده بالذِّكرِ عبثاً .

فالجوابُ : ليس الأمر كذلك ؛ لأنه يحتمل أن يحصل الخزي لهم من جهة المؤمنين ، إلاَّ أنَّ المؤمنين يحصل لهم آفة بسبب آخر ، فلمَّا قال : " وينصُرْكم عليْهِمْ " دلَّ على أنهم ينتفعون بهذا النصر والفتح والظفر .

ورابعها : قوله { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } . قرأ الجمهور بياء الغيبة ، رَدّاً على اسم الله تعالى ، وقرأ زيد بن{[17642]} علي " نشف " بالنُّون ، وهو التفات حسن ، وقال : " قَوْمٍ مُؤمنينَ " شهادة للمخاطبين بالإيمان ، فهو من باب الالتفات ، وإقامة الظَّاهر مقام المضمر ، حيث لم يقل " صدوركم " .

والمعنى : ويبرىء داء قلوب قَوْمٍ مُؤمنين مِمَّا كانُوا ينالُونه من الأذى منهم .

ومعلوم أنَّ من طال تأذِّيه من خصمه ، ثم مكَّنه الله منه على أحسنِ الوجوه ، فإنَّهُ يعظم سروره به ، ويصير ذلك سبباً لقوة النفس ، وثبات العزيمة .

وقال مجاهدٌ والسديُّ " أراد صدور خزاعة حلفاء رسول الله ، حيث أعانت قريش بني بكر عليهم حتى نكّلوا بهم ، فشفى الله صدورهم من بني بكر بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم " {[17643]} .


[17642]:ينظر: الدر المصون 3/451.
[17643]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/332) عن السدي وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/389) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد. وذكره أيضا (3/389) عن قتادة وعزاه إلى أبي الشيخ. وأخرجه الطبري (6/332) عن مجاهد مثله وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/389) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وذكره البغوي في "تفسيره" (2/273) عن مجاهد والسدي.