بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{قَٰتِلُوهُمۡ يُعَذِّبۡهُمُ ٱللَّهُ بِأَيۡدِيكُمۡ وَيُخۡزِهِمۡ وَيَنصُرۡكُمۡ عَلَيۡهِمۡ وَيَشۡفِ صُدُورَ قَوۡمٖ مُّؤۡمِنِينَ} (14)

ثم وعد لهم النصرة ، فقال تعالى : { قاتلوهم يُعَذّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ } ، يعني : بالقتل والهزيمة ، { وَيُخْزِهِمْ } ؛ يعني : ويذلهم بالهزيمة ، { وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ } ؛ يعني : على قريش ، { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } ؛ يعني : ويفرح قلوب بني خزاعة . وفي الآية دلالة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن الله تعالى قد وعد المؤمنين على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أن يعذب الكفار بأيديهم ويخزهم وينصركم ، فأنجز وعده ولم يظهر خلاف ما وعد لهم .

قال الفقيه : حدثنا أبي قال : حدثنا أحمد بن يحيى السمرقندي قال : حدثنا محمد بن الحسن الجوباري قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن عكرمة قال : لما واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة ، وقد كانت بنو خزاعة حُلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية ، وكانت بنو بكر حلفاء قريش ؛ فدخلت بنو خزاعة في صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودخلت بنو بكر في صلح قريش ؛ ثم كان بين بني بكر وبين بني خزاعة فقال : فأمدت قريش بني بكر بسلاح وطعام وظلوا عليهم ؛ ثم إن قريشاً خافوا أن يكونوا قد نقضوا العهد وغدروا ، فقالوا لأبي سفيان : اذهب إلى محمد وجدد العهد ، فليس في قوم أطعموا قوماً ما يكون فيه نقض العهد ، يعني : الذي أطعم الطعام لا ينقض عليه العهد .

فانطلق أبو سفيان في ذلك ، فلما قصد أبو سفيان المدينة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قَدْ جَاءَكُمْ أَبُو سُفْيَانَ وَسَيَرْجِعُ رَاضِياً بِغَيْرِ قَضَاءِ حَاجَتِهِ » . فلما قدم أبو سفيان المدينة ، أتى أبا بكر فقال : يا أبا بكر ، جدد الحلف وأصلح بين الناس ؛ فقال له أبو بكر : الأمر إلى الله وإلى رسوله . ثم أتى عمر فقال له نحو ما قال لأبي بكر ، فقال له عمر : نقضتم ؟ فما كان منه جديداً فأبلاه الله ، وما كان منه متيناً أو شديداً فقطعه الله تعالى . فقال له أبو سفيان : ما رأيت كاليوم شاهد عشيرة مثلك ، يعني : شاهداً على هلاك قومه .

ثم أتى فاطمة رضي الله عنها فقال لها : يا فاطمة ، هل لك في أمر تسودين فيه نساء قريش ؟ ثم قال لها نحو ما قال لأبي بكر وعمر ، فقالت : الأمر إلى الله وإلى رسوله . ثم أتى علياً فذكر له نحواً من ذلك ، فقال له عليّ : ما رأيت كاليوم رجلاً أضل منك أنت سيد الناس ، فجدِّد وأصلح بين الناس .

فضرب أبو سفيان يمينه على يساره وقال : أجرت الناس بعضهم من بعض ثم رجع إلى قومه ، فأخبرهم بما صنع فقالوا : ما رأينا كاليوم وافد قوم ، والله يا أبا سفيان ما جئنا بصلح فنأمن ولا بحرب ؛ فقدم وافد بني خزاعة على النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبره بما صنع القوم ودعاه إلى النصرة ، فقال في ذلك شعراً :

اللَّهُمَّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدا . . . حلْفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الأَتْلَدَا

إنَّ قُرَيْشاً أَخْلَفُوكَ المَوْعِدَا . . . وَنَقَضُوا ميثَاقَكَ المُؤَكَّدَا

وَزَعَمُوا أَنْ لَسْتَ تَدْعُو أَحَدَا . . . وَهُمْ أَذَلُّ وَأَقَلُّ عَدَدا

وَهُمْ أَتُونَا بِالوَتِينِ هجدَا . . . نَتْلُو الكِتَابَ رُكَّعاً وَسُجَّدَا

ثَمَّةَ أَسْلَمْنَا وَلَمْ نَنْزعْ بُدَّا . . . فَانْصُرْ رَسُولَ الله نَصْراً أَعْتَدَا

وَابْعَثْ جُنُودَ الله تَأْتِي مَدَدَا . . . فِيهِمْ رَسُولُ الله قَدْ تَجَرَّدَا

فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرحيل وروي في خبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « والله ، لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً وَالله لأَغْزُوَنَّ قُرَيْشاً » . وقال : « والله لا نُصِرْتُ ، إِنْ لَمْ أَنْصُرْكُمْ » . فخرج إلى مكة ومعه عشرة آلاف رجل ، ثم رجعنا إلى حديث عكرمة قال : فتجهزوا . وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ، حتى نزلوا برمال الظهران ، فخرج أبو سفيان من مكة ، فرأى النيران والعسكر فقال : ما هذه ؟ فقيل : هؤلاء بنو تميم . فقال : والله هؤلاء أكثر من أهل منًى . فلما علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تنكَّر وأقبل يقول : دلوني على العباس ؛ فأتاه فانطلق به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى أدخله عليه ، فقال له : رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يَا أَبَا سُفْيَانَ ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ » . فقال : كيف أصنع بالَّلات والعزى ؟

قال حماد بن زيد : حدثني أبو الخليل ، عن سعيد بن جبير أن عمر رضي الله عنه قال وهو خارج من القبة ، وفي عنقه السيف : أخر عليهما ؛ أما والله لو كنت خارجاً عن القبة ما سألت عنهما أبداً ، قال : من هذا ؟ فقالوا : عمر بن الخطاب . فأسلم أبو سفيان ، فانطلق به العباس إلى منزله ؛ فلما أصبح ، رأى الناس قد تحركوا للوضوء والصلاة ، فقال أبو سفيان للعباس : يا أبا الفضل أو أمروا فيَّ بشيء ؟ قال : لا ، ولكنهم قاموا إلى الصلاة فتوضأ . ثم انطلق به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة قاموا ، فلما كبر كبروا ، فلما ركع ركعوا ، فلما سجد سجدوا . فقال أبو سفيان : يا أبا الفضل ، ما رأيت كاليوم طاعة قوم ، لا فارس الأكارم ، ولا الروم ذات القرون .

قال حماد بن زيد ، فزعم يزيد بن حازم ، عن عكرمة أنه قال : يا أبا الفضل ، أصبح ابن أخيك عظيم الملك ، فقال له العباس : إنه ليس بملك ولكنه نبوة . قال : هو ذاك . وقال حماد : قال أيوب ثم قال : واصباح قريش وقال العباس : يا رسول الله ، لو أذنت لي فأتيتهم ودعوتهم ، وأمنتهم وجعلت لأبي سفيان شيئاً يذكر به . قال : « فَافْعَلْ » فركب العباس بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل مكة فنادى : يا أهل مكة أسلموا تسلموا ، فقد استبطأتم بأشهب باذل ؛ قد جاءكم الزبير من أعلى مكة ، وجاء خالد من أسفل مكة . وخالد وما خالد والزبير وما الزبير . ثم قال : من أسلم فهو آمن ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظهر عليهم ، فآمن الناس جميعاً إلا بني بكر من خزاعة ، فقاتلتهم خزاعة إلى نصف النهار ، فأنزل الله تعالى : { قاتلوهم يُعَذّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } وهم خزاعة .