97- وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بمواقعها إلى مقاصدكم ، وأنتم سائرون في ظلمات الليل بالبر والبحر ، إنا قد بيّنا دلائل رحمتنا وقدرتنا لقوم ينتفعون بالعلم{[63]} .
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } حين تشتبه عليكم المسالك ، ويتحير في سيره السالك ، فجعل الله النجوم هداية للخلق إلى السبل ، التي يحتاجون إلى سلوكها لمصالحهم ، وتجاراتهم ، وأسفارهم .
منها : نجوم لا تزال ترى ، ولا تسير عن محلها ، ومنها : ما هو مستمر السير ، يعرف سيرَه أهل المعرفة بذلك ، ويعرفون به الجهات والأوقات .
ودلت هذه الآية ونحوها ، على مشروعية تعلم سير الكواكب ومحالّها الذي يسمى علم التسيير ، فإنه لا تتم الهداية ولا تمكن إلا بذلك .
{ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ } أي بيناها ، ووضحناها ، وميزنا كل جنس ونوع منها عن الآخر ، بحيث صارت آيات الله بادية ظاهرة { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي : لأهل العلم والمعرفة ، فإنهم الذين يوجه إليهم الخطاب ، ويطلب منهم الجواب ، بخلاف أهل الجهل والجفاء ، المعرضين عن آيات الله ، وعن العلم الذي جاءت به الرسل ، فإن البيان لا يفيدهم شيئا ، والتفصيل لا يزيل عنهم ملتبسا ، والإيضاح لا يكشف لهم مشكلا .
ثم ساق - سبحانه - نوعا ثالثا من الدلائل على كمال قدرته ورحمته وحكمته فقال - تعالى - { وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر } أى : وهو - سبحانه - وحده الذى أنشأ لكم هذه الكواكب النيرة لتهتدوا بها إلى الطرق والمسالك خلال سيركم فى ظلمات الليل بالبر والبحر حيث لا ترون شمسا ولا قمرا .
وجملة { لِتَهْتَدُواْ بِهَا } بدل اشتمال من ضمير { لَكُمُ } بإعادة العامل ، فكأنه قيل : جعل النجوم لاهتدائكم .
{ قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أى : قد وضحنا وبينا الآيات الدالة على قدرته - تعالى - ورحمته بعباده ، لقوم يعلمون وجه الاستدلال بها فيعلمون بموجب علمهم ، ويزدادون إيمانا على إيمانهم .
فالجملة الكريمة المستأنفة للتسجيل والتبليغ وقطع معذرة من لم يؤمنوا .
هذه المخاطبة تعم المؤمنين والكافرين ، فالحجة بها على الكافرين قائمة والعبرة بها للمؤمنين ممكنة متعرضة ، و { جعل } هنا بمعنى خلق لدخولها على مفعول واحد ، وقد يمكن أن تكون بمعنى صير ويقدر المفعول الثاني في { لتهتدوا } لأنه يقدر وهو الذي جعل لكم النجوم هداية ، و { في ظلمات } هي ها هنا على حقيقتها في ظلمة الليل بقرينة النجوم التي لا تكون إلا بالليل ، ويصح أن تكون «الظلمات » ها هنا الشدائد في المواضع التي يتفق أن يهتدى فيها بالشمس ، وذكر الله تعالى النجوم في ثلاث منافع وهي قوله : { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح }{[5029]} وقوله : { وجعلناها رجوماً للشياطين } [ المُلك : 5 ] وقوله : { وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر } فالواجب أن يعتقد أن ما عدا هذه الوجوه من قول أهل التأثير باطل واختلاق على الله وكفر به ، و { فصلنا } معناه بينا وقسمنا و { الآيات } الدلائل و { لقوم يعلمون } تخصيص لهم بالذكر وتنبيه منهم لتحصلهم الآية المفصلة المنصوبة ، وغيرهم تمر عليهم الآيات وهم معرضون عنها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والله الذي جعل لكم أيها الناس النجوم أدلة في البرّ والبحر إذا ضللتم الطريق، أو تحيرتم فلم تهتدوا فيها ليلا تستدلون بها على المحجة، فتهتدون بها إلى الطريق والمحجة فتسلكونه، وتنجون بها من ظلمات ذلك، كما قال جلّ ثناؤه:"وَعَلاماتٍ وَبالنّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ": أي من ضلال الطريق في البرّ والبحر، وعنى بالظلمات: ظلمة الليل، وظلمة الخطأ والضلال، وظلمة الأرض أو الماء. وقوله: "قَدْ فَصّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ "يقول: قد ميزنا الأدلة وفرّقنا الحجج فيكم وبيّنّاها أيها لناس ليتدبرها أولو العلم بالله منكم ويفهمها أولو الحجاج منكم، فينيبوا من جهلهم الذي هم عليه مقيمون، وينزجروا عن خطأ فعلهم الذي هم عليه ثابتون، ولا يتمادوا عناداً للّه -مع علمهم بأن ما هم عليه مقيمون خطأ- في غيهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يذكر في قوله تعالى: {قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر} عظيم ما أنعم عليهم بما جعل لهم في السماء نجوما ليهتدوا بها للطرق والمسالك في البحار والبراري عند اشتباهها عليهم. وفيه دليل وحدانية الرب وتدبيره وحكمته لأنه جعل في السماء أدلة يهتدون بها، ويستدلون على معرفة الطرق مع بعد ما بينهما من المسافة، وتسوية أسباب الأرض بأسباب السماء، وتعلق منافع بعضها ببعض ليعلموا أنه كان بواحد مدبر عليم حكيم؛ إذ لو كان بعدد أو بمن لا تدبير له ولا حكمة لا يحتمل ذلك، ولم يتسق ما ذكرنا. دل أنه بالواحد العليم الحكيم مع علمهم أن الأصنام التي يعبدونها، ويشركونها في عبادته لا تقدر على ذلك، لكنهم يعبدونها، ويشركونها في ألوهيته سفها منهم وعنادا، وبالله العصمة والتوفيق... {قد فصلنا الآيات} قيل: صرفنا الآيات أي صرفنا كل آية إلى موضعها الذي يكون لهم دليلا عند الحاجة إليها.
وقيل: {قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون} أي لقوم ينتفعون بعلمهم؛ فإذا انتفعوا بها صارت الآيات لهم لأن من انتفع بشيء يصير ذلك له. لذلك ذكر {لقوم يعلمون} لأنهم إذا [لم ينتفعوا بها] لم تصر الآيات لهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وليس في قوله أنه خلقها ليهتدوا بها في ظلمات البر والبحر ما يدل على أنه لم يخلقها لغير ذلك. قال البلخي: بل يشهد أنه خلقها لأمور جليلة عظيمة. ومن فكر في صغر الصغير منها وكبر الكبير، واختلاف مواقعها ومجاريها وسيرها، وظهور منافع الشمس والقمر في نشوء الحيوان والنبات علم أن الأمر كذلك...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فِي ظلمات البر والبحر} في ظلمات الليل بالبر والبحر، وأضافها إليهما لملابستها لهما، أو شبه مشتبهات الطرق بالظلمات.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه المخاطبة تعم المؤمنين والكافرين، فالحجة بها على الكافرين قائمة والعبرة بها للمؤمنين ممكنة متعرضة، و {جعل} هنا بمعنى خلق لدخولها على مفعول واحد، وقد يمكن أن تكون بمعنى صير، ويقدر المفعول الثاني في {لتهتدوا} لأنه يقدر وهو الذي جعل لكم النجوم هداية، و {في ظلمات} هي ها هنا على حقيقتها في ظلمة الليل بقرينة النجوم التي لا تكون إلا بالليل، ويصح أن تكون «الظلمات» ها هنا الشدائد في المواضع التي يتفق أن يهتدى فيها بالشمس، وذكر الله تعالى النجوم في ثلاث منافع وهي قوله: {ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح} وقوله: {وجعلناها رجوماً للشياطين} [المُلك: 5] وقوله: {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر} فالواجب أن يعتقد أن ما عدا هذه الوجوه من قول أهل التأثير باطل واختلاق على الله وكفر به. و {فصلنا} معناه: بيّنا وقسمنا و {الآيات}: الدلائل و {لقوم يعلمون} تخصيص لهم بالذكر وتنبيه منهم لتحصلهم الآية المفصلة المنصوبة، وغيرهم تمر عليهم الآيات وهم معرضون عنها.
قوله تعالى: {وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون}
هذا هو النوع الثالث من الدلائل الدالة على كمال القدرة والرحمة والحكمة، وهو أنه تعالى خلق هذه النجوم لمنافع العباد... ثم إنه تعالى لما ذكر الاستدلال بأحوال هذه النجوم. قال: {قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون} وفيه وجوه:
الأول: المراد أن هذه النجوم كما يمكن أن يستدل بها على الطرقات في ظلمات البر والبحر، فكذلك يمكن أن يستدل بها على معرفة الصانع الحكيم، وكمال قدرته وعلمه.
الثاني: أن يكون المراد من العلم ههنا العقل فقوله: {قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون} نظير قوله تعالى في سورة البقرة: {إن في خلق السماوات والأرض} إلى قوله: {لآيات لقوم يعقلون} وفي آل عمران في قوله: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب}.
والثالث: أن يكون المراد من قوله: {لقوم يعلمون} لقوم يتفكرون ويتأملون ويستدلون بالمحسوس على المعقول وينتقلون من الشاهد إلى الغائب.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر} هذا نوع آخر من آيات التكوين العلوية مقرون بفائدته في تعليل جعله، والمراد بالنجوم ما عدا الشمس والقمر من نيرات السماء، لأن ذلك هو المتبادر من السياق والمعهود في الاهتداء، ذكرنا تعالى ببعض فضله في تسخير هذه النيرات التي ترى صغيرة بعد التذكير ببعض فضله في النيرين الأكبرين في أعين الناس، وقيل إنهما يدخلان في عموم النجوم لأن القمر مما يهتدى به في الظلمات، فإذا استثنيت بعض ليالي الشهر قلنا وأي نجم يهتدي به في جميع الأوقات؟ وكانت العرب في بدايتها تؤقت بطلوع النجم لأنهم ما كانوا يعرفون الحساب، وإنما يحفظون أوقات السنة بالأنواء، وهي نجوم منازل القمر في مطالعها ومغاربها – وسيأتي بيان ذلك في موضع آخر – وقد سموا الوقت الذي يجب الأداء فيه « نجما» تجوزا لأن الاستحقاق لا يعرف إلا به، ثم سموا المال الذي يؤدى نجما، وقالوا: نجّمه إذا جعله أقساطا. وفي الظلمات هنا وجهان؛ ظلمات الليل بالبر والبحر أضافهما إليها لملابستها لهما – أو مشتبهات الطرق شبهها بالظلمات، قاله في الكشاف. وكان اهتداؤهم بالنجوم قسمان أحدهما معرفة الوقت من الليل أو من السنة، والثاني معرفة المسالك والطرق والجهات. وقد سبق ذكر الظلمات وبيان أنواعها في البر والبحر في تفسير الآية 63 من هذه السورة.
وهاهنا يذكر المفسرون النهي عن علم النجوم الذي يزعم أهله أنهم يعرفون به ما سيكون في المستقبل من الأحداث قبل حدوثها. ومنهم من بالغ فأطلق النهي عن علم النجوم إلا القدر الذي يهتدي به في الظلمات ويعرف به الحساب، ويحصل به الاعتبار بزينة السماء، لأن هذه الأشياء هي التي هدى إليها الكتاب. والصواب أن المذموم هو تلك الأوهام التي يزعمون معرفة الغيب بها دون علم الهيئة الفلكية الذي يعرف به آيات قدرة الله وعلمه وحكمته ما لا يعرف من علم آخر... ولعل كثرة الآيات في عالم السماء هي نكتة تذييل الآية بقوله تعالى: {قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون} سواء أريد بها آيات التنزيل أو آيات التكوين؛ فإن أريد بها المعنى الأول، فوجهه أن هذه الآية وما قبلها وما في معناهما من الآيات المنزلة في الحث على النظر في ملكوت السماء كله تفصيل مبين لطرق النظر والبحث في العالم السماوي للذين يعلمون بالفعل أو بالقوة والاستعداد شيئا من حكم الله تعالى وعجائب صنعه فيه فيزدادون بهذا التفصيل بحثا وعلما، فيكون علمهم ناميا مستمرا. وإن أريد الثاني فوجهه أظهر، وهو أن الآيات الدالة على علم الله تعالى وحكمته وفضله على خلقه لا يستخرجها من النظر في النجوم إلا الذين يعلمون، أي أهل العلم بهذا الشأن، الذين يقرنون العلم بالاعتبار، ولا يرضون بأن يكون منتهى الحظ ما تمتع به اللحظ، ولا غاية النظر والحساب أن يقال إن هذا لشيء عجاب.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فالاهتداء بالنجوم في ظلمات البر والبحر يحتاج إلى علم بمسالكها ودوراتها ومواقعها ومداراتها.. كما يحتاج إلى قوم يعلمون دلالة هذا كله على الصانع العزيز الحكيم.. فالاهتداء -كما قلنا- هو الاهتداء في الظلمات الحسية الواقعية، وفي ظلمات العقل والضمير.. والذين يستخدمون النجوم للاهتداء الحسي، ثم لا يصلون ما بين دلالتها ومبدعها، هم قوم لم يهتدوا بها تلك الهداية الكبرى؛ وهم الذين يقطعون بين الكون وخالقه، وبين آيات هذا الكون ودلالتها على المبدع العظيم..