اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ لِتَهۡتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَٰتِ ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِۗ قَدۡ فَصَّلۡنَا ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (97)

وهذا نوع ثالث على كمالِ القُدْرةِ .

فقوله : { جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ } الظاهر أن " جعل " بمعنى " خَلَق " ، فتكون متعديةً لواحد ، و " لكم " متعلّق ب " جعل " ، وكذا " لِتَهْتَدُوا " .

فإن قيل : كيف يتعلّقُ حَرْفا جَرٍّ متحدان في اللفظ والمعنى ؟

فالجواب : أن الثَّاني بدلٌ من الأوَّل بدل اشتمال بإعَادَةِ العامل ، فإن " ليهتدوا " جَارّ ومجرور ؛ إذ اللام لام " كي " ، والفعل بعدها منصوب بإضمار " أن " عند البصريين ، وقد تقدَّم تقريره . والتقدير : جعل لكم النجوم لاهتدائكم ، ونظيره قوله :

{ لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرحمان لِبُيُوتِهِمْ } [ الزخرف :33 ] ف " لبيوتهم " بدل " لمن يَكْفُرُ " بإعادة العامل .

وقال ابن عطية{[14647]} : " وقد يمكن أن يكون بمعنى " صَيَّر " ، ويُقدَّرُ المفعول الثاني من " لتهتدوا " أي : جعل لكم النجوم هِدَايَةً " .

قال أبو حيَّان{[14648]} : " وهو ضعيف لندور حذف أحد مفعولي " ظَنَّ " وأخواتها " .

قال شهابُ الدين{[14649]} - رحمه الله - : لم يَدَّع ابن{[14650]} عطية المفعول الثاني حتى يجعله ضعيفاً ، إنما قال : إنه [ بدل ]{[14651]} من " لتهتدوا " ، أي : فَيُقَدَّرُ مُتعلِّقُ الجار الذي وقع مفعولاً ثانياً ، كما يُقَدَّرُ في نظائره ، والتقدير : جعل لكم النجوم مُسْتَقِرَّةً أو كائنة لاهتدائكم .

وأما قوله : { جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ } هداية فلإيضاحِ المعنى وبيانه .

والنجوم مَعْرُوفَةٌ ، وهي جمع " نَجْم " ، والنَّجْمُ في الأصل مصدر ؛ يقال : نجم الكوكب ينجم نجماً ونجوماً ، فهو ناجمٌ ، ثم أطْلِقَ على الكواكب مجازاً ، فالنجم يستعمل مرة اسماً للكوكب ومرة مصدراً ، والنجوم تُسْتَعْملُ مَرَّةً للكواكب وتارة مصدراً ومنه نَجَمَ النَّبْتُ ؛ أي : طلع ، ونجم قَرْنُ الشاة وغيرها ، والنجم من النبات ما لا سَاقَ له ، والشجر ما له ساق ، والتَّنْجِيمُ : التفريق ، ومنه نجوم الكتابة تشبيهاً بتفرق الكواكب .

فصل في معنى الآية

معنى الآية الكريمة : خَلَقَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا إلى الطرق والمسالِكِ في ظلمات البر والبحر ، حيث لا يرون شَمْساً ولا قَمَراً ، وهو أن السَّائِرَ في البحر والقِفَارِ يهتدي بها في الليل إلى مَقْصدِه وإلى القِبْلةِ ، وأيضاً إنها زِينَةُ السماء كما قال : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيح } [ تبارك :5 ] وقال : { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ } [ الصافات :6 ] ومن منافعها أيضاً كونها رُجُوماً للشياطين ، ثم قال : { قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنَّ هذه النجوم كما يمكن أن يستدلَّ بها على [ الطرقات في ظلمات البر والبحر فكذلك يمكن أن يُسْتَدلَّ بها على ]{[14652]} معرفة الصانع الحكيم ، وكمال قُدْرِتهِ وعلمه .

والثاني : أن يكون المراد هاهنا : من العلم : العقل ، فيكون نظير قوله تعالى في سورة البقرة : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }

[ البقرة :164 ] إلى قوله : { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ البقرة :164 ] وقوله في آل عمران : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ } إلى قوله : { لأُوْلِي الأَلْبَابِ } [ آل عمران :190 ] .

[ الثالث : ]{[14653]} أن المراد من قوله : " لِقَومٍ يعلَمُونَ " أي : لقوم يتفكَّرون ويتأملون ، ويستدلون بالمحسوس على المعقول ، ويتنقلون ، من الشَّاهد إلى الغائب .


[14647]:ينظر: المحرر الوجيز 2/326.
[14648]:ينظر: البحر المحيط 4/191.
[14649]:ينظر: الدر المصون 3/326.
[14650]:ينظر: المحرر الوجيز 2/326.
[14651]:سقط في أ.
[14652]:سقط في أ.
[14653]:سقط في ب.