وهذا نوع ثالث على كمالِ القُدْرةِ .
فقوله : { جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ } الظاهر أن " جعل " بمعنى " خَلَق " ، فتكون متعديةً لواحد ، و " لكم " متعلّق ب " جعل " ، وكذا " لِتَهْتَدُوا " .
فإن قيل : كيف يتعلّقُ حَرْفا جَرٍّ متحدان في اللفظ والمعنى ؟
فالجواب : أن الثَّاني بدلٌ من الأوَّل بدل اشتمال بإعَادَةِ العامل ، فإن " ليهتدوا " جَارّ ومجرور ؛ إذ اللام لام " كي " ، والفعل بعدها منصوب بإضمار " أن " عند البصريين ، وقد تقدَّم تقريره . والتقدير : جعل لكم النجوم لاهتدائكم ، ونظيره قوله :
{ لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرحمان لِبُيُوتِهِمْ } [ الزخرف :33 ] ف " لبيوتهم " بدل " لمن يَكْفُرُ " بإعادة العامل .
وقال ابن عطية{[14647]} : " وقد يمكن أن يكون بمعنى " صَيَّر " ، ويُقدَّرُ المفعول الثاني من " لتهتدوا " أي : جعل لكم النجوم هِدَايَةً " .
قال أبو حيَّان{[14648]} : " وهو ضعيف لندور حذف أحد مفعولي " ظَنَّ " وأخواتها " .
قال شهابُ الدين{[14649]} - رحمه الله - : لم يَدَّع ابن{[14650]} عطية المفعول الثاني حتى يجعله ضعيفاً ، إنما قال : إنه [ بدل ]{[14651]} من " لتهتدوا " ، أي : فَيُقَدَّرُ مُتعلِّقُ الجار الذي وقع مفعولاً ثانياً ، كما يُقَدَّرُ في نظائره ، والتقدير : جعل لكم النجوم مُسْتَقِرَّةً أو كائنة لاهتدائكم .
وأما قوله : { جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ } هداية فلإيضاحِ المعنى وبيانه .
والنجوم مَعْرُوفَةٌ ، وهي جمع " نَجْم " ، والنَّجْمُ في الأصل مصدر ؛ يقال : نجم الكوكب ينجم نجماً ونجوماً ، فهو ناجمٌ ، ثم أطْلِقَ على الكواكب مجازاً ، فالنجم يستعمل مرة اسماً للكوكب ومرة مصدراً ، والنجوم تُسْتَعْملُ مَرَّةً للكواكب وتارة مصدراً ومنه نَجَمَ النَّبْتُ ؛ أي : طلع ، ونجم قَرْنُ الشاة وغيرها ، والنجم من النبات ما لا سَاقَ له ، والشجر ما له ساق ، والتَّنْجِيمُ : التفريق ، ومنه نجوم الكتابة تشبيهاً بتفرق الكواكب .
معنى الآية الكريمة : خَلَقَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا إلى الطرق والمسالِكِ في ظلمات البر والبحر ، حيث لا يرون شَمْساً ولا قَمَراً ، وهو أن السَّائِرَ في البحر والقِفَارِ يهتدي بها في الليل إلى مَقْصدِه وإلى القِبْلةِ ، وأيضاً إنها زِينَةُ السماء كما قال : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيح } [ تبارك :5 ] وقال : { إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ } [ الصافات :6 ] ومن منافعها أيضاً كونها رُجُوماً للشياطين ، ثم قال : { قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنَّ هذه النجوم كما يمكن أن يستدلَّ بها على [ الطرقات في ظلمات البر والبحر فكذلك يمكن أن يُسْتَدلَّ بها على ]{[14652]} معرفة الصانع الحكيم ، وكمال قُدْرِتهِ وعلمه .
والثاني : أن يكون المراد هاهنا : من العلم : العقل ، فيكون نظير قوله تعالى في سورة البقرة : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }
[ البقرة :164 ] إلى قوله : { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ البقرة :164 ] وقوله في آل عمران : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ } إلى قوله : { لأُوْلِي الأَلْبَابِ } [ آل عمران :190 ] .
[ الثالث : ]{[14653]} أن المراد من قوله : " لِقَومٍ يعلَمُونَ " أي : لقوم يتفكَّرون ويتأملون ، ويستدلون بالمحسوس على المعقول ، ويتنقلون ، من الشَّاهد إلى الغائب .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.