67- اطمأن يعقوب إلى عهد أبنائه ، ثم دفعته الشفقة عليهم إلا أن يوصيهم عند دخولهم مصر بأن يدخلوا من أبواب متفرقة ، لكيلا يلفتوا الأنظار عند دخولهم ، ولا تترقبهم الأعين ، وقد يكون ما يسيئهم ، وليس في قدرتي أن أدفع عنكم أذى ، فالدافع للأذى هو الله وله - وحده - الحكم ، وقد توكلت عليه وفوضت إليه أمري وأمركم ، وعليه - وحده - يتوكل الذين يفوضون أمورهم إليه مؤمنين به .
ثم لما أرسله معهم وصاهم ، إذا هم قدموا مصر ، أن { لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ } وذلك أنه خاف عليهم العين ، لكثرتهم وبهاء منظرهم ، لكونهم أبناء{[448]} رجل واحد ، وهذا سبب .
{ وَ } إلا ف { مَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ } فالمقدر لا بد أن يكون ، { إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ } أي : القضاء قضاؤه ، والأمر أمره ، فما قضاه وحكم به لا بد أن يقع ، { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي : اعتمدت على الله ، لا على ما وصيتكم به من السبب ، { وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } فإن بالتوكل يحصل كل مطلوب ، ويندفع كل مرهوب .
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما وصى به يعقوب أبناءه عند سفرهم فقال { وَقَالَ يابني لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ . . . } .
أى : وقال يعقوب - الأب العطوف - لأبنائه وهو يودعهم : يا بنى إذا وصلتم إلى مصر ، فلا تدخلوا كلكم من باب واحد ، وأنتم أحد عشر رجلاً بل ادخلوا من أبوابها المتفرقة ، بحيث يدخل كل اثنين أو ثلاثة من باب .
قالوا : وكانت أبواب مصر في ذلك الوقت أربعة أبواب .
وقد ذكر المفسرون أسباباً متعددة لوصية يعقوب هذه لأبنائه ، وأحسن هذه الأسباب ما ذكره الآلوسى في قوله : نهاهم عن الدخول من باب واحد ، حذراً من إصابة العين ، أى من الحسد ، فإنهم كانوا ذوى جمال وشارة حسنة . . فكانوا مظنة لأن يعانوا - أى لأن يحسدوا - إذا ما - دخلوا كوكبة واحدة . . .
ثم قال : والعين حق ، كما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصح أيضاً بزيادة " ولو كان شئ يسبق القدر سبقته العين " .
وقد ورد أيضاً : " إن العين لتدخل الرجل القبر ، والجمل القدر " .
وقيل : إن السبب في وصية يعقوب لأبنائه بهذه الوصية ، خوفه عليهم من أن يسترعى عددهم حراس مدينة مصر إذا ما دخلوا من باب واحد ، فيترامى في أذهانهم أنهم جواسيس أو ما شابه ذلك ، فربما سجنوهم ، أو حالوا بينهم وبين الوصول إلى يوسف - عليه السلام - . . .
وقوله { وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ } اعتراف منه - عليه السلام - بأن دخولهم من الأبواب المتفرقة ، لن يحول بينهم وبين ما قدره - تعالى - وأراده لهم ، وإنما هو أمرهم بذلك من باب الأخذ بالأسباب المشروعة .
أى : وإنى بقولى هذا لكم ، لا أدفع عنكم شيئا قدره الله عليكم ، ولو كان هذا الشئ قليلا .
{ إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ } أى : ما الحكم في كل شئ إلى لله - تعالى - وحده لا ينازعه في ذلك منازع . ولا يدافعه مدافع .
{ وعليه } وحده { توكلت } في كل أمورى .
{ وعليه } وحده { فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون } أى المريدون للتوكل الحق ، والاعتماد الصدق الذي لا يتعارض مع الأخذ بالأسباب التي شرعها الله وأمر بها .
إذ أن كلا من التوكل والأخذ بالأسباب مطلوب من العبد ، إلا أن العاقل عندما يأخذ في الأسباب يجزم بأن الحكم لله وحده في كل الأمور ، وأن الأسباب ما هي إلا أمور عادية ، يوجد الله - تعالى - معها ما يريد إيجاده ، ويمنع ما يريد منعه ، فهو الفعال لما يريد .
ويعقوب - عليه السلام - عندما أوصى أبناءه بهذه الوصية ، أرادبها تعليمهم الاعتماد على توفيق الله ولطفه ، مع الأخذ بالأسباب المعتادة الظاهرة تأدباً مع الله - تعالى - واضع الأسباب ومشرعها . . .
وقوله : { لا تدخلوا من باب واحد } قيل : خشي عليهم العين لكونهم أحد عشر لرجل واحد ، وكانوا أهل جمال وبسطة . قال ابن عباس والضحاك وقتادة وغيره : والعين حق ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر »{[1]} ، وفي تعوذه عليه السلام : «أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة وكل عين لامة »{[2]} وقيل : خشي أن يستراب بهم لقول يوسف قبل : أنتم جواسيس ويضعف هذا ظهورهم قبل بمصر . وقيل : طمع بافتراقهم أن يستمعوا أو يتطلعوا خبر يوسف - وهذا ضعيف يرده : { وما أغني عنكم من الله من شيء } فإن ذلك لا يتركب على هذا المقصد .
وقوله : { إلا أن يحاط بكم } لفظ عام لجميع وجوه الغلبة والقسر والمعنى تعمكم الغلبة من جميع الجهات حتى لا تكون لكم حيلة ولا وجه تخلص . وقال مجاهد : المعنى : إلا أن تهلكوا جميعاً . وقال قتادة : إلا ألا تطيقوا ذلك .
قال القاضي أبو محمد : وهذا يرجحه لفظ الآية . وانظر أن يعقوب عليه السلام قد توثق في هذه القصة ، وأشهد الله تعالى ، ووصى بنيه ، وأخبر بعد ذلك بتوكله ، فهذا توكل مع تسبب ، وهو توكل جميع المؤمنين إلا من شط في رفض السعي وقنع بماء وبقل البرية ونحوه ، فتلك غاية التوكل وعليها بعض الأنبياء عليهم السلام ، والشارعون منهم مثبتون سنن التسبب الجائز ، وما تجاوز ذلك من الإلقاء باليد مختلف في جوازه ، وقد فضله بعض المجيزين له ، ولا أقول بذلك ، وباقي الآية بين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.