ولما سمح لهم بخروجه معهم ، أتبع تعالى ذلك الخبر عن أمره لهم بالاحتياط من المصائب لأنهم أحد عشر رجلاً إخوة أهل جمال وبسطة ، وكانوا قد شهروا{[42109]} عند المصريين بعض الشهرة ، بسبب ما دار بينهم وبين يوسف عليه الصلاة والسلام من الكلام في المرة الأولى ، فكانوا{[42110]} مظنة لأن ترمقهم{[42111]} الأبصار ويشار إليهم بالأصابع ، فيصابوا بالعين ، ولم يوصهم في المرة الأولى ، لأنهم كانوا مجهولين ، مع شغل الناس بما هم فيه من القحط ، فقال حكاية عنه : { وقال } أي يعقوب عليه الصلاة والسلام لبنيه عندما أرادوا السفر : { يابني } محذراً{[42112]} لهم من شر الحسد والعين - { لا تدخلوا } إذا قدمتم إلى مصر { من باب واحد } من أبوابها ؛ والواحد على الإطلاق : الذي لا ينقسم ، وأما المقيد بإجرائه على موصوف كباب واحد ، فهو ما لا ينقسم في معنى ذلك الموصوف { وادخلوا من أبواب } واحترز{[42113]} من أن تكون{[42114]} متلاصقة أو متقاربة جداً ، فقال : { متفرقة } أي تفرقاً كبيراً ، وهذا حكم التكليف لئلا يصابوا{[42115]} بالعين - كما نقله الرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وقتادة والضحاك والسدي ، فإن العين حق ، وهي من قدر الله ، وقد ورد شرعنا بذلك ، ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " العين حق " وفي رواية عند أحمد وابن ماجه{[42116]} : " يحضرها الشيطان وحسد{[42117]} ابن آدم " ولمسلم{[42118]} والترمذي{[42119]} والنسائي{[42120]} عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العين حق ، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته{[42121]} العين ، وإذا استغسلتم فاغسلوا " ولأبي نعيم{[42122]} في الحلية عن جابر رضي الله عنه أن النبي قال : " إن العين لتدخل الجمل القدر والرجل القبر " ولأبي داود عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وإنها لتدرك الفارس فتدعثره{[42123]} " ولأحمد والترمذي عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها أن النبي{[42124]} صلى الله عليه وسلم قال : " لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين " قال الإمام الرازي : ومنشأ إصابة العين توهم النفس الخبيثة هلاك من تصيبه . وقد تقدم معنى ذلك{[42125]} في رواية أحمد وابن ماجه من حديث أبي هريرة مع انضمام حضور الشيطان ، وهذا الاحتياط من باب الأخذ بالأسباب المأمور بها ، لأنها من القدر ، لا من من باب التحرز من القدر ، كما روى{[42126]} مسلم{[42127]} وأحمد{[42128]} وابن ماجه{[42129]} عن أبي هريرة رضي الله عنه{[42130]} أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من الضعيف ، وفي كل خير احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ، فإن " لو " تفتح عمل الشيطان{[42131]} "
معناه - والله أعلم : افعل فعل{[42132]} الأقوياء ، ولا تفعل فعل العجزة ، وذلك بأن تنعم{[42133]} النظر ، تمعن في التأمل{[42134]} وتتأنى ، حتى تعلم المصادر والموارد ، فلا{[42135]} تدع شيئاً يحتمل أن ينفعك في الأمر الذي أنت مقبل عليه ولا{[42136]} يضرك إلا فعلته ، ولا تدع أمراً يمكن أن يضرك إلا تركته واحترزت{[42137]} منه جهدك ، فإنك إذا فعلت ذلك وأتى أمر من عند الله بخلاف مرادك كنت جديراً بأن لا تقول في نفسك : لو أني فعلت كذا{[42138]} ، فإنك لم تترك شيئاً ، وأما إذا فعلت فعل العجزة ، وتركت الجزم{[42139]} فما أوشك أن تؤتى من قبل ترك الأسباب ، فما أقربك إلى أن تقول ما يفتح عمل الشيطان من{[42140]} " لو " .
ولما خاف أن يسبق من{[42141]} أمره هذا إلى{[42142]} بعض الأوهام أن الحذر يغني من{[42143]} القدر ، نفى ذلك مبيناً أنه لم يقصد غير تعاطي الأسباب على ما أمر الله وأن الأمر بعد ذلك إليه : إن شاء سبب عن الأسباب مسبباتها ، وإن شاء أبطل تلك الأسباب وأقام أسباباً تضادها ويتأثر عنها المحذور{[42144]} ، فقال : { وما أغني } أي أجزى وأسد{[42145]} وأنوب { عنكم من الله } أي بعض أمر الملك الأعظم ، وعمم{[42146]} النفي فقال : { من شيء } أي إن أراد بكم ، سوء{[42147]} كنتم مفترقين أو مجتمعين ، وهذا حكم التقدير ، ثم علل ذلك بقوله : { إن } أي ما { الحكم } وهو فصل الأمر بما تدعو إليه الحكمة { إلا الله } أي الذي له الأمر كله ، لا يقدر أحد سواه على التفصي عن شيء من مراده والفرار من شيء من قدره ، ولهذا المعنى - وهو أنه لا ينفع أصلاً سبب إلا بالله - أنزل الله التسمية مقرونة بهاء السبب أول كتابه ، وأمر بها أول كل شيء ؛ وروى أبو نعيم في الحلية{[42148]} في ترجمة إمامنا الشافعي بسنده إليه ثم إلى علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه خطب{[42149]} الناس يوماً فقال في خطبته : وأعجب ما في الإنسان قلبه ، ولو مواد من الحكمة وأضداد من خلافها ، فإن سنح له الرجاء أولهه{[42150]} الطمع . وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص ، وإن ملكه اليأس{[42151]} قتله الأسف ، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ ، وإن أسعد بالرضى نسي التحفظ وإن ناله الخوف شغله الحزن ، وإن أصابته مصيبة قصمه الجزع ، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى ، وإن عضته{[42152]} فاقة شغله البلاء ، وإن أجهده الجوع{[42153]} قعد به{[42154]} الضعف{[42155]} ، {[42156]} وإن أفرط به الشبع كظته البطنة{[42157]} ، فكل تقصير به مضر{[42158]} . وكل إفراط له{[42159]} مفسد . قال : فقام{[42160]} إليه رجل ممن كان شهد معه الجمل ، فقال : يا أمير المؤمنين ؟ أخبرنا{[42161]} عن القدر ، فقال : بحر عميق فلا تلجه ، فقال : يا أمير المؤمنين ! أخبرنا عن القدر ، فقال بيت مظلم فلا تدخله ، فقال : يا أمير المؤمنين ! أخبرنا عن القدر ، فقال{[42162]} : سر الله فلا تتكلفه{[42163]} ، فقال : يا أمير المؤمنين ! أخبرنا عن القدر ، فقال : أما إذا أبيت فإنه أمر بين أمرين ، {[42164]} لا جبر ولا تفويض ، فقال{[42165]} : يا أمير المؤمنين !{[42166]} إن فلاناً يقول بالاستطاعة وهو حاضرك ، فقال : عليّ به ! فأقاموه ، فلما رآه سل من سيفه قدر أربع أصابع فقال : الاستطاعة تملكها مع الله أو من دون الله ؟ وإياك أن تقول أحدهما فترتد فأضرب{[42167]} عنقك ! فقال : فما أقول يا أمير المؤمنين ؟ قال{[42168]} : قل : أملكها بالله الذي إن شاء ملكنيها .
وسيأتي إن شاء الله تعالى{[42169]} في سورة الحج عند
{ إن الله يفعل ما يشاء{[42170]} }[ الحج : 18 ] ما يتصل بهذا .
ولما قصر{[42171]} الأمر كله{[42172]} عليه سبحانه ، وجب رد كل أمر إليه ، وقصر النظر عليه ، فقال منبهاً على ذلك : { عليه } أي على الله وحده الذي ليس الحكم إلا له { توكلت } أي جعلته وكيلي فرضيت بكل ما يفعله{[42173]} { وعليه } أي وحده { فليتوكل المتوكلون * } أي الثابتون في باب التوكل ، فإن ذلك من أعظم الواجبات ، من فعله فاز ، ومن أغفله خاب ،