نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَقَالَ يَٰبَنِيَّ لَا تَدۡخُلُواْ مِنۢ بَابٖ وَٰحِدٖ وَٱدۡخُلُواْ مِنۡ أَبۡوَٰبٖ مُّتَفَرِّقَةٖۖ وَمَآ أُغۡنِي عَنكُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٍۖ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُۖ وَعَلَيۡهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ} (67)

ولما سمح لهم بخروجه معهم ، أتبع تعالى ذلك الخبر عن أمره لهم بالاحتياط من المصائب لأنهم أحد عشر رجلاً إخوة أهل جمال وبسطة ، وكانوا قد شهروا{[42109]} عند المصريين بعض الشهرة ، بسبب ما دار بينهم وبين يوسف عليه الصلاة والسلام من الكلام في المرة الأولى ، فكانوا{[42110]} مظنة لأن ترمقهم{[42111]} الأبصار ويشار إليهم بالأصابع ، فيصابوا بالعين ، ولم يوصهم في المرة الأولى ، لأنهم كانوا مجهولين ، مع شغل الناس بما هم فيه من القحط ، فقال حكاية عنه : { وقال } أي يعقوب عليه الصلاة والسلام لبنيه عندما أرادوا السفر : { يابني } محذراً{[42112]} لهم من شر الحسد والعين - { لا تدخلوا } إذا قدمتم إلى مصر { من باب واحد } من أبوابها ؛ والواحد على الإطلاق : الذي لا ينقسم ، وأما المقيد بإجرائه على موصوف كباب واحد ، فهو ما لا ينقسم في معنى ذلك الموصوف { وادخلوا من أبواب } واحترز{[42113]} من أن تكون{[42114]} متلاصقة أو متقاربة جداً ، فقال : { متفرقة } أي تفرقاً كبيراً ، وهذا حكم التكليف لئلا يصابوا{[42115]} بالعين - كما نقله الرماني عن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وقتادة والضحاك والسدي ، فإن العين حق ، وهي من قدر الله ، وقد ورد شرعنا بذلك ، ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " العين حق " وفي رواية عند أحمد وابن ماجه{[42116]} : " يحضرها الشيطان وحسد{[42117]} ابن آدم " ولمسلم{[42118]} والترمذي{[42119]} والنسائي{[42120]} عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العين حق ، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته{[42121]} العين ، وإذا استغسلتم فاغسلوا " ولأبي نعيم{[42122]} في الحلية عن جابر رضي الله عنه أن النبي قال : " إن العين لتدخل الجمل القدر والرجل القبر " ولأبي داود عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وإنها لتدرك الفارس فتدعثره{[42123]} " ولأحمد والترمذي عن أسماء بنت عميس رضي الله عنها أن النبي{[42124]} صلى الله عليه وسلم قال : " لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين " قال الإمام الرازي : ومنشأ إصابة العين توهم النفس الخبيثة هلاك من تصيبه . وقد تقدم معنى ذلك{[42125]} في رواية أحمد وابن ماجه من حديث أبي هريرة مع انضمام حضور الشيطان ، وهذا الاحتياط من باب الأخذ بالأسباب المأمور بها ، لأنها من القدر ، لا من من باب التحرز من القدر ، كما روى{[42126]} مسلم{[42127]} وأحمد{[42128]} وابن ماجه{[42129]} عن أبي هريرة رضي الله عنه{[42130]} أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من الضعيف ، وفي كل خير احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، وإن أصابك شيء فلا تقل : لو أني فعلت كذا وكذا ، ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل ، فإن " لو " تفتح عمل الشيطان{[42131]} "

معناه - والله أعلم : افعل فعل{[42132]} الأقوياء ، ولا تفعل فعل العجزة ، وذلك بأن تنعم{[42133]} النظر ، تمعن في التأمل{[42134]} وتتأنى ، حتى تعلم المصادر والموارد ، فلا{[42135]} تدع شيئاً يحتمل أن ينفعك في الأمر الذي أنت مقبل عليه ولا{[42136]} يضرك إلا فعلته ، ولا تدع أمراً يمكن أن يضرك إلا تركته واحترزت{[42137]} منه جهدك ، فإنك إذا فعلت ذلك وأتى أمر من عند الله بخلاف مرادك كنت جديراً بأن لا تقول في نفسك : لو أني فعلت كذا{[42138]} ، فإنك لم تترك شيئاً ، وأما إذا فعلت فعل العجزة ، وتركت الجزم{[42139]} فما أوشك أن تؤتى من قبل ترك الأسباب ، فما أقربك إلى أن تقول ما يفتح عمل الشيطان من{[42140]} " لو " .

ولما خاف أن يسبق من{[42141]} أمره هذا إلى{[42142]} بعض الأوهام أن الحذر يغني من{[42143]} القدر ، نفى ذلك مبيناً أنه لم يقصد غير تعاطي الأسباب على ما أمر الله وأن الأمر بعد ذلك إليه : إن شاء سبب عن الأسباب مسبباتها ، وإن شاء أبطل تلك الأسباب وأقام أسباباً تضادها ويتأثر عنها المحذور{[42144]} ، فقال : { وما أغني } أي أجزى وأسد{[42145]} وأنوب { عنكم من الله } أي بعض أمر الملك الأعظم ، وعمم{[42146]} النفي فقال : { من شيء } أي إن أراد بكم ، سوء{[42147]} كنتم مفترقين أو مجتمعين ، وهذا حكم التقدير ، ثم علل ذلك بقوله : { إن } أي ما { الحكم } وهو فصل الأمر بما تدعو إليه الحكمة { إلا الله } أي الذي له الأمر كله ، لا يقدر أحد سواه على التفصي عن شيء من مراده والفرار من شيء من قدره ، ولهذا المعنى - وهو أنه لا ينفع أصلاً سبب إلا بالله - أنزل الله التسمية مقرونة بهاء السبب أول كتابه ، وأمر بها أول كل شيء ؛ وروى أبو نعيم في الحلية{[42148]} في ترجمة إمامنا الشافعي بسنده إليه ثم إلى علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أنه خطب{[42149]} الناس يوماً فقال في خطبته : وأعجب ما في الإنسان قلبه ، ولو مواد من الحكمة وأضداد من خلافها ، فإن سنح له الرجاء أولهه{[42150]} الطمع . وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص ، وإن ملكه اليأس{[42151]} قتله الأسف ، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ ، وإن أسعد بالرضى نسي التحفظ وإن ناله الخوف شغله الحزن ، وإن أصابته مصيبة قصمه الجزع ، وإن أفاد مالاً أطغاه الغنى ، وإن عضته{[42152]} فاقة شغله البلاء ، وإن أجهده الجوع{[42153]} قعد به{[42154]} الضعف{[42155]} ، {[42156]} وإن أفرط به الشبع كظته البطنة{[42157]} ، فكل تقصير به مضر{[42158]} . وكل إفراط له{[42159]} مفسد . قال : فقام{[42160]} إليه رجل ممن كان شهد معه الجمل ، فقال : يا أمير المؤمنين ؟ أخبرنا{[42161]} عن القدر ، فقال : بحر عميق فلا تلجه ، فقال : يا أمير المؤمنين ! أخبرنا عن القدر ، فقال بيت مظلم فلا تدخله ، فقال : يا أمير المؤمنين ! أخبرنا عن القدر ، فقال{[42162]} : سر الله فلا تتكلفه{[42163]} ، فقال : يا أمير المؤمنين ! أخبرنا عن القدر ، فقال : أما إذا أبيت فإنه أمر بين أمرين ، {[42164]} لا جبر ولا تفويض ، فقال{[42165]} : يا أمير المؤمنين !{[42166]} إن فلاناً يقول بالاستطاعة وهو حاضرك ، فقال : عليّ به ! فأقاموه ، فلما رآه سل من سيفه قدر أربع أصابع فقال : الاستطاعة تملكها مع الله أو من دون الله ؟ وإياك أن تقول أحدهما فترتد فأضرب{[42167]} عنقك ! فقال : فما أقول يا أمير المؤمنين ؟ قال{[42168]} : قل : أملكها بالله الذي إن شاء ملكنيها .

وسيأتي إن شاء الله تعالى{[42169]} في سورة الحج عند

{ إن الله يفعل ما يشاء{[42170]} }[ الحج : 18 ] ما يتصل بهذا .

ولما قصر{[42171]} الأمر كله{[42172]} عليه سبحانه ، وجب رد كل أمر إليه ، وقصر النظر عليه ، فقال منبهاً على ذلك : { عليه } أي على الله وحده الذي ليس الحكم إلا له { توكلت } أي جعلته وكيلي فرضيت بكل ما يفعله{[42173]} { وعليه } أي وحده { فليتوكل المتوكلون * } أي الثابتون في باب التوكل ، فإن ذلك من أعظم الواجبات ، من فعله فاز ، ومن أغفله خاب ،


[42109]:من م، وفي الأصل و ظ ومد: سهروا.
[42110]:في ظ: فكأنه.
[42111]:من ظ ومد، وفي الأصل و م: تزمعهم.
[42112]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: محذورا.
[42113]:من م، وفي الأصل و ظ ومد: احترزوا.
[42114]:في ظ ومد: تكونوا.
[42115]:في م: تصابوا.
[42116]:هذه الرواية أوردها الإمام أحمد في مسنده 2/439، وأما ابن ماجه فلم نجدها في سننه بالرغم من توغلنا في مظانها.
[42117]:من ظ و م ومد والمسند، وفي الأصل: حسن- كذا.
[42118]:في باب الطب والمرض والرقى من كتاب السلام.
[42119]:في باب ما جاء في الرقبة من العين من كتاب الطب.
[42120]:هذه الرواية لم نفز بها في سنن النسائي غير أن ابن ماجه قد أوردها في باب العين من كتاب الطب بما يقارب سياق الترمذي.
[42121]:من م ومد وجامع الترمذي، وفي الأصل: لسبقت، وفي ظ: لسبقه، وفي صحيح مسلم وسنن ابن ماجه: سبقته.
[42122]:في ظ: لأبي داود.
[42123]:هذا الحديث أورده أبو داود في باب الغيل من كتاب الطب، لا في باب العين منه.
[42124]:في ظ: رسول الله.
[42125]:زدت الواو بعده في ظ.
[42126]:زيد بعده في ظ: عن.
[42127]:في باب الإيمان بالقدر والإذعان له من كتاب القدر.
[42128]:في المسند 2/366.
[42129]:في باب القدر من المقدمة.
[42130]:العبارة من "مسلم وأحمد" إلى هنا ساقطة من مد.
[42131]:وهذا الحديث سياقه لابن ماجه وفيه بعض اختلافات وزيادات بالنسبة لما رواه مسلم وأحمد.
[42132]:سقط من ظ ومد.
[42133]:في ظ: تمعن.
[42134]:في ظ: التأويل.
[42135]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: ولا.
[42136]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: ما.
[42137]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: أحرزت.
[42138]:زيد ما بين الحاجزين من م ومد.
[42139]:في م: الحزم.
[42140]:من م ومد، وفي الأصل و ظ "و".
[42141]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: عن.
[42142]:من م ومد، وفي الأصل و ظ: على.
[42143]:سقط من ظ.
[42144]:من ظ و م ومد، وفي الأصل: الجذور.
[42145]:في ظ و م: أشد.
[42146]:من م، وفي الأصل و ظ ومد: هم.
[42147]:في ظ: سوء.
[42148]:راجع منثور كلامه ومأثور حكمه من الحلية غير أن هذه الرواية سقطت من مطبوعة الخانجي وفزنا بها في نسخة أخرى.
[42149]:زيد بعده في مد: النبي صلى الله عليه وسلم.
[42150]:من م، وفي الأصل و ظ: اولهمه، وفي مد: أذله، وفي الحلية: ادلهمه- كذا.
[42151]:في ظ: البأس.
[42152]:في مد: غضته.
[42153]:من م والحلية، وفي الأصل: و ظ ومد: تعد- كذا.
[42154]:من م والحلية، وفي الأصل: و ظ ومد: تعد- كذا.
[42155]:في ظ: الضعيف.
[42156]:سقط ما بين الرقمين من م.
[42157]:سقط ما بين الرقمين من م.
[42158]:من ظ و م والحلية، وفي الأصل ومد: مصر.
[42159]:زيد من م ومد والحلية.
[42160]:من م والحلية، وفي الأصل و ظ ومد: فقال.
[42161]:من م ومد والحلية، وفي الأصل و ظ: أخبر.
[42162]:زيد ما بين الحاجزين من مد والحلية.
[42163]:من الحلية، وفي الأصول: فلا يتكلفه.
[42164]:زيدت الواو بعده في الأصل و ظ ومد، ولم تكن في م والحلية فحذفناها.
[42165]:في م ومد: قال.
[42166]:زيدت الواو بعده في الأصل، ولم تكن في ظ و م ومد والحلية فحذفناها.
[42167]:من م ومد والحلية، وفي الأصل و ظ: فتضرب.
[42168]:في ظ: فقال.
[42169]:زيد من ظ و م ومد.
[42170]:آية 18.
[42171]:من م ومد، وفي الأصل: قرر، وفي ظ: قص.
[42172]:زيد بعده في الأصل: لله، ولم تكن الزيادة في ظ و م ومد فحذفناها.
[42173]:في م: يفعل.