تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَقَالَ يَٰبَنِيَّ لَا تَدۡخُلُواْ مِنۢ بَابٖ وَٰحِدٖ وَٱدۡخُلُواْ مِنۡ أَبۡوَٰبٖ مُّتَفَرِّقَةٖۖ وَمَآ أُغۡنِي عَنكُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٍۖ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُۖ وَعَلَيۡهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ} (67)

{ وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون67 } .

التفسير :

67 { وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة . . . } الآية .

أي : قال يعقوب لأبنائه عند عزمهم على مغادرة بادية الشام إلى مصر : لا تجتمعوا عند دخول أبواب مصر ، ولا تدخلوا من باب واحد ، وادخلوا من أبواب متفرقة متعددة .

قيل في سبب ذلك : إن يعقوب كان يخاف على أولاده العين والحسد ، وكانوا على جانب كبير من الجمال والقوة ، والنشاط والاتساق ، فإذا شاهدهم الناس في هذه الصورة ؛ عشر رجال في زى واحد وهيئة واحدة ؛ ربما حسدهم الحاسد .

جاء في تفسير أبي السعود4/292 :

وقال . يعقوب ناصحا لهم ؛ لما أزمع على إرسالهم جميعا : { يا بني لا تدخلوا } مصر من باب واحد ، نهاهم عن ذلك ؛ حذرا من إصابة العين ؛ فإنهم كانوا ذوي جمال وشارة حسنة ، وقد كانوا تجملوا في هذه المرة أكثر مما في المرة الأولى ، وقد اشتهروا في مصر بالكرامة والزلفى لدى الملك ، بخلاف النوبة الأولى ، حيث كانوا مغمورين عند دخولهم من أبواب مصر ، ثم اشتهر أمرهم عندما قربهم يوسف إليه وأكرم وفادتهم .

ثم قال أبو السعود :

" وإصابة العين بتقدير العزيز الحكيم ، وليست مما ينكر ، وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم : ( إن العين حق )26 ، وعنه صلى الله عليه وسلم : ( إن العين لتدخل الرجل القبر ، والجمل القدر )27 ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسنين رضي الله عنهما بقوله : ( أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامه )28 .

وكان صلى الله عليه وسلم يقول : ( كان أبوكما يعوذ بها إسماعيل وإسحاق عليهم السلام )29 ، رواه البخاري في صحيحه ، وقد شهدت بذلك التجارب . اه .

" وقيل : إن السبب في وصية يعقوب لأبنائه بهذه الوصية ؛ خوفه عليهم ، من أن يسترعى عددهم حراس مدينة مصر ، إذا ما دخلوا من باب واحد ؛ فيترامى في أذهانهم أنهم جواسيس أو ما شابه ذلك ، فربما سجنوهم أو حالوا بينهم وبين الوصول إلى يوسف عليه السلام " 30 .

{ وما أغني عنكم من الله من شيء } .

أي : إني آمركم بالدخول من أبواب متفرقة ؛ لتسلموا من حسد الحاسدين أو كيد الكائدين ، ولا أدفع عنكم شيئا قدره الله عليكم ، ولو كان هذا الشيء قليلا ، وإنما ذلك من باب الأخذ بالأسباب مع اليقين الجازم بأن النافع هو الله ، والضار هو الله تعالى ، وأن العباد لا تنفع ولا تضر إلا بشيء قد كتبه الله على الإنسان .

ويعقوب عليه السلام يريد أن يلقن أولاده درسا في العقيدة السليمة التي توصي : بأن يأخذ الإنسان بالأسباب العادية الميسرة له ، مع اليقين الجازم بأن مسبب الأسباب هو الله تعالى ، وأنه سبحانه واضع الأسباب ومشرعها .

{ إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون } .

أي : ما الحكم في أمر الخلائق جميعا إلا لله وحده ؛ لا ينازعه في ذلك منازع ولا يدافعه مدافع .

{ عليه توكلت } . أي عليه وحده دون سواه توكلت واعتمدت .

{ وعليه فليتوكل المتكلون } . وعلى الله وحده فليتوكل المتوكلون الصادقون ، وهذا التوكل لا يتعارض مع الأخذ بالأسباب التي شرعها الله وأمر بها .

فالعبد له كسب واختيار ، والله تعالى له إرادة عليا ، وقدرة فاعلة في تدبير هذا الكون ، والجمع بين اختيار العبد وإرادة الله تعالى يحتاج إلى شيء من الانحناء والتسليم ، فالعبد يفعل ويختار ويأخذ في الأسباب ، ويجزم بأن الحكم لله وحده في كل الأمور ، وقد جمع يعقوب عليه السلام بأطراف الموضوع ، حين أمر أبناءه بالدخول من أبواب متعددة ، ثم بين : أن ذلك أخذ بالأسباب العادية ، مع الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره ، حلوه ومره ، ومع اليقين بأن ما أراده الله نافذ لا محالة كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم ، والسنة النبوية .