قوله تعالى : { وَقَالَ يابني لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ } الآية ، وذلك أنه كان يخافُ عليهم العين ؛ لأنَّهم كانوا أعطوا جمالاً ، وقوة ، وامتداد قامة ، وكانوا ولد رجلٍ واحد ، فأمرهم أن يتفرَّقُوا في دخولها ؛ لئلا يصابوا بالعين ، فإن العين حقٌّ ، ويدل عليه وجوه :
الأول : رُويَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يعوِّذُ الحسن والحسين فيقول : " أعُودُ بِكلمَاتِ اللهِ التّامةِ من كُلِّ شيْطَانٍ وهَامَّةٍ ، و من كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ " . ويقول : هكذا يُعوذُ إبراهيم إسماعيل وإسحاق صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
ورُوِيَ عن عبادة بن الصَّامت رضي الله عنه قال : " دَخَلْتُ على رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في أوَّلِ النَّهارِ فَرَأيْتهُ شَديدَ الوَجع ، ثُمَّ عدت إليْهِ آخِرَ النَّهارِ فوَجَدتهُ مُعَافى ، فقال : " إنَّ جِبْريلَ عليه الصلاة والسلام أتَانِي فرقَانِي ، فقال : بسمِ اللهِ أرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيءٍ يُؤذِيكَ ، ومِنْ كُلِّ عَيْنٍ وحَاسدٍ اللهُ يَشْفِيكَ ، قال صلواتُ اللهِ وسلامُه عليْهِ فأفَقْتُ " .
" وأتِيَ بابْنَي جَعْفَرٍ رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا غلماناً بيضاً ، فقيل : يا رسول الله " إنَّ العيْنَ تسرعُ إليْهِمَا ، أفأسْتَرقِي لهُمَا مِنَ العيْنِ ، فقال صلوات الله وسلامه عليه : نَعَم " .
" ودخل رسول الله بيت أم سلمة رضي الله عنهما وعندها صَبِيٌّ يَشْتَكِي فقَالُوا يَا رَسُول اللهِ : أصَابَتْهُ العَيْنُ ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ألا تَسْتَرقُونَ لَهُ مِنَ العَيْنِ " .
وقال صلى الله عليه وسلم : " العَيْنُ حقٌّ ولوْ كَانَ شَيءٌ يَسْبِقُ القَدرَ لسَبقَتِ العيْنُ القدرَ " .
وجاء في الأثرِ : " إن العين تُدخِلْ الرَّجُلَ القبر والجَمَل القِدْرَ " .
وقالت عائشة رضي الله عنهما : " كَانَ يَأمرُ العَائِنَ أنْ يَتوضَّأ ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ المَعِينُ الذي أصيبَ بالعَيْنِ " .
والذين أثبتُوا العين قالوا : إنه يبدو من العَيْنِ أجزاءُ ، فتتصل بالشيء المستحسن ؛ فتُؤثِّر ، وتسري فيه ، كما يؤثر السُّم النار ، والنصوصُ النبويةُ نطقت به ، والتجاربُ من الزمن القديم ساعدت عليه .
وروى الزمخشري في كتاب " ربيع الأبْرارِ " ، قال الجاحظُ : علماءُ الفرس ، والهندِ ، وأطباءُ اليونانيين ، ودهاةُ العرب ، وأهل التجربة من نازلة الأمصار ، وحذَّاق المتكلمين ، يكرهُون الأكل بين يدي السٍّباع ؛ يَخافُونَ عُيُونها ؛ لِمَا فيها من النَّهم ، والشَّره ، ولما ينحلُّ عند ذلك من أجوافها من البخار الرَّديءِ ، وينفصل من عيونها إذا خالط الإنسان نقصه وأفسده ، وكانوا يكرهون قيام الخدم بالباب والأشربة على رُءُوسهِم مخافة العين ، وكانوا يأمرون بإشباعهم قبل أن يأكلوا ، وكانوا يقولون في الكلب السِّنورِ : إمَّا أن يطرد ، وإمَّا أن يشغل بما يطرح له ، قال : ونظيره : أن الرجل يضربُ الحية بعصاً ؛ فيموتُ الضاربُ ؛ لأنَّ السُّمَّ فصل من الحيةِ ، فسرى فيه حتى داخله ، ويديم الإنسانُ النظر إلى العين المحمرة ؛ فيعتري عينه حمرة .
وعن الأصمعيِّ رحمه الله : أنَّ عَيُوناً كان يقول : إذا رأت الشَّيْء يعجبني ، وجدتُ حرارة تخرج من عيني .
وعنه : كان عندنا عيَّانان ، فمرَّ أحدهما بحوض من حجارةٍ ، فقال : بالله ، ما رأيت كاليوم مثله ، فانصدع فلقتين ، فصُبَّ ، فمرَّ عليه فقال : رأيتك تقل ما خزرت أهْلَكَ فيكَ ، فتَطَايَرَ أرْبعاً .
وسمع آخرُ صوت بولِ من وراء جدار فقال : إنَّك تراني كثير الشَّخب جيِّد البول ، قالوا : هذا آتيك ، قال : وانقطع ظهراهُ ، فقيل : لا بأس فقال : لا يبولُ بعدها أبداً ، فما بال حتَّى مات .
وسمع صوت شخب بقرة فأعجبه ، فقال : أيتهُنَّ هذه ، فواروا بأخرى عنها ؛ فهلكتا جميعاً ، المُورَى بها ، والمُورَى عنها .
والمنقولاتُ في هذا كثيرة ؛ فثبت أنَّ الإصابة بالعين حقٌّ ، لا يمكن إنكارهُ .
قال القرطبيُّ : وإذا كان هذا معنى الآيةِ ؛ فيكون فيها دليلٌ على التَّحرُّزِ من العين ، وواجب على كل مسلم إذا أعجبه شيء أن يبرك ، فإنه إذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة ، ألا ترى لقوله صلوات الله وسلامه عليه : " ألاَ برَّكْتَ " فدلَّ على أنَّ العين لا تضرُّ ، ولا تعدو إذا برَّك العَائِنُ ، وأنها إنَّما تعدو ؛ إذا لم يبرك ، والتَّبْرِيكُ أن يقول : " تَبارَك اللهُ أحْسَنُ الخَالقينَ ، اللَّهُمَّ بَارِك فِيهِ " وإذا أصاب العائن بعينه ؛ فإنَّه يُؤمَرُ بالاغتِسَالِ ، ويجبرُ على ذلك إن أبى ؛ لأنَّ الأمر للوجوب ، ولا سيِّما هنا ، فإنَّه يخاف على المعين الهلاك ، ولا ينبغي لأحدٍ أن يمنع أخاهُ ما ينتفع به ، ولا يضرهُ هو ، ولا سيما غذا كان بسببه ، كان الجاني عليه .
قال القرطبيُّ : " مَنْ عُرِفَ بالإصاَبَةِ بالعيْنِ مُنِعَ مِنْ مُداخَلةِ النَّاس دفعاً للضَّرُورةِ " .
وقال بعضُ العلماءِ : يأَمره الإمامُ بلزوم بيته ، وإن كان فقيراً رزقه ما يقوم بهِ ، ويكفّ أذاه عن الناس .
وقيل : يُنفَى . والَّذي ورد في الحديث أنَّهُ لم ينفِ العَائن ، ولا أمره بِلزُومِ بيته ولا حبسه ، بل قالوا : يكونُ الرَّجُل الصَّالحُ عائناً ، وأنه لا يقدحُ فيه ، ولا يفسَّقُ به ومن قال : يحبس ، ويؤمر بلزوم بيته ؛ فذلك للاحتياط ، ودفع ضرره .
قال الجبائيُّ : إنَّ أبناء يعقوب اشتهروا ، وتحدَّث النَّاسُ بهم ، وبحسنهم ، وكمالهم فقال : " لا تَدْخُلُوا " تلك المدينة " مِنْ بابِ واحدٍ " على ما أنتم عليه من العددِ ، والهيئة ، ولم يأمن عليهم حسد النَّاس ، أو قال : لم يأمن عليهم أن يخافهم الملك على ملكه ، فيحبسهم .
وهذا وجهٌ محتملٌ لا إنكار فيه إلاَّ أنَّ القول الأوَّل أولى ؛ لأنَّه لا امتناع فيه بحسب العقلِ ، والعرف كما بيَّنا ، والمتقدِّمُون من المفسرين أطبقوا عليه ، فوجب المصيرُ إليه .
ونقل عن الحسنِ أنه قال : خاف عليهم العين ، فقال : { لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ } ثُمَّ رجع إلى علمه ، فقال : { وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ } ، وعرف أن العين ليست بشيء .
وكان قتادة يفسِّر الآية بإصابة العين ، ويقول : ليس في قوله : { وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ } إبطال له ؛ لأن العين ، وإن صحّ فاللهُ قادر على دفع أثره .
وقال النَّخعيُّ : كان عالماً بأنَّ مالك مصر هو ولده يوسف إلاَّ أنَّ الله تبارك وتعالى ما أذن لهُ في إظهار ذلك ، فلمَّا بعث أولاده إليه ، وقال : { لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ } ، وكان غرضه أن يصل بنيامين إلى يوسف في وقت الخلوة ، وقوله : { وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ } فالإنسان مأمورٌ بأن يراعي الأسباب المُعتبرة في هذا العالم ، ومأمورٌ بأن يجزم بأنَّه لا يصل إليه إلاَّ ما قدره الله تعالى وأنَّ الحذر لا يُنْجِي من القدرِ ، فإنَّ الإنسان مأمور بالحَذرِ عن الأشياءِ المُهلكةِ ، والأغذيةِ الضَّارةِ ، وبالسَّعي في تحصيل المنافع ، ودفع المضار بقدر الإمكان ، ثمَّ مع ذلك ينبغي أن يكن جازماً بأنَّه لا يصل إليه إلاَّ ما قدره الله ولا يحصل في الوجود إلاَّ ما أراد اللهُ ، فقوله عليه الصلاة والسلام { لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ } إشارة إلى رعاية الأسباب المعتبرة في هذا العالم ، وقوله { وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ } إشارة إلى عدم الالتفات إلى الأسباب وإلى الالتفات إلى التَّوحيدِ المحض ، والبراءة عن كُلِّ شيءٍ سوى الله تعالى .
فإن قيل : كيف السَّبيلُ إلى الجمعِ بين هذه القولين ؟ .
فالجوابُ : أنَّ هذا السُّؤال غير مختصٍّ به ، فإنه لا نزاع في أنَّه لا بدَّ من إقامة الطَّاعات والاحْترازِ من السَّيئاتِ ، مع أنَّا نعتقدُ أنَّ السَّعيدَ من سعد في بطن أمه ، والشَّقي من شَقِيَ في بطن أمِّه ، فكذا هاهنا .
وأيضاً : نأكلُ ، ونشربُ ، ونحترزُ عن السموم ، وعن الدُّخولِ في النَّار ، مع أنَّ الموت والحياة لا يحصلان إلا بتقدير الله سبحانه وتعالى ، فكذا ههنا ، فظهر أنَّ السؤال ليس مختصًّا بهذا المقام ، بل هو بحثٌُ عن سرٍّ مسألة الخيرِ والشرِّ .
والحقُّ أن العبد يجبُ عليه أن يسعى بأقصى الجهد ، والقدرة ، وبعد السَّعي البليغ ، يعلم أنَّ كل ما يدخل في الوجود لا بُدَّ وأن يكن بمشيئة الله عزَّ وجلَّ وسابق حكمه ، وحكمته .
ثم إنَّهُ تعالى أكَّد هذا المعنى ، فقال : { إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ } ، وهذا من أدلِّ الدَّلائل على صحَّةِ القول بالقضاءِ ، والقدر ؛ لأنَّ الحكم عبارة عن الإلزام والمنع ومنه سميت حكمة الدَّابَّة بهذا الاسم ؛ لأنَّها تمنع الدَّابَّة من الحركاتِ الفاسدةِ والحكم إنَّما يمسى حكماً ؛ لأنه يرجح أحد طرفي الممكنِ على الآخر ، بحيثُ يصيرُ الطَّرفُ " الآخر " ممتنع الحصولِ ، فبيَّن تعالى أنَّ الحكم ليس إلاَّ لله ، وذلك يدلُّ على أنَّ جميع الممكنات ترجع إلى قضائه ، وقدرته ، ومشيئته ، وحكمه إمَّا بواسطةٍ ، أو بغير واسطةٍ ، ولذلك فوَّض يعقوب أمرهُ إلى الله تعالى .
ثم قال : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } اعتمدت : { وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون } ، والمعنى : أنَّهُ لمَّا ثبت أنَّ الكُلَّ من الله تعالى ثبت أنَّهُ لا يتوكل إلاَّ على اللهِ سبحانه وتعالى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.