اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَقَالَ يَٰبَنِيَّ لَا تَدۡخُلُواْ مِنۢ بَابٖ وَٰحِدٖ وَٱدۡخُلُواْ مِنۡ أَبۡوَٰبٖ مُّتَفَرِّقَةٖۖ وَمَآ أُغۡنِي عَنكُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٍۖ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُۖ وَعَلَيۡهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ} (67)

قوله تعالى : { وَقَالَ يابني لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ } الآية ، وذلك أنه كان يخافُ عليهم العين ؛ لأنَّهم كانوا أعطوا جمالاً ، وقوة ، وامتداد قامة ، وكانوا ولد رجلٍ واحد ، فأمرهم أن يتفرَّقُوا في دخولها ؛ لئلا يصابوا بالعين ، فإن العين حقٌّ ، ويدل عليه وجوه :

الأول : رُويَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه كان يعوِّذُ الحسن والحسين فيقول : " أعُودُ بِكلمَاتِ اللهِ التّامةِ من كُلِّ شيْطَانٍ وهَامَّةٍ ، و من كُلِّ عَيْنٍ لامَّةٍ " . ويقول : هكذا يُعوذُ إبراهيم إسماعيل وإسحاق صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .

ورُوِيَ عن عبادة بن الصَّامت رضي الله عنه قال : " دَخَلْتُ على رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في أوَّلِ النَّهارِ فَرَأيْتهُ شَديدَ الوَجع ، ثُمَّ عدت إليْهِ آخِرَ النَّهارِ فوَجَدتهُ مُعَافى ، فقال : " إنَّ جِبْريلَ عليه الصلاة والسلام أتَانِي فرقَانِي ، فقال : بسمِ اللهِ أرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيءٍ يُؤذِيكَ ، ومِنْ كُلِّ عَيْنٍ وحَاسدٍ اللهُ يَشْفِيكَ ، قال صلواتُ اللهِ وسلامُه عليْهِ فأفَقْتُ " .

" وأتِيَ بابْنَي جَعْفَرٍ رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا غلماناً بيضاً ، فقيل : يا رسول الله " إنَّ العيْنَ تسرعُ إليْهِمَا ، أفأسْتَرقِي لهُمَا مِنَ العيْنِ ، فقال صلوات الله وسلامه عليه : نَعَم " .

" ودخل رسول الله بيت أم سلمة رضي الله عنهما وعندها صَبِيٌّ يَشْتَكِي فقَالُوا يَا رَسُول اللهِ : أصَابَتْهُ العَيْنُ ، فقال صلى الله عليه وسلم : " ألا تَسْتَرقُونَ لَهُ مِنَ العَيْنِ " .

وقال صلى الله عليه وسلم : " العَيْنُ حقٌّ ولوْ كَانَ شَيءٌ يَسْبِقُ القَدرَ لسَبقَتِ العيْنُ القدرَ " .

وجاء في الأثرِ : " إن العين تُدخِلْ الرَّجُلَ القبر والجَمَل القِدْرَ " .

وقالت عائشة رضي الله عنهما : " كَانَ يَأمرُ العَائِنَ أنْ يَتوضَّأ ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ المَعِينُ الذي أصيبَ بالعَيْنِ " .

والذين أثبتُوا العين قالوا : إنه يبدو من العَيْنِ أجزاءُ ، فتتصل بالشيء المستحسن ؛ فتُؤثِّر ، وتسري فيه ، كما يؤثر السُّم النار ، والنصوصُ النبويةُ نطقت به ، والتجاربُ من الزمن القديم ساعدت عليه .

وروى الزمخشري في كتاب " ربيع الأبْرارِ " ، قال الجاحظُ : علماءُ الفرس ، والهندِ ، وأطباءُ اليونانيين ، ودهاةُ العرب ، وأهل التجربة من نازلة الأمصار ، وحذَّاق المتكلمين ، يكرهُون الأكل بين يدي السٍّباع ؛ يَخافُونَ عُيُونها ؛ لِمَا فيها من النَّهم ، والشَّره ، ولما ينحلُّ عند ذلك من أجوافها من البخار الرَّديءِ ، وينفصل من عيونها إذا خالط الإنسان نقصه وأفسده ، وكانوا يكرهون قيام الخدم بالباب والأشربة على رُءُوسهِم مخافة العين ، وكانوا يأمرون بإشباعهم قبل أن يأكلوا ، وكانوا يقولون في الكلب السِّنورِ : إمَّا أن يطرد ، وإمَّا أن يشغل بما يطرح له ، قال : ونظيره : أن الرجل يضربُ الحية بعصاً ؛ فيموتُ الضاربُ ؛ لأنَّ السُّمَّ فصل من الحيةِ ، فسرى فيه حتى داخله ، ويديم الإنسانُ النظر إلى العين المحمرة ؛ فيعتري عينه حمرة .

وعن الأصمعيِّ رحمه الله : أنَّ عَيُوناً كان يقول : إذا رأت الشَّيْء يعجبني ، وجدتُ حرارة تخرج من عيني .

وعنه : كان عندنا عيَّانان ، فمرَّ أحدهما بحوض من حجارةٍ ، فقال : بالله ، ما رأيت كاليوم مثله ، فانصدع فلقتين ، فصُبَّ ، فمرَّ عليه فقال : رأيتك تقل ما خزرت أهْلَكَ فيكَ ، فتَطَايَرَ أرْبعاً .

وسمع آخرُ صوت بولِ من وراء جدار فقال : إنَّك تراني كثير الشَّخب جيِّد البول ، قالوا : هذا آتيك ، قال : وانقطع ظهراهُ ، فقيل : لا بأس فقال : لا يبولُ بعدها أبداً ، فما بال حتَّى مات .

وسمع صوت شخب بقرة فأعجبه ، فقال : أيتهُنَّ هذه ، فواروا بأخرى عنها ؛ فهلكتا جميعاً ، المُورَى بها ، والمُورَى عنها .

والمنقولاتُ في هذا كثيرة ؛ فثبت أنَّ الإصابة بالعين حقٌّ ، لا يمكن إنكارهُ .

قال القرطبيُّ : وإذا كان هذا معنى الآيةِ ؛ فيكون فيها دليلٌ على التَّحرُّزِ من العين ، وواجب على كل مسلم إذا أعجبه شيء أن يبرك ، فإنه إذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة ، ألا ترى لقوله صلوات الله وسلامه عليه : " ألاَ برَّكْتَ " فدلَّ على أنَّ العين لا تضرُّ ، ولا تعدو إذا برَّك العَائِنُ ، وأنها إنَّما تعدو ؛ إذا لم يبرك ، والتَّبْرِيكُ أن يقول : " تَبارَك اللهُ أحْسَنُ الخَالقينَ ، اللَّهُمَّ بَارِك فِيهِ " وإذا أصاب العائن بعينه ؛ فإنَّه يُؤمَرُ بالاغتِسَالِ ، ويجبرُ على ذلك إن أبى ؛ لأنَّ الأمر للوجوب ، ولا سيِّما هنا ، فإنَّه يخاف على المعين الهلاك ، ولا ينبغي لأحدٍ أن يمنع أخاهُ ما ينتفع به ، ولا يضرهُ هو ، ولا سيما غذا كان بسببه ، كان الجاني عليه .

قال القرطبيُّ : " مَنْ عُرِفَ بالإصاَبَةِ بالعيْنِ مُنِعَ مِنْ مُداخَلةِ النَّاس دفعاً للضَّرُورةِ " .

وقال بعضُ العلماءِ : يأَمره الإمامُ بلزوم بيته ، وإن كان فقيراً رزقه ما يقوم بهِ ، ويكفّ أذاه عن الناس .

وقيل : يُنفَى . والَّذي ورد في الحديث أنَّهُ لم ينفِ العَائن ، ولا أمره بِلزُومِ بيته ولا حبسه ، بل قالوا : يكونُ الرَّجُل الصَّالحُ عائناً ، وأنه لا يقدحُ فيه ، ولا يفسَّقُ به ومن قال : يحبس ، ويؤمر بلزوم بيته ؛ فذلك للاحتياط ، ودفع ضرره .

قال الجبائيُّ : إنَّ أبناء يعقوب اشتهروا ، وتحدَّث النَّاسُ بهم ، وبحسنهم ، وكمالهم فقال : " لا تَدْخُلُوا " تلك المدينة " مِنْ بابِ واحدٍ " على ما أنتم عليه من العددِ ، والهيئة ، ولم يأمن عليهم حسد النَّاس ، أو قال : لم يأمن عليهم أن يخافهم الملك على ملكه ، فيحبسهم .

وهذا وجهٌ محتملٌ لا إنكار فيه إلاَّ أنَّ القول الأوَّل أولى ؛ لأنَّه لا امتناع فيه بحسب العقلِ ، والعرف كما بيَّنا ، والمتقدِّمُون من المفسرين أطبقوا عليه ، فوجب المصيرُ إليه .

ونقل عن الحسنِ أنه قال : خاف عليهم العين ، فقال : { لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ } ثُمَّ رجع إلى علمه ، فقال : { وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ } ، وعرف أن العين ليست بشيء .

وكان قتادة يفسِّر الآية بإصابة العين ، ويقول : ليس في قوله : { وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ } إبطال له ؛ لأن العين ، وإن صحّ فاللهُ قادر على دفع أثره .

وقال النَّخعيُّ : كان عالماً بأنَّ مالك مصر هو ولده يوسف إلاَّ أنَّ الله تبارك وتعالى ما أذن لهُ في إظهار ذلك ، فلمَّا بعث أولاده إليه ، وقال : { لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ } ، وكان غرضه أن يصل بنيامين إلى يوسف في وقت الخلوة ، وقوله : { وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ } فالإنسان مأمورٌ بأن يراعي الأسباب المُعتبرة في هذا العالم ، ومأمورٌ بأن يجزم بأنَّه لا يصل إليه إلاَّ ما قدره الله تعالى وأنَّ الحذر لا يُنْجِي من القدرِ ، فإنَّ الإنسان مأمور بالحَذرِ عن الأشياءِ المُهلكةِ ، والأغذيةِ الضَّارةِ ، وبالسَّعي في تحصيل المنافع ، ودفع المضار بقدر الإمكان ، ثمَّ مع ذلك ينبغي أن يكن جازماً بأنَّه لا يصل إليه إلاَّ ما قدره الله ولا يحصل في الوجود إلاَّ ما أراد اللهُ ، فقوله عليه الصلاة والسلام { لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ } إشارة إلى رعاية الأسباب المعتبرة في هذا العالم ، وقوله { وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ } إشارة إلى عدم الالتفات إلى الأسباب وإلى الالتفات إلى التَّوحيدِ المحض ، والبراءة عن كُلِّ شيءٍ سوى الله تعالى .

فإن قيل : كيف السَّبيلُ إلى الجمعِ بين هذه القولين ؟ .

فالجوابُ : أنَّ هذا السُّؤال غير مختصٍّ به ، فإنه لا نزاع في أنَّه لا بدَّ من إقامة الطَّاعات والاحْترازِ من السَّيئاتِ ، مع أنَّا نعتقدُ أنَّ السَّعيدَ من سعد في بطن أمه ، والشَّقي من شَقِيَ في بطن أمِّه ، فكذا هاهنا .

وأيضاً : نأكلُ ، ونشربُ ، ونحترزُ عن السموم ، وعن الدُّخولِ في النَّار ، مع أنَّ الموت والحياة لا يحصلان إلا بتقدير الله سبحانه وتعالى ، فكذا ههنا ، فظهر أنَّ السؤال ليس مختصًّا بهذا المقام ، بل هو بحثٌُ عن سرٍّ مسألة الخيرِ والشرِّ .

والحقُّ أن العبد يجبُ عليه أن يسعى بأقصى الجهد ، والقدرة ، وبعد السَّعي البليغ ، يعلم أنَّ كل ما يدخل في الوجود لا بُدَّ وأن يكن بمشيئة الله عزَّ وجلَّ وسابق حكمه ، وحكمته .

ثم إنَّهُ تعالى أكَّد هذا المعنى ، فقال : { إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ } ، وهذا من أدلِّ الدَّلائل على صحَّةِ القول بالقضاءِ ، والقدر ؛ لأنَّ الحكم عبارة عن الإلزام والمنع ومنه سميت حكمة الدَّابَّة بهذا الاسم ؛ لأنَّها تمنع الدَّابَّة من الحركاتِ الفاسدةِ والحكم إنَّما يمسى حكماً ؛ لأنه يرجح أحد طرفي الممكنِ على الآخر ، بحيثُ يصيرُ الطَّرفُ " الآخر " ممتنع الحصولِ ، فبيَّن تعالى أنَّ الحكم ليس إلاَّ لله ، وذلك يدلُّ على أنَّ جميع الممكنات ترجع إلى قضائه ، وقدرته ، ومشيئته ، وحكمه إمَّا بواسطةٍ ، أو بغير واسطةٍ ، ولذلك فوَّض يعقوب أمرهُ إلى الله تعالى .

ثم قال : { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } اعتمدت : { وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون } ، والمعنى : أنَّهُ لمَّا ثبت أنَّ الكُلَّ من الله تعالى ثبت أنَّهُ لا يتوكل إلاَّ على اللهِ سبحانه وتعالى .