السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَقَالَ يَٰبَنِيَّ لَا تَدۡخُلُواْ مِنۢ بَابٖ وَٰحِدٖ وَٱدۡخُلُواْ مِنۡ أَبۡوَٰبٖ مُّتَفَرِّقَةٖۖ وَمَآ أُغۡنِي عَنكُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٍۖ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُۖ وَعَلَيۡهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ} (67)

{ و } لما عزموا على الخروج إلى مصر وكانوا موصوفين بالكمال والجمال وأبناء رجل واحد { قال } لهم { يا بني لا تدخلوا } إذا قدمتم إلى مصر { من باب واحد } من أبوابها { وادخلوا من أبواب } واحترز من أن تكون متلاصقة أو متقاربة جداً بقوله : { متفرّقة } ، أي : تفرّقا كثيراً ، وهذا حكم التكليف لئلا يصابوا بالعين ، وهي من قدر الله تعالى .

وقد ورد شرعنا بذلك ففي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «العين حق » . وفي رواية عن أحمد «يحضرها الشيطان وحسد ابن آدم » . وفي رواية لمسلم : «العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين » . وفي رواية عن جابر : «إنّ العين لتدخل الجمل القدر والرجل القبر » ، وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول : «أعيذكما بكلمات الله التامّة من كل شيطان وهامّة ومن كل عين لامّة » . ويقول : «هكذا كان يعوّذ إبراهيم إسماعيل وإسحاق » صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر النبيين ، وعن عبادة بن الصامت قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوّل النهار فوجدته شديد الوجع ، ثم عدت إليه في آخر النهار فرأيته معافى فقال : «إنّ جبريل عليه السلام أتاني فرقاني فقال : بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من كل عين وحاسد الله يشفيك ، قال فأفقت » وفي رواية أنّ بني جعفر بن أبي طالب كانوا غلماناً بيضاً فقالت أسماء : يا رسول الله ، إنّ العين إليهم سريعة فاسترق لهم من العين ؟ فقال لها : «نعم » . وفي رواية دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت أمّ سلمة وعندها صبي يشتكي فقالوا : يا رسول الله أصابته العين . فقال : «أما تسترقون له من العين » . وعن عائشة رضي الله تعالى عنها «كان يؤمر العائن أن يتوضأ ثم يغتسل منه المعين الذي أصيب بالعين » .

ولما خاف يعقوب عليه السلام أن يسبق من أمره هذا إلى بعض الأوهام أنّ الحذر يغني عن القدر نفى ذلك بقوله عليه السلام { وما أغني } ، أي : أدفع { عنكم } بقولي ذلك { من الله من شيء } قدره عليكم ، وإنما ذلك شفقة ، ومن مزيدة للتأكيد ، واعلم أنّ الإنسان مأمور بأن يراعي الأسباب المعتبرة في هذا العالم بأن يجزم بأنه لا يحصل الا ما قدره الله تعالى وإن الحذر لا يدفع القدر ، فالإنسان مأمور بأن يحذر الأشياء المهلكة والأغذية الضارة ، ويسعى في تحصيل المنافع ودفع المضارّ بقدر الإمكان ، ومع ذلك يكون جازماً بأنه لا يصل إليه إلا ما قدّره الله تعالى ، ولا يحصل في الوجود إلا ما أراده الله تعالى ، فقوله عليه السلام : { لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة } إشارة إلى رعاية الأسباب المعتبرة في هذا العالم ، وقوله : { وما أغني عنكم من الله من شيء } إشارة إلى عدم الالتفات إلى الأسباب بل إلى التوحيد المحض ، والبراءة من كل شيء سوى الله تعالى . ولما قصر الأمر كله إليه تعالى وجب رد كل أمر إليه ، وقصر النظر عليه ، فقال منبهاً على ذلك { إن الحكم إلا لله } وحده الذي ليس الحكم إلا له { عليه } ، أي : على الله وحده { توكلت } ، أي : جعلته وكيلي فرضيت بكل ما يفعل { وعليه } وحده { فليتوكل المتوكلون } ، أي : الثابتون في باب التوكل ، فإنّ ذلك من أعظم الواجبات من فعله فاز ومن أغفله خاب ، وقد ثبت بالبرهان أن لا حكم إلا لله ، فلزم القطع بأنّ حصول كل الخيرات ودفع كل الآفات من الله تعالى ، وذلك يوجب أن لا توكل إلا على الله تعالى ، فهذا مقام شريف عال .

والشيخ أبو حامد الغزالي أكثر في تقرير هذا المعنى في كتاب التوكل من كتب «إحياء علوم الدين » فمن أراد الاستقصاء فيه فليطالع ذلك الكتاب .