فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَقَالَ يَٰبَنِيَّ لَا تَدۡخُلُواْ مِنۢ بَابٖ وَٰحِدٖ وَٱدۡخُلُواْ مِنۡ أَبۡوَٰبٖ مُّتَفَرِّقَةٖۖ وَمَآ أُغۡنِي عَنكُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَيۡءٍۖ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ عَلَيۡهِ تَوَكَّلۡتُۖ وَعَلَيۡهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ} (67)

لما تجهز أولاد يعقوب للمسير إلى مصر خاف عليهم أبوهم أن تصيبهم العين ؛ لكونهم كانوا ذوي جمال ظاهر ، وثياب حسنة مع كونهم أولاد رجل واحد . فنهاهم أن يدخلوا مجتمعين من باب واحد ، لأن في ذلك مظنة لإصابة الأعين لهم ، وأمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة ، ولم يكتف بقوله : { لاَ تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ } عن قوله : { وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ } لأنهم لو دخلوا من بابين مثلاً كانوا قد امتثلوا النهي عن الدخول من باب واحد ، ولكنه لما كان في الدخول من بابين مثلاً نوع اجتماع يخشى معه أن تصيبهم العين ، أمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرّقة ، قيل : وكانت أبواب مصر أربعة .

وقد أنكر بعض المعتزلة كأبي هاشم ، والبلخي ، أن للعين تأثيراً ، وقالا : لا يمتنع أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به كانت المصلحة له في تكليفه أن يغير الله ذلك الشيء حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف معلقاً به . وليس هذا بمستنكر من هذين وأتباعهما ، فقد صار دفع أدلة الكتاب والسنّة بمجرد الاستبعادات العقلية دأبهم وديدنهم ، وأيّ مانع من إصابة العين بتقدير الله سبحانه لذلك ؟ وقد وردت الأحاديث الصحيحة بأن العين حقّ ، وأصيب بها جماعة في عصر النبوّة ، ومنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأعجب من إنكار هؤلاء لما وردت به نصوص هذه الشريعة ما يقع من بعضهم من الإزراء على من يعمل بالدليل المخالف لمجرد الاستبعاد العقلي والتنطع في العبارات كالزمخشري في تفسيره ، فإنه في كثير من المواطن لا يقف على دفع دليل الشرع بالاستبعاد الذي يدّعيه على العقل حتى يضمّ إلى ذلك الوقاحة في العبارة على وجه يوقع المقصرين في الأقوال الباطلة ، والمذاهب الزائفة ، وبالجملة فقول هؤلاء مدفوع بالأدلة المتكاثرة وإجماع من يعتدّ به من هذه الأمة سلفاً وخلفاً ، وبما هو مشاهد في الوجود ، فكم من شخص من هذا النوع الإنساني وغيره من أنواع الحيوان هلك بهذا السبب .

وقد اختلف العلماء فيمن عرف بالإصابة بالعين ، فقال قوم : يمنع من الاتصال بالناس دفعاً لضرره بحبس أو غيره من لزوم بيته . وقيل : ينفي ، وأبعد من قال إنه يقتل ، إلاّ إذا كان يتعمد ذلك ، وتتوقف إصابته على اختياره وقصده ولم ينزجر عن ذلك ، فإنه إذا قتل كان له حكم القاتل . ثم قال يعقوب لأولاده { وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ الله مِن شَيْء } أي : لا أدفع عنكم ضرراً ولا أجلب إليكم نفعاً بتدبيري هذا ، بل ما قضاه الله عليكم فهو واقع لا محالة . قال الزجاج وابن الأنباري : لو سبق في علم الله أن العين تهلكهم مع الاجتماع لكان تفرّقهم كاجتماعهم . وقال آخرون : ما كان يغني عنهم يعقوب شيئاً قط ، حيث أصابهم ما أصابهم مع تفرقهم من إضافة السرقة إليهم ، ثم صرح يعقوب بأنه لا حكم إلا لله سبحانه فقال : { إِنِ الحكم إِلاَّ لله } لا لغيره ولا يشاركه فيه مشارك في ذلك { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } في كل إيراد وإصدار لا على غيره أي : اعتمدت ووثقت { وَعَلَيْهِ } لا على غيره { فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون } على العموم ، ويدخل فيه أولاده دخولاً أوّلياً .

/خ76