المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ لَمۡ يَكُن مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ} (11)

11- وفي أخبار الأولين عبر ومواعظ ، يتضح فيها أن الشيطان يحاول أن يزيل عنكم النعم بنسيانكم أمر الله ، فقد خلقنا أباكم آدم ، ثم صورناه ، ثم قلنا للملائكة : عظموه فعظموه طاعة لأمر ربهم ، إلا إبليس فإنه لم يمتثل .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ لَمۡ يَكُن مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ} (11)

يقول تعالى مخاطبا لبني آدم : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ } بخلق أصلكم ومادتكم التي منها خرجتم : أبيكم آدم عليه السلام { ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } في أحسن صورة ، وأحسن تقويم ، وعلمه الله تعالى ما به تكمل صورته الباطنة ، أسماء كل شيء .

ثم أمر الملائكة الكرام أن يسجدوا لآدم ، إكراما واحتراما ، وإظهارا لفضله ، فامتثلوا أمر ربهم ، { فَسَجَدُوا } كلهم أجمعون { إِلَّا إِبْلِيسَ } أبى أن يسجد له ، تكبرا عليه وإعجابا بنفسه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ لَمۡ يَكُن مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ} (11)

وفضلا عن ذلك فنحن الذين خلقنا أباكم آدم من طين غير مصور ، ثم صورناه بعد ذلك .

أو المعنى نحن الذين خلقناكم في ظهر آدم . ثم صورناكم حين أخذنا عليكم الميثاق ، ثم أمرنا بعد ذلك ملائكتنا بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس فإنه لم يكن من الساجدين .

والسجود : لغة ، التذلل والخضوع مع انخفاض بانحناء وغيره ، وخص في الشرع بوضع الجبهة على الأرض بقصد العبادة .

وللعلماء أقوال في كيفية السجود الذي أمر الله به الملائكة لآدم وأرجح هذه الأقوال . أن السجود المأمور به في الآية يحمل على المعنى المعروف في اللغة . أى : أن الله - تعالى - أمرهم بفعل تجاه آدم يكون مظهرا من مظاهر التواضع والخضوع له تحية وتعظيما ، وإقراراً له بالفضل دون وضع الجبهة على الأرض الذي هو عبادة ، إذ عبادة غير الله شرك يتنزه الملائكة عنه ، وعلى هذا الرأى سار علماء أهل السنة .

وقيل إن السجود كان لله . وآدم إنما كان كالقبلة يتوجه إليه الساجدون تحية له . وإلى هذا الرأى اتجه علماء المعتزلة ، وقد قالوا ذكل هربا من أن تكون الآية الكريمة حجة عليهم ، إذ أن أهل السنة قالوا : إبليس من الملائكة والصالحون من البشر أفضل من الملائكة . واحتجوا بسجود الملائكة لآدم وخالفت المعتزلة في ذلك ، وقالت الملائكة أفضل من البشر ، وسجود الملائكة لآدم كان كالقبلة .

والذى نراه أن ما سار عليه أهل السنة أرجح لأن ما ذهب إليه المعتزلة يبعده أن المقام مقام لإظهار فضل آجم على الملائكة ، وإظهار فضله عليهم لا يتحقق بمجرد كونه قبلة للسجود : وأمر الله الملائكة بالسجود لآدم ، هو لون من الابتلاء والاختبار ، ليميز الله الخبيث من الطيب ، وينفذ ما سبق به العلم واقتضته المشيئة والحكم .

وإبليس : اسم مشتق من الإبلاس ، وهو الحزن الناشىء عن شدة اليأس وفعله بلس . والراجح أنه اسم أعجمى ، ومنعه من الصرف للعلمية والعجمة وهو كائن حى ، وقد أخطأ من حمله على معنى داعى الشر الذي يخطر في النفوس ، إذ ليس من المعقول أن يكون ذلك مع أن القرآن أخبرنا بأنه يرى الناس ولا يرونه . قال - تعالى - : { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ }

وللعلماء في كون إبليس من الملائكة أولا قولان :

أحدهما : أنه كان منهم ، لأنه - سبحانه - أمرهم بالسجود لأدم ، ولولا أنه كان منهم لما توجه إليه الأمر بالسجود ، ولو لم يتوجه إليه الأمر بالسجود لم يكن عاصياً ولما استحق الخزى والنكال ، ولأن الأصل في المستثنى أن يكون داخلا تحت اسم المستثنى منه حتى يقوم دليل على أنه خارج عنه .

والثانى : أنه ليس منهم لقوله - تعالى - : { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } فهو أصل الجن ، كما أن آدم أصل الإنس ، ولأنه خلق من نار ، والملائكة خلقوا من نور ، ولأن له ذرية ولا ذرية للملائكة .

ففى هاتين الآيتين بيان لنعمتين عظيمتين من نعم الله على عباده :

أولاهما : نعمة التمكين في الأرض واتخاذهم إيها وطنا مزوداً بضروب شتى مما يحتاجون إليه من معايشهم وما به قوام حياتهم وكمالها .

وثانيهما : نعمة خلقهم من أب واحد ، تجمعهم به رحم واحدة ، وبسببها كانوا خلفاء في الأرض وفى عمارة الكون ، وفضلوا على كثير من الخلق ، فكان الواجب عليهم أن يقابلوهما بالشكر والإيمان .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ لَمۡ يَكُن مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ} (11)

{ ولقد خلقناكم ثم صورناكم } أي خلقنا أباكم آدم طينا غير مصور ثم صورناه . نزل خلقه وتصويره منزلة خلق الكل وتصويره ، أو ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بأن خلقنا آدم ثم صورناه . { ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } وقيل ثم لتأخير الإخبار . { فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين } ممن سجد لآدم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ لَمۡ يَكُن مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ} (11)

عطف على جملة : { ولقد مكناكم في الأرض } [ الأعراف : 10 ] تذكيراً بنعمة إيجاد النّوع ، وهي نعمة عناية ، لأنّ الوجود أشرف من العدم ، بقطع النّظر عما قد يعرض للموجود من الأكدار والمتاعب ، وبنعمة تفضيله على النّوع بأنْ أمَر الملائكة بالسّجود لأصله ، وأُدمج في هذا الامتنان تنبيهٌ وإيقاظ إلى عداوة الشّيطان لنوع الإنسان من القِدم ، ليكون ذلك تمهيداً للتّحذير من وسوسه وتضليله ، وإغراء بالإقلاع عمّا أوقع فيه النّاس من الشّرك والضّلالة ، وهو غرض السورة ، وذلك عند قوله تعالى : { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } [ الأعراف : 27 ] ومَا تلاه من الآيات ، فلذلك كان هذا بمنزلة الاستدلال وُسِّط في خلال الموعظة .

والخطاب للنّاس كلّهم ، والمقصود منه المشركون ، لأنّهم الغرض في هذه السورة .

وتأكيد الخبر باللاّم و ( قد ) للوجه الذي تقدّم في قوله : { ولقد خلقناكم } ، وتعدية فعلي الخلق والتّصوير إلى ضمير المخاطبين ، لما كان على معنى خلق النّوع الذي هم من أفراد تعيّن أن يكون المعنى : خلقنا أصلكم ثمّ صوّرناه ، وهو آدم ، كما أفصح عنه قوله : { ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } .

والخلق الإيجاد وإبراز الشّيء إلى الوجود ، وهذا الإطلاق هو المراد منه عند إسناده إلى الله تعالى أو وَصْف الله به .

والتّصوير جعل الشّيء صورة ، والصّورة الشّكل الذي يشكّل به الجسم كما يشكّل الطين بصورة نوع من الأنواع .

وعطفت جملة { صورناكم } بحرف ( ثمّ ) الدّالة على تراخي رتبة التّصوير عن رتبة الخلق ، لأنّ التّصوير حالة كمال في الخلق بأن كان الإنسان على الصورة الإنسانيّة المتقنة حسناً وشرفاً ، بما فيها من مشاعر الإدراك والتّدبير ، سواء كان التّصوير مقارناً للخلق كما في خلق آدم ، أم كان بعد الخلق بمدّة ، كما في تصوير الأجنّة من عظام ولحم وعصب وعروق ومشاعر ، كقوله تعالى : { فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً } [ المؤمنون : 14 ] .

وتعدية فعلي ( خلقنا ) و ( صوّرنا ) إلى ضمير الخطاب ينتظم في سلك ما عاد إليه الضّمير قبله في قوله : { ولقد مكناكم في الأرض } [ الأعراف : 10 ] الآية فالخطاب للنّاس كلّهم توطئة لقوله فيما يأتي : { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } [ الأعراف : 27 ] والمقصود بالخصوص منه المشركون لأنّهم الذين سوّل لهم الشّيطان كفران هذه النّعم لقوله تعالى عقب ذلك : { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا } [ الأعراف : 28 ] وقوله فيما تقدّم : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون } [ الأعراف : 3 ] .

وأمّا تعلُّق فعلي الخلق والتّصوير بضمير المخاطبين فمراد منه أصل نوعهم الأوّل وهو آدم بقرينة تعقيبه بقوله : ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فنُزل خلق أصل نوعهم منزلةَ خلق أفراد النّوع الذين منهم المخاطبون لأنّ المقصود التّذكير بنعمة الإيجاد ليشكروا موجدهم ونظيره قوله تعالى : { إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية } [ الحاقة : 11 ] أي حملنا أصولكم وهم الذين كانوا مع نوح وتناسل منهم النّاس بعد الطّوفان ، لأنّ المقصود الامتنان على المخاطبين بإنجاء أصولهم الذين تناسلوا منهم ، ويجوز أن يؤول فعلا الخلق والتّصوير بمعنى إرادة حصول ذلك ، كقوله تعالى : حكاية عن كلام الملائكة مع إبراهيم : { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين } [ الذاريات : 35 ] أي أردنا إخراج من كان فيها ، فإن هذا الكلام وقع قبل أمر لوط ومَن آمن به بالخروج من القرية .

ودلّ قوله : { ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } على أنّ المخلوق والمصوّر هو آدم ، ومعنى الكلام خلقنا أصلكم وصوّرناه فبرز موجوداً معيَّناً مسمّى بآدم ، فإنّ التّسمية طريق لتعيين المسمّى ، ثمّ أظهرنا فضله وبديع صنعنا فيه فقلنا للملائكة اسجدوا له فوقع إيجاز بديع في نسج الكلام .

و ( ثُمّ ) في قوله : { ثم قال للملائكة اسجدوا لآدم } عاطفةٌ الجملةَ على الجملة فهي مقيّدة للتّراخي الرّتبي لا للتّراخي الزّماني وذلك أنّ مضمون الجملة المعطوفة هنا أرقى رتبة من مضمون الجملة المعطوف عليها .

وقوله : { ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } ، تقدّم تفسيره ، وبيانُ ما تقدّم أمَر الله الملائكةَ بالسّجود لآدم ، من ظهور فضل ما علمه الله من الأسماء ما لم يَعلِّمه الملائكة ، عند قوله تعالى : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس } في سورة البقرة ( 34 ) .

وتعريف { الملائكة } للجنس فلا يلزم أن يكون الأمر عاماً لجميع الملائكة ، بل يجوز أن يكون المأمورون هم الملائكة ، الذين كانوا في المكان الذي خُلق فيه آدم ، ونقل ذلك عن ابن عبّاس ، ويحتمل الاستغراق لجميع الملائكة . وطريق أمرهم جميعاً وسجودِهم جميعاً لآدم لا يعلمه إلاّ الله ، لأنّ طرق علمهم بمراد الله عنهم في العالم العلوي لا تقاس على المألوف في عالم الأرض .

واعلم أن أمر الله الملائكة بالسّجود لآدم لا يقتضي أن يكون آدمُ قد خلق في العالم الذي فيه الملائكة بل ذلك محتمل ، ويحتمل أنّ الله لمّا خلق آدم حشر الملائكة ، وأطلعهم على هذا الخلق العجيب ، فإنّ الملائكة ينتقلون من مكان إلى مكان فالآية ليست نصّاً في أنّ آدم خلق في السّماوات ولا أنّه في الجنّة التي هي دار الثّواب والعقاب ، وإن كان ظاهرها يقتضي ذلك ، وبهذا الظاهر أخذ جمهور أهل السنّة ، وتقدّم ذلك في سورة البقرة . واستثناء إبليس من الساجدين في قوله : { إلا إبليس } يدلّ على أنّه كان في عداد الملائكة لأنّه كان مختلطا بهم . وقال السكاكي في « المفتاح » عُدّ إبليس من الملائكة بحكم التّغليب .

وجملة : عغتاة ، { لم يكن من الساجدين } حال من ( إبليس ) ، وهي حال مؤكدة لمضمون عاملها وهو ما دلّت عليه أداة الاستثناء ، لما فيها من معنى : أستثنِي ، لأنّ الاستثناء يقتضي ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنَى ، وهو عين مدلول : لم يكن من الساجدين فكانت الحال تأكيداً . وفي اختيار الاخبار عن نفي سجوده بجعْلِه من غير السّاجدين : إشارة إلى أنّه انتفى عنه السّجود انتفاء شديداً لأنّ قولك لم يكن فلان من المهتدين يفيد من النّفي أشدّ ممّا يفيده قولك لم يكن مُهتدياً كما في قوله تعالى : { قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين } في سورة الأنعام ( 56 ) .

ففِي الآية إشارة إلى أنّ الله تعالى خلق في نفس إبليس جبلة تدفعه إلى العصيان عندما لا يوافق الأمر هواه ، وجعل له هوىً ورأياً ، فكانت جبلته مخالفة لجبلة الملائكة . وإنّما استمرّ في عِداد الملائكة لأنّه لم يَحدث من الأمر ما يخالف هواه ، فلمّا حدث الأمرُ بالسّجود ظَهر خُلق العصيان الكامِنُ فيه ، فكان قوله تعالى : { لم يكن من الساجدين } إشارة إلى أنّه لم يقدّر له أن يكون من الطائفة السّاجدين ، أي انتفى سجوده انتفاء لارجاء في حصوله بعدُ ، وقد عُلِم أنّه أبى السّجود إباء وذلك تمهيداً لحكاية السّؤال والجواب في قوله : { قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك } .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ لَمۡ يَكُن مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ} (11)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: تأويل ذلك:"وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ" في ظهر آدم أيها الناس، "ثُمّ صَوّرْناكُمْ "في أرحام النساء خلقا مخلوقا ومثالاً ممثّلاً في صورة آدم.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولقد خلقناكم في أصلاب آبائكم ثم صوّرناكم في بطون أمهاتكم.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: "خَلَقْناكُمْ" يعني آدم، "ثُمّ صَوّرْناكُمْ" يعني في ظهره.

وقال آخرون: معنى ذلك: ولقد خلقناكم في بطون أمهاتكم، ثم صورناكم فيها.

وأولى الأقوال بالصواب قول من قال: تأويله: "وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ": ولقد خلقنا آدم، "ثُمّ صَوّرْناكُمْ" بتصويرنا آدم، وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لأن الذي يتلو ذلك قوله: "ثُمّ قُلْنا للمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لاَدَمَ" ومعلوم أن الله تبارك وتعالى قد أمر الملائكة بالسجود لآدم قبل أن يصوّر ذرّيته في بطون أمهاتهم، بل قبل أن يخلق أمهاتهم.

وأما قوله: "ثم قلنا للْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لاَدَمَ" فإنه يقول جلّ ثناؤه: فلما صوّرنا آدم وجعلناه خلقا سويّا، ونفخنا فيه من روحنا، قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم، ابتلاءً منا واختبارا لهم بالأمر، ليعلم الطائع منهم من العاصي "فَسَجَدُوا" يقول: فسجد الملائكة "إلاّ إبْلِيسَ" فإنه "لَمْ يَكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ" لآدم حين أمره الله مع من أمر من سائر الملائكة غيره بالسجود...

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

هذا خطاب من الله تعالى لخلقه بأنه خلقهم. والخلق هو: إحداث الشيء على تقدير تقتضيه الحكمة، لا زيادة على ما تقتضيه فيخرج إلى الإسراف، ولا ناقص عنه فيخرج إلى الإقتار. وقد استوفينا اختلاف الصور، والصورة: بنية مقومة على هيئة ظاهرة.

وقوله "ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم "فالسجود هو وضع الجبهة على الأرض، وأصله الانخفاض...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم} يعني خلقنا أباكم آدم طيناً غير مصوّر، ثم صورناه بعد ذلك.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

...التنبيه على موضع العبرة والتعجيب من غريب الصنعة وإسداء النعمة، فبدأ بالخلق الذي هو الإيجاد بعد العدم ثم بالتصوير في هذه البنية المخصوصة للبشر، وإلا فلم ُيَعَّر المخلوق قط من صورة،...

جهود القرافي في التفسير 684 هـ :

600- أفادت الآية فائدة زائدة على عدم السجود، فإن العرب فرقت بين قولنا "لم يسجد "وبين قولنا: "لم يكن من الساجدين". فالصيغة الأولى يقتصر فيها على مجرد السلب. والصيغة الثانية تقتضي السلب ووصفا آخر هو أن شأنه أن لا يفعل ذلك بجبلته وسجيته. (العقد المنظوم: 2/325)...

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

لمّا تقدّم ما يدلّ على تقسيم المكلفين إلى طائع وعاصٍ فالطائع ممتثل ما أمر الله به مجتنب ما نهى عنه والعاصي بضدّه أخذ ينبّه على أنّ هذا التقسيم كان في البدء الأول من أمر الله للملائكة بالسجود فامتثل من امتثل وامتنع من امتنع، وأنه أمر تعالى آدم ونهى فحكى عنه ما يأتي خبره، فنبّه أولاً على موضع الاعتبار وإبراز الشيء من العدم الصّرف إلى الوجود والتصوير في هذه الصورة الغريبة الشكل المتمكّنة من بدائع الصانع والظاهر أنّ الخطاب عام لجميع بني آدم...

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

ينبه تعالى بني آدم في هذا المقام على شرف أبيهم آدم، ويبين لهم عداوة عدوهم إبليس، وما هو مُنْطَوٍ عليه من الحسد لهم ولأبيهم آدم، ليحذروه ولا يتبعوا طرائقه...

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

{وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم} تذكيرٌ لنعمة عظيمةٍ فائضةٍ على آدمَ عليه السلام ساريةٍ إلى ذريته موجبةٍ لشكرهم كافةً، وتأخيرُه عن تذكير ما وقع قبله من نعمة التمكينِ إما لأنها فائضةٌ على المخاطَبين بالذات وهذه بالواسطة، وإما للإيذان بأن كلا منهما نعمةٌ مستقلةٌ مستوجِبةٌ للشكر على حيالها، فإن رعايةَ الترتيبِ الوقوعيِّ ربما تؤدِّي إلى توهّم عدِّ الكلِّ نعمةً واحدةً كما ذكر في قصة آدمَ. وتصديرُ الجملتين بالقسم وحرفِ التحقيقِ لإظهار كمالِ العناية بمضمونها، وإنما نُسب الخلقُ والتصويرُ إلى المخاطَبين مع أن المرادَ بهما خلقُ آدم عليه السلام وتصويرُه حتماً توفيةً لمقام الامتنانِ حقَّه وتأكيداً لوجوب الشكر عليهم بالرمز إلى أن لهم حظاً من خلقه عليه السلام وتصويرِه لما أنهما ليسا من الخصائص المقصورة عليه،عليه السلام، كسجود الملائكةِ له عليه السلام بل من الأمور الساريةِ إلى ذريته جميعاً إذ الكلُّ مخلوقٌ في ضمن خلقِه على نمطه ومصنوعٌ على شاكلته فكأنهم الذي تعلق به خلقُه وتصويرُه، أي خلقنا أباكم آدمَ طيناً غيرَ مُصوَّرٍ ثم صوَّرناه أبدعَ تصويرٍ وأحسنَ تقويمٍ سارَ إليكم جميعاً...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

هذا شروع في بيان ما أشرنا إليه من خلق أصل هذه النشأة الآدمية، واستعداد الفطرة البشرية وعلاقتها بالأرواح الملكية والشيطانية وما يعرض لها من موانع الكمال بإغواء عدو البشر الشيطان، ويليه ما يترتب عليه من الهداية والإرشاد إلى ما يتقى به ذلك الإغواء والفساد.

قال تعالى:

{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُم} الخطاب لبني آدم والمعنى خلقنا جنسكم أي مادته من الصلصال والحمأ المسنون وهو الماء والطين واللازب المتغير الذي خلق منه الإنسان الأول، ثم صورناكم بأن جعلنا من تلك المادة صورة بشر سوي قابل للحياة، أو قدرنا إيجادكم تقديرا، ثم صورنا مادتكم تصويرا، ومعنى الخلق في أصل اللغة: التقدير، ثم أطلق على إيجاد الشيء المقدر على صفة مخصوصة. قال في حقيقة المادة من أساس البلاغة: خلق الخراز الأديم (أي الجلد) والخياط الثوب قدره قبل القطع، واخلق لهذا الثوب (قال) ومن المجاز خلق الله الخلق أوجده على تقدير أوجبته الحكمة اه. ولكن هذا المجاز اللغوي صار حقيقة شرعية. وهذا التفسير أظهر من حيث اللغة وهو يصدق بخلق آدم وبخلق مجموع الناس فإن كل فرد من الأفراد يقدر الله خلقه ثم يصور المادة التي يخلقه منها في بطن أمه...

والإنسان الأول عندنا وعند أهل الكتاب والهندوس آدم عليه السلام ولذلك قال:

{ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَم} أي قلنا ذلك بعد أن سويناه ونفخنا فيه من روحنا ما جعلناه به خليفة في الأرض وعلمناه الأسماء كلها، كما تقدم تفصيله في سورة البقرة: {فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين} أي لم يكن من جملتهم لأنه أبى واستكبر وفسق عن أمر ربه. وهو من الجن لا منهم... وهذا السجود تكريم من الله لآدم لا سجود عبادة إذ نص القرآن القطعي قد تكرر بأنه لا يعبد إلا الله وحده، أو هو بيان لاستعداد آدم وذريته وما صرفهم الله تعالى به من قوى الأرض التي تدبرها الملائكة بأسلوب التمثيل القصصي، والأمر فيه وفيما بعده تكويني قدري، لا تكليفي شرعي، فهو كقوله في خلق السماوات والأرض: {فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} (فصلت 11) وسيأتي توضيحه في أثناء القصة وفي نهايتها إن شاء الله تعالى.

وقد روي عن ابن عباس أن هذا السجود كرامة كرم الله بها آدم وقال كانت السجدة لآدم والطاعة لله ومثله عن قتادة وزاد أن إبليس حسد آدم على هذا التكريم والدليل على أنه تكريم امتحن الله تعالى به طاعة ذلك العالم الغيبي له فظهرت عصمة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وفسق إبليس، قوله تعالى حكاية عن إبليس في سورة الإسراء {قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا} (الإسراء 62) حسده على هذا التكريم فحمله الحسد على الاستكبار والفسوق عن أمر الله كما صرحت به الآيات المختلفة في البقرة والكهف وغيرها ويدل عليه جواب السؤال التالي: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُك}.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

بعد ذلك تبدأ قصة البشرية بأحداثها المثيرة.. تبدأ بإعلان ميلاد الإنسان في احتفال مهيب، في رحاب الملأ الأعلى.. يعلنه الملك العزيز الجليل العظيم؛ زيادة في الحفاوة والتكريم. وتحتشد له الملائكة -وفي زمرتهم وإن لم يكن منهم إبليس- وتشهده السماوات والأرض؛ وما خلق الله من شيء.. إنه أمر هائل وحدث عظيم في تاريخ هذا الوجود: (ولقد خلقناكم، ثم صورناكم، ثم قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم. فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين.

... فإن مجموع النصوص القرآنية في خلق آدم عليه السلام، وفي نشأة الجنس البشري، ترجح أن إعطاء هذا الكائن خصائصه الإنسانية ووظائفه المستقلة، كان مصاحباً لخلقه. وأن الترقي في تاريخ الإنسان كان ترقياً في بروز هذه الخصائص ونموها وتدريبها واكتسابها الخبرة العالية. ولم يكن ترقياً في "وجود "الإنسان. من تطور الأنواع حتى انتهت إلى الإنسان. كما تقول الداروينية.

نجد في المشهد ثلاثة نماذج من خلق الله: نموذج الطاعة المطلقة والتسليم العميق. ونموذج العصيان المطلق والاستكبار المقيت.. وطبيعة ثالثة هي الطبيعة البشرية. وسنعلم خصائصها وصفاتها المزدوجة فيما سيجيئ. فأما الطبيعة الأولى فهي خالصة لله، وقد انتهى دورها في هذا الموقف بهذا التسليم المطلق. وأما الطبيعتان الأخريان، فسنعرف كيف تتجهان.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

عطف على جملة: {ولقد مكناكم في الأرض} [الأعراف: 10] تذكيراً بنعمة إيجاد النّوع، وهي نعمة عناية، لأنّ الوجود أشرف من العدم، بقطع النّظر عما قد يعرض للموجود من الأكدار والمتاعب، وبنعمة تفضيله على النّوع بأنْ أمَر الملائكة بالسّجود لأصله، وأُدمج في هذا الامتنان تنبيهٌ وإيقاظ إلى عداوة الشّيطان لنوع الإنسان من القِدم، ليكون ذلك تمهيداً للتّحذير من وسوسه وتضليله، وإغراء بالإقلاع عمّا أوقع فيه النّاس من الشّرك والضّلالة، وهو غرض السورة، وذلك عند قوله تعالى: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} [الأعراف: 27] ومَا تلاه من الآيات، فلذلك كان هذا بمنزلة الاستدلال وُسِّط في خلال الموعظة.

والخطاب للنّاس كلّهم، والمقصود منه المشركون، لأنّهم الغرض في هذه السورة.

وتأكيد الخبر باللاّم و (قد) للوجه الذي تقدّم في قوله: {ولقد خلقناكم}، وتعدية فعلي الخلق والتّصوير إلى ضمير المخاطبين، لما كان على معنى خلق النّوع الذي هم من أفراد تعيّن أن يكون المعنى: خلقنا أصلكم ثمّ صوّرناه، وهو آدم، كما أفصح عنه قوله: {ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم}.

والخلق: الإيجاد وإبراز الشّيء إلى الوجود، وهذا الإطلاق هو المراد منه عند إسناده إلى الله تعالى أو وَصْف الله به.

والتّصوير جعل الشّيء صورة، والصّورة الشّكل الذي يشكّل به الجسم كما يشكّل الطين بصورة نوع من الأنواع.

وعطفت جملة {صورناكم} بحرف (ثمّ) الدّالة على تراخي رتبة التّصوير عن رتبة الخلق، لأنّ التّصوير حالة كمال في الخلق بأن كان الإنسان على الصورة الإنسانيّة المتقنة حسناً وشرفاً، بما فيها من مشاعر الإدراك والتّدبير، سواء كان التّصوير مقارناً للخلق كما في خلق آدم، أم كان بعد الخلق بمدّة، كما في تصوير الأجنّة من عظام ولحم وعصب وعروق ومشاعر، كقوله تعالى: {فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً} [المؤمنون: 14].

وتعدية فعلي (خلقنا) و (صوّرنا) إلى ضمير الخطاب ينتظم في سلك ما عاد إليه الضّمير قبله في قوله: {ولقد مكناكم في الأرض} [الأعراف: 10] الآية فالخطاب للنّاس كلّهم توطئة لقوله فيما يأتي: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة} [الأعراف: 27] والمقصود بالخصوص منه المشركون لأنّهم الذين سوّل لهم الشّيطان كفران هذه النّعم لقوله تعالى عقب ذلك: {وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا} [الأعراف: 28] وقوله فيما تقدّم: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون} [الأعراف: 3].

وأمّا تعلُّق فعلي الخلق والتّصوير بضمير المخاطبين فمراد منه أصل نوعهم الأوّل وهو آدم بقرينة تعقيبه بقوله: ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فنُزل خلق أصل نوعهم منزلةَ خلق أفراد النّوع الذين منهم المخاطبون لأنّ المقصود التّذكير بنعمة الإيجاد ليشكروا موجدهم ونظيره قوله تعالى: {إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية} [الحاقة: 11] أي حملنا أصولكم وهم الذين كانوا مع نوح وتناسل منهم النّاس بعد الطّوفان، لأنّ المقصود الامتنان على المخاطبين بإنجاء أصولهم الذين تناسلوا منهم، ويجوز أن يؤول فعلا الخلق والتّصوير بمعنى إرادة حصول ذلك، كقوله تعالى: حكاية عن كلام الملائكة مع إبراهيم: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين} [الذاريات: 35] أي أردنا إخراج من كان فيها، فإن هذا الكلام وقع قبل أمر لوط ومَن آمن به بالخروج من القرية.

ودلّ قوله: {ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} على أنّ المخلوق والمصوّر هو آدم، ومعنى الكلام خلقنا أصلكم وصوّرناه فبرز موجوداً معيَّناً مسمّى بآدم، فإنّ التّسمية طريق لتعيين المسمّى، ثمّ أظهرنا فضله وبديع صنعنا فيه فقلنا للملائكة اسجدوا له فوقع إيجاز بديع في نسج الكلام.

و (ثُمّ) في قوله: {ثم قال للملائكة اسجدوا لآدم} عاطفةٌ الجملةَ على الجملة فهي مقيّدة للتّراخي الرّتبي لا للتّراخي الزّماني وذلك أنّ مضمون الجملة المعطوفة هنا أرقى رتبة من مضمون الجملة المعطوف عليها.

وقوله: {ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم}، تقدّم تفسيره، وبيانُ ما تقدّم أمَر الله الملائكةَ بالسّجود لآدم، من ظهور فضل ما علمه الله من الأسماء ما لم يَعلِّمه الملائكة، عند قوله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس} في سورة البقرة (34).

وتعريف {الملائكة} للجنس فلا يلزم أن يكون الأمر عاماً لجميع الملائكة، بل يجوز أن يكون المأمورون هم الملائكة، الذين كانوا في المكان الذي خُلق فيه آدم، ونقل ذلك عن ابن عبّاس، ويحتمل الاستغراق لجميع الملائكة. وطريق أمرهم جميعاً وسجودِهم جميعاً لآدم لا يعلمه إلاّ الله، لأنّ طرق علمهم بمراد الله عنهم في العالم العلوي لا تقاس على المألوف في عالم الأرض...

{لم يكن من الساجدين} حال من (إبليس)، وهي حال مؤكدة لمضمون عاملها وهو ما دلّت عليه أداة الاستثناء، لما فيها من معنى: أستثنِي، لأنّ الاستثناء يقتضي ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنَى، وهو عين مدلول: لم يكن من الساجدين فكانت الحال تأكيداً. وفي اختيار الاخبار عن نفي سجوده بجعْلِه من غير السّاجدين: إشارة إلى أنّه انتفى عنه السّجود انتفاء شديداً لأنّ قولك لم يكن فلان من المهتدين يفيد من النّفي أشدّ ممّا يفيده قولك لم يكن مُهتدياً كما في قوله تعالى: {قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين} في سورة الأنعام (56).

ففِي الآية إشارة إلى أنّ الله تعالى خلق في نفس إبليس جبلة تدفعه إلى العصيان عندما لا يوافق الأمر هواه، وجعل له هوىً ورأياً، فكانت جبلته مخالفة لجبلة الملائكة. وإنّما استمرّ في عِداد الملائكة لأنّه لم يَحدث من الأمر ما يخالف هواه، فلمّا حدث الأمرُ بالسّجود ظَهر خُلق العصيان الكامِنُ فيه، فكان قوله تعالى: {لم يكن من الساجدين} إشارة إلى أنّه لم يقدّر له أن يكون من الطائفة السّاجدين، أي انتفى سجوده انتفاء لا رجاء في حصوله بعدُ، وقد عُلِم أنّه أبى السّجود إباء وذلك تمهيداً لحكاية السّؤال والجواب في قوله: {قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك}.