{ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ْ } أي : أفيطلبون بتوليهم وإعراضهم عنك حكم الجاهلية ، وهو كل حكم خالف ما أنزل الله على رسوله . فلا ثم إلا حكم الله ورسوله أو حكم الجاهلية . فمن أعرض عن الأول ابتلي بالثاني المبني على الجهل والظلم والغي ، ولهذا أضافه الله للجاهلية ، وأما حكم الله تعالى فمبني على العلم ، والعدل والقسط ، والنور والهدى .
{ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ْ } فالموقن هو الذي يعرف الفرق بين الحكمين ويميز -بإيقانه- ما في حكم الله من الحسن والبهاء ، وأنه يتعين -عقلا وشرعا- اتباعه . واليقين ، هو العلم التام الموجب للعمل .
{ 51 - 53 ْ } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ْ }
ثم ختم - سبحانه - هذه الآية الكريمة بتوبيخ أولئك الذين يرغبون عن حكم الله إلى حكم غيره فقال : { أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ } .
فالهمزة هنا للاستفهام الإِنكاري التوبيخي . والفاء للعطف على مقدر يستدعيه المقام .
والمعنى : أينصرفون عن حكمك بما أنزل الله ويعرضون عنه فيبغون حكم الجاهلية مع أن ما أنزله الله إليك من قرآن فيه الأحكام العادلة التي ترضى كل ذي عقل سليم ، ومنطق قويم .
وقدم - سبحانه - المفعول " أفحكم " لإِفادة التخصيص المفيد لتأكيد الأنكار والتعجيب من أحوال أولئك اليهود الذين يريدون حكم الجاهلية .
إذ أن التولي عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حكم آخر منكر عجيب ، وطلب حكم الجاهلية أقبح وأعجب .
والمراد بالجاهلية : الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى ، والمداهنة في الأحكام ، فيكون ذلك توبيخاً لليهود بأنهم مع كونهم أهل كتاب ؛ يبغون حكم الملة الجاهلية . وعدم الأخذ بشريعة المساواة . فيكون ذلك - أيضاً - تعييراً لهم لاقتدائهم بأهل الجاهلية .
قال الآلوسي : فقد روى أن بني النضير لما تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خصومة قتيل وقعت بينهم وبين بني قريظة ، طلب بعضهم من رسول الله أن يحكم بينهم بما كان عليه أهل الجاهلية من التفاضل ، فقال صلى الله عليه وسلم : " القتلى سواء " - أي : متساوون - فقال بنو النضير : نحن لا نرضى بحكمك ، فنزلت هذه الآية .
وقوله - تعالى - { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } إنكار منه - سبحانه - لأن يكون هناك حكم أحسن من حكمه أو مساو له .
أي : لا أحد أحسن حكما من حكم الله - تعالى - عند قوم يوقنون بصحة دينه ، ويذعنون لتكاليف شريعته ، ويقرون بوحدانيته ، ويتبعون أنبياءه ورسله .
فاللام في قوله : ( لقوم ) بمعنى عند ، وهي متعلقة بأحسن ، ومفعول ( يوقنون ) محذوف أي لقوم يوقنون بحكمه وأن أعدل الأحكام . والجملة حالية متضمنة لمعى الإِنكار السابق .
وخص - سبحانه - الموقنين بالذكر ، لأنهم هم الذين يحسنون التدبر فيما شرعه الله من أحكام ، وينتفعون بما اشتملت عليه من عدل ومساواة .
هذا ، وقد شدد الإِمام ابن كثير النكير على الذي يرغبون عن حكم الله إلى أحكام من عند البشر ، ووصف من يفعل ذلك بالكفر ، وأفتى بوجوب مقاتلته حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فقال - رحمه الله - :
" ينكر - تعالى - على من خرج عن حكم الله - المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر - وعدل عنه إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله ، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات .
مما يضعونهاه بآرائهم وأهوائهم ، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم " جنكزخان " الذي وضع لهم " الباسق " وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى . فصارت في بنية شرعا متبعا يقدمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله ، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير .
قال - تعالى - { أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي : ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه وآمن به وأيقن .
وعلم أنه - سبحانه - أحكم الحاكمين ، وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها ؟ فإنه - تعالى - هو العالم بكل شيء ، والقادر على كل شيء ، والعادل في كل شيء .
روى الطبراني عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أبغض الناس إلى الله - تعالى - من يبتغي في الإِسلام سنة الجاهلين ومن طلب دم امرئ بغير حق ليريق دمه " .
وإلى هنا نرى الآيات الكريمة قد كشفت " باستفاضة " عن المسالك الخبيثة التي سلكها اليهود وأشباهم لكيد الإِسلام والمسلمين .
فأنت تراها في مطلعها قد نادت الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا النداء بعدم المبالاة بما يصدر عن أولئك الذين يسارعون في الكفر من مكر وخداع ووصفهم بجملة من الصفات القبيحة التي تجعل كل عاقل ينفر من الاقتراب منهم ، وخيرات الرسول صلى الله عليه وسلم بين الحكم بينهم أو الإِعراض عنهم إذا ما تحاكموا إليه .
ووبخت اليهود على إعراضهم عن الأحكام العادلة التي أنزلها الله - تعالى - ووصفت المعرضين عن حكمه سبحانه بالكفر تارة وبالظلم تارة وبالفسق تارة أخرى .
وبعد أن مدحت التوراة والإِنجيل ، وبينت بعض ما اشتملا عليه من هدايات . . . عقبت ذلك ببيان منزلة القرآن الكريم وأنه الكتاب الجامع في هدايته وفضله وتشريعاته لكل ما جاء في الكتب السابقة .
ثم ختمت بتكرير الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يلتزم في أحكامه بما أنزله الله ، وبتحذيره وتحذير أتباعه من خداع أعدائهم ومكرهم ، وتتوعد كل من يرغب عن حكم الله إلى حكم غيره ، بسوء العاقبة ، وشديد العذاب .
وبعد هذا الحديث المستفيض عن الكتب السماوية : وعن وجوب الحكم بما أنزل الله ، وعن المسالك الخبيثة التي استعملها اليهود ومن على شاكلتهم لكيد الدعوة الإِسلامية بعد كل ذلك وجه - سبحانه - نداء إلى المؤمنين حذرهم فيه من موالاة أعدائهم فقال - تعالى - :
{ أفحكم الجاهلية يبغون } الذي هو الميل والمداهنة في الحكم ، والمراد بالجاهلية الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى . وقيل نزلت في بني قريظة والنضير طلبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى . وقرئ برفع الحكم على أنه مبتدأ ، و{ يبغون } خبره ، والراجع محذوف حذفه في الصلة في قوله تعالى : { أهذا الذي بعث الله رسولا } واستضعف ذلك في غير الشعر وقرئ أفحكم الجاهلية أي يبغون حاكما كحكام الجاهلية يحكم بحسب شهيتهم . وقرأ ابن عامر " تبغون " بالتاء على قل لهم أفحكم الجاهلية تبغون . { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } أي عندهم ، واللام للبيان كما في قوله تعالى : { هيت لك } أي هذا الاستفهام لقوم يوقنون فإنهم هم الذين يتدبرون الأمور ويتحققون الأشياء بأنظارهم فيعلمون أن لا أحسن حكما من الله سبحانه وتعالى .
فَرّعت الفاء على مضمون قوله : { فإن تولّوا فاعلم } [ المائدة : 49 ] الخ استفهاماً عن مرادهم من ذلك التولّي ، والاستفهام إنكاري ، لأنّهم طلبوا حكم الجاهليّة . وحكم الجاهليّة هو ما تقرّر بين اليهود من تكايُل الدّماء الّذي سرى إليهم من أحكام أهل يثرب ، وهم أهلُ جاهلية ، فإنّ بني النضير لم يرضوا بالتساوي مع قريظة كما تقدّم ؛ وما وضعوه من الأحكام بين أهل الجاهلية ، وهو العدول عن الرجم الّذي هو حكم التّوراة .
وقرأ الجمهور { يَبغون } بياء الغائب ، والضمير عائد ل { مَن } من قوله : { ومَنْ لم يحكم بما أنزل الله } [ المائدة : 47 ] . وقرأ ابن عامر بتاء الخطاب على أنّه خطاب لليهود على طريقة الالتفات .
والواو في قوله : { ومن أحسن من الله حكماً } واو الحال ، وهو اعتراض ، والاستفهام إنكاري في معنى النفي ، أي لا أحسن منه حكماً . وهو خطاب للمسلمين ، إذ لا فائدة في خطاب اليهود بهذا .
وقوله : { لقوم يوقنون } اللام فيه ليست متعلّقة ب { حكماً } إذ ليس المراد بمدخولها المحكومَ لهم ، ولا هي لام التّقوية لأنّ { لقوم يوقنون } ليس مفعولاً ل { حُكماً } في المعنى . فهذه اللامُ تُسمّى لام البيان ولام التبيين ، وهي الّتي تدخل على المقصود من الكلام سواء كان خبراً أم إنشاء ، وهي الواقعة في نحو قولهم : سَقْيَاً لك ، وَجَدْعاً له ، وفي الحديث « تبّاً وسُحقاً لمن بَدّل بَعْدي » ، وقوله تعالى : { هيهات هيهات لِما توعدون } [ المؤمنون : 36 ] { حاش لله } [ يوسف : 51 ] . وذلك أنّ المقصود التّنبيه على المراد من الكلام . ومنه قول تعالى عن زليخا { وقالت هيتَ لك } [ يوسف : 23 ] لأنّ تهيّؤَها له غريب لا يخطر ببال يوسف فلا يدري ما أرادت فقالت له { هيت لك } [ يوسف : 23 ] ، إذا كان ( هيت ) اسمَ فِعْلِ مُضي بمعنى تهيّأتُ ، ومثل قوله تعالى هنا : { ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } . وقد يكون المقصود معلوماً فيخشى خفاؤه فيؤتى باللام لزيادة البيان نحو { حاشَ لله } [ يوسف : 51 ] ، وهي حينئذٍ جديرة باسم لام التبيين ، كالداخلة إلى المواجه بالخطاب في قولهم : سَقياً لك ورعياً ، ونحوهما ، وفي قوله : { هِيتَ } [ يوسف : 23 ] اسمَ فعل أمر بمعنى تَعالَ . وإنّما لم تجعل في بعض هذه المواضع لام تقوية ، لأنّ لام التّقوية يصحّ الاستغناء عنها مع ذكر مدخولها ، وَفي هذه المواضع لا يذكر مدخول اللام إلاّ معها .