24- قل - يا أيها الرسول - للمؤمنين : إن كنتم تحبون آباءكم وأبناءكم وإخوانكم وأزواجكم ، وأقرباءكم ، وأموالاً اكتسبتموها ، وتجارة تخافون بوارها ، ومساكن تستريحون للإقامة فيها أكثر من حبكم لله ورسوله والجهاد في سبيله ، حتى شغلتكم عن مناصرة الرسول ، فانتظروا حتى يأتي الله بحكمه فيكم وعقوبته لكم . والله لا يهدى الخارجين على حدود دينه .
{ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ } ومثلهم الأمهات { وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ } في النسب والعشرة{[365]} { وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ } أي : قراباتكم عموما { وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا } أي : اكتسبتموها وتعبتم في تحصيلها ، خصها بالذكر ، لأنها أرغب عند أهلها ، وصاحبها أشد حرصا عليها ممن تأتيه الأموال من غير تعب ولا كَدّ .
{ وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا } أي : رخصها ونقصها ، وهذا شامل لجميع أنواع التجارات والمكاسب من عروض التجارات ، من الأثمان ، والأواني ، والأسلحة ، والأمتعة ، والحبوب ، والحروث ، والأنعام ، وغير ذلك .
{ وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا } من حسنها وزخرفتها وموافقتها لأهوائكم ، فإن كانت هذه الأشياء { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ } فأنتم فسقة ظلمة .
{ فَتَرَبَّصُوا } أي : انتظروا ما يحل بكم من العقاب { حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } الذي لا مرد له .
{ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } أي : الخارجين عن طاعة اللّه ، المقدمين على محبة اللّه شيئا من المذكورات .
وهذه الآية الكريمة أعظم دليل على وجوب محبة اللّه ورسوله ، وعلى تقديمها على محبة كل شيء ، وعلى الوعيد الشديد والمقت الأكيد ، على من كان شيء من هذه المذكورات أحب إليه من اللّه ورسوله ، وجهاد في سبيله .
وعلامة ذلك ، أنه إذا عرض عليه أمران ، أحدهما يحبه اللّه ورسوله ، وليس لنفسه فيها هوى ، والآخر تحبه نفسه وتشتهيه ، ولكنه يُفَوِّتُ عليه محبوبًا للّه ورسوله ، أو ينقصه ، فإنه إن قدم ما تهواه نفسه ، على ما يحبه اللّه ، دل ذلك على أنه ظالم ، تارك لما يجب عليه .
ثم أمر - سبحانه - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يعلن للناس هذه الحقيقة : وهى أن محبة الله ورسوله يجب أن تفوق كل محبة لغيرهما فقال - تعالى - : { قُلْ } يا محمد لمن اتبعك من المؤمنين : { إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ } الذين أنتم بضعة منهم ، { وَأَبْنَآؤُكُمْ } الذين هم قطعة منكم { وَإِخْوَانُكُمْ } الذين تربطكم بهم وشيجة الرحم { وَأَزْوَاجُكُمْ } اللائى جعل الله بينكم وبينهن مودة ورحمة { وَعَشِيرَتُكُمْ } أى : أقاربكم الأدنون الذين تربطكم بهم رابطة المعاشرة والعصبة { وَأَمْوَالٌ اقترفتموها } أى : اكتسبتموها فهى عزيزة علكيم .
وأصل القرف والاقتراف قشر اللحاء عن الشجر ، والجلدة عن الجرح ثم استعير الاقتراف للاكتاسب مطلقاً :
{ وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا } أى : تخافون بوارها وعدم رواجها بسبب اشتغالكم بغيرها من متطلبات الايمان .
يقال : كسد الشئ من باب نصر وكرم . كساداً وكسوداً . إذا قل رواجه وربحه . { وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ } أى : ومنازل تعجبكم الإِقامة فيها .
قل لهم يا محمد : إن كان كل ذلك - من الآباء والأبناء والإِخوان والأزواج والعشيرة ، والأموال ، والتجارة ، والمساكن - { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ } .
أى : إن كانت هذه الأشياء أحسن في نفوسكم وأقرب إلى قلوبكم من طاعة الله وطاعة رسوله ومن الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الحق ، فانتظروا حتى يحكم الله فيكم ، وهو العذاب العاجل أو العقاب الآجل .
فالجملة الكريمة تهديد وتخويف لمن آثر محبة الأباء والأبناء . . . على محبة الله ورسوله ، وعلى الجهاد من أجل إعلاء كلمة الدين .
وقوله : { والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } تذييل قصد به تأكيد التهديد السابق أى : والله - تعالى - قد اقتضت حكمته أن لا يوفق القوم الخارجين عن حدود دينه وشريعته إلى ما فيه مثوبته ورضاه .
هذا ، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى :
( 1 ) تحريم موالاة الكافرين مهما بغلت درجة قرابتهم ، واعتبار - هذه الموالاة من الكبائر ، لوصف فاعلها بالظلم : قال - تعالى - : { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فأولئك هُمُ الظالمون } .
( 2 ) قوة إيمان الصحابة ، وسرعة امتثالهم لأوامر الله ، فإنهم في سبيل عقيدتهم قاطعوا أقرب الناس إليهم ممن خالفوهم في الدين ، بل وحاربوهم وقتلوهم .
قال ابن كثير : روى الحافظ البيهقى من حديث عبد الله بن شوذب قال : جعل أبو أبى عبيدة بن الجراح ينعت له الآلهة يوم بدر وجعل أبو عبيدة يحيد عنه . فلما أكثر الجراح ، قصده ابنه أبو ع بيدة فقتله ، فأنزل الله فيه هذه الآية - التي بآخر سورة المجادلة - { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون } ( 3 ) إن المؤمن لا يتم إيمانه إلا إذا كانت محبته لله ورسوله مقدمة على كل محبوب ، وقد وردت عدة أحاديث في هذه المعنى ، " ومن ذلك ما أخرجه البخارى والإِمام أحمد بن أبى عقيل زهرة بن معبد أنه سمع جده عبد الله بن هشام قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله لأنت أحب إلى من كل شئ إلا من نفسى . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه " فقال عمر : فأنت والله أحب إلى من نفسى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الآن يا عمر " " .
( 4 ) في الآية الثانية دليل على أنه إذا تعارضت مصلحة من مصالح الدين مع مهمات الدنيا ، وجب ترجيح جانب الدين على الدنيا ليبقى الدين سليماً ، وهذا عمل لا يستطيعه إلا الأتقياء .
. ولذا قال الإِمام الزمخشرى : وهذه آية شديدة لا ترى أشد منها . كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين واضطراب حبل اليقين . فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه ، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دينه ، ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإِخموان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا ويتجرد منها لأجله ؟ أم يزوى الله عنه أحقر شئ منها لمصلحته ، فلا يدرى أى طرفيه أطول ؟ ويغويه الشيطان عن أجَلِّ حظ من حظوظ الدين ، فلايبالى كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره ؟
( 5 ) قال بعض العلماء : وليس المطلوب . من قوله - تعالى { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ . . . } إلخ . أن ينقطع المسلم عن الأهل والعشيرة والزوج والولد والمال والعمل والمتاع واللذة ، ولا أن يترهبن ويزهد في طيبات الحياة . . كلا إنما تريد هذه العقيدة أن يفرغ لها القلب ، ويخلص لها الحب ، وأن تكون هي المسيطرة الحاكمة ، وهى المحركة الدافعة . فإذا تم لها هذا فلا حرج عندئذ أن يستمع المسملم بكل طيبات الحياة ، على أن يكون مستعداً لنبذها كلها في اللحظة التي تتعارض مع مطالب العقيدة .
ومفرق الطريق هو أن تسيطر العقيدة أو يسيطر المتاع ، وأن تكون الكلمة الأولى للعقدية أو لعرض من أعراض هذه الحياة ؟ فإذا اطمأن المسلم إلى أن قلبه خالص لعقيدته فلا عليه بعد هذا أن يستمتع بالأنباء والإِخوة والعشيرة والزوج . . وعليه أن يتخذ الأموال والمتاجر والمساكن . ولا عليه أن يستمع بزينة الله و الطيبات من الرزق . في غير سرف ولا مخيلة .
بل إن المتاع حينئذ لمستحب ، باعتباره لوناً من الوان الشكر لله الذي أنعم بها ليتمتع بها عباده . وهم يذكرون أنه الرازق المنعم الوهاب .
ثم أمر تعالى رسوله أن يتوعد من آثر{[13303]} أهله وقرابته وعشيرته على الله وعلى رسوله وجهاد في سبيله ، فقال : ( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا ) أي : اكتسبتموها وحصلتموها ( وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا ) أي : تحبونها لطيبها وحسنها ، أي : إن كانت هذه الأشياء ( أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا ) أي : فانتظروا ماذا يحل بكم من عقابه ونكاله بكم ؛ ولهذا قال : ( حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا ابن لهيعة ، عن زهرة بن معبد ، عن جده قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب ، فقال : والله لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي فقال رسول الله{[13304]} صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه " . فقال عمر : فأنت الآن والله أحب إلي من نفسي . فقال رسول الله : " الآن يا عمر " {[13305]}
انفرد بإخراجه{[13306]} البخاري ، فرواه عن يحيى بن سليمان ، عن ابن وهب ، عن حيوة بن شريح ، عن أبي عقيل زهرة بن معبد ، أنه سمع جده عبد الله بن هشام ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا{[13307]}
وقد ثبت في الصحيح عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " والذي نفسي بيده ، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين " {[13308]}
وروى الإمام أحمد ، وأبو داود - واللفظ له - من حديث أبي عبد الرحمن الخراساني ، عن عطاء الخراساني ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم بأذناب البقر ، ورضيتم بالزرع ، وتركتم الجهاد ، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم
وروى الإمام أحمد أيضا عن يزيد بن هارون ، عن أبي جناب ، عن شهر بن حوشب أنه سمع عبد الله ابن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك{[13309]} وهذا شاهد للذي قبله ، والله أعلم .
هذه الآية تقوي مذهب من رأى أن هذه والتي قبلها إنما مقصودها الحض على الهجرة ، وفي ضمن قوله : { فتربصوا } وعيد بين ، وقوله { بأمره } قاله الحسن الإشارة إلى عذاب أو عقوبة من الله ، وقال مجاهد{[5576]} : الإشارة إلى فتح مكة ، والمعنى فإذا جاء الله بأمره فلم تسلفوا ما يكون لكم أجراً ومكانة في الإسلام .
قال القاضي أبو محمد : وذكر الأبناء في الآية لما جلبت ذكرهم المحبة ، والأبناء صدر في المحبة وليسوا كذلك في أن تتبع آراؤهم كما في الآية المتقدمة ، وقرأ جهور الناس «وعشيرتكم » ، وقرأ عاصم وحده بخلاف عنه وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن وعصمة «وعشيراتكم » ، وحسن هذا الجمع إذ لكل أحد عشيرة تختص به ، ويحسن الإفراد أن أبا الحسن الأخفش قال إنما تجمع العرب عشائر ولا تكاد تقول عشيرات ، و { اقترفتموها } معناه اكتسبتموها ، وأصل الاقتراف والمقارفة مقاربة الشيء{[5577]} ، { وتجارة تخشون كسادها } بيّن في أنواع المال ، وقال ابن المبارك : الإشارة إلى البنات اللواتي لا يتزوجن لا يوجد لهن خاطب{[5578]} { ومساكن } جمع مسكن بفتح الكاف مفعل من السكنى ، وما كان من هذا معتل الفاء فإنما يأتي على مفعل بكسر العين كموعد وموطن ، والمساكن القصور والدور ، و { أحب } خبر كان ، وكان الحجاج بن يوسف يقرؤها «أحبُّ » بالرفع وله في ذلك خبر مع يحيى بن يعمر سأله الحجاج هل تسمعني الجن قال نعم في هذا الحرف ، وذكر له رفع أحب فنفاه .
قال القاضي أبو محمد : وذلك خارج في العربية على أن يضمر في كان الأمر والشأن{[5579]} ولم يقرأ بذلك ، وقوله { والله لا يهدي القوم الفاسقين } عموم لفظ يراد به الخصوص فيمن يوافي على فسقه ، أو عموم مطلق على أنه لا هداية من حيث الفسق .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد للمتخلفين عن الهجرة إلى دار الإسلام المقيمين بدار الشرك: إن كان المقام مع آبائكم وأبنائكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم، وكانت "أمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا "يقول: اكتسبتموها، "وتِجارَةٌ تَخْشَوْن كَسادَها" بفراقكم بلدكم، "وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها" فسكنتموها "أحَبّ إليكُم" من الهجرة إلى الله ورسوله من دار الشرك ومن جهاد في سبيله، يعني في نصرة دين الله الذي ارتضاه. "فَترَبّصُوا" يقول: فتنظّروا، "حتى يَأْتيَ اللّهُ بأمْرِهِ" حتى يأتي الله بفتح مكة. "وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ" يقول: والله لا يوفق للخير الخارجين عن طاعته وفي معصيته...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: (إن كان آباؤكم وأبناؤكم) وما ذكروا، أي إن كانت طاعة هؤلاء ورضاهم أحب إليكم من طاعة الله وطاعة رسوله ورضاه وأحب من الجهاد في سبيله (فتربصوا حتى يأتي الله بأمره) هو حرف وعيد؛ أي انتظروا (حتى يأتي الله بأمره) أي بعذابه.
(وأموال اقترفتموها) أي أموال جعلوها حلالا وحراما، ويقولون: الله أذن لنا في ذلك كقوله: (قل أرأيتم ما أنزل الله من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل ءالله أذن لكم) [يونس: 59] في ذلك؟ وقوله تعالى: (وتجارة تخشون كسادها) كانوا يخشون فواتها وذهابها لا الكساد؛ إذ في الهجرة تركها رأسا.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ} (تعجبكم)... {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} قال عطاء: بقضائه...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
"فَتَربَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ"... حتى يأتي الله بأمره من عقوبة عاجلة أو آجلة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقال الجبائي: هو خطاب للمؤمنين أجمع وتحذير لهم من ترك الجهاد وحث لهم عليه، فأمره أن يقول لهم "إن كان "آباؤكم "الذين ولدوكم "وأبناؤكم "الذين ولدتموهم، وهم الأولاد الذكور "وأزواجكم" جمع زوجة وهي المرأة التي عقد عليها عقدة نكاح صحيح، لأن ملك اليمين والمعقود عليها عقد شبهة لا تسمى زوجة "وعشيرتكم" وهي الجماعة التي ترجع إلى عقد كعقد العشرة، ومنه المعاشرة وهي الاجتماع على عقد يعم.
" أحب اليكم من الله ورسوله" يعني آثر في نفسوكم وأقرب إلى قلوبكم. والمحبة إرادة خاصة للشيء، فمن أحب الجهاد فقد أراد فعله، ومن أحب الله أراد شكره وعبادته ومن أحب النبي أراد إجلاله وإعظامه. والذي اقتضى نزول هذه الآية محبتهم التي منعتهم الهجرة.
وقوله "فتربصوا" اي فتثبتوا. والتربص التثبت في الشيء حتى يجئ وقته. والتربص والتنظر والتوقف نظائر في اللغة. ونقيضه التعجل.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ليس هذا تخييراً لهم، ولا إذْناً لهم، ولا إذْناً في إيثارِ الحظوظِ على الحقوقِ، ولكنه غاية التحذير والزَّجر عن إيثار شيءٍ من الحظوظ على الدِّين، ويقال علامةُ الصدقِ في التوحيد قطعُ العلاقات، ومفارقهُ العادات، وهجران المعهودات والاكتفاءُ بالله في دوام الحالات.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
قوله: (ومساكن ترضونها) يعني: تستطيبونها. قوله (حتى يأتي الله بأمره) أكثر المفسرين على أن المراد منه: فتح مكة، وهذا أمر تهديد وليس بأمر حتم ولا ندب ولا إباحة.
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي 516 هـ :
{قل} يا محمد للمتخلفين عن الهجرة.
قوله تعالى: {إن كان آباؤكم}، وذلك لما نزلت الآية الأولى، قال الذين أسلموا ولم يهاجروا: إن نحن هاجرنا ضاعت أموالنا وذهبت تجاراتنا وخربت دورنا وقطعنا أرحامنا، فنزل:"قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم..."...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وهذه آية شديدة لا ترى أشدّ منها، كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين، واضطراب حبل اليقين، فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دين الله ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا ويتجرد منها لأجله؟ أم يزوي الله عنه أحقر شيء منها بمصلحته فلا يدري أي طرفيه أطول؟ ويغويه الشيطان عن أجلّ حظ من حظوظ الدين، فلا يبالي كأنما وقع على أنفه ذباب فطيَّرَه؟.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى {قُلْ إنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُمْ من اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا}:
هَذَا بَيَانُ فَضْلِ الْجِهَادِ، وَإِشَارَةٌ إلَى رَاحَةِ النَّفْسِ وَعَلَاقَتِهَا بِالْأَهْلِ وَالْمَالِ. وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هَذِهِ الْآيَةُ فِي بَيَانِ حَالِ مَنْ تَرَكَ الْهِجْرَةَ، وَآثَرَ الْبَقَاءَ مَعَ الْأَهْلِ وَالْمَالِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: (إنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ ثَلَاثَةَ مَقَاعِدَ:
قَعَدَ لَهُ فِي طَرِيقِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: أَتَذَرُ دِينَك وَدِينَ آبَائِك وَتُسْلِمَ. فَخَالَفَهُ وَأَسْلَمَ. وَقَعَدَ لَهُ فِي طَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ لَهُ: أَتَذَرُ أَهْلَك وَمَالَك فَتُهَاجِرَ، فَخَالَفَهُ ثُمَّ هَاجَرَ.
وَقَعَدَ لَهُ فِي طَرِيقِ الْجِهَادِ، فَقَالَ لَهُ: تُجَاهِدُ فَتُقْتَلُ، وَتُنْكَحُ أَهْلُك، وَيُقْسَمُ مَالُك، فَخَالَفَهُ فَجَاهَدَ فَقَتَلَ.
فَحَقَّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ).
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْعَشِيرَةُ: الْجَمَاعَةُ الَّتِي تَبْلُغُ عِقْدَ الْعَشَرَةِ، فَمَا زَادَ. وَمِنْهُ الْمُعَاشَرَةُ، وَهِيَ الِاجْتِمَاعُ عَلَى الْأَمْرِ بِالْعَزْمِ الْكَثِيرِ.
وَقَوْلُهُ: {وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا} أَيْ اقْتَطَعْتُمُوهَا من غَيْرِهَا.
وَالْكَسَادُ: نُقْصَانُ الْقِيمَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (غَزَا نَبِيٌّ من الْأَنْبِيَاءِ فَقَالَ: لَا يَتْبَعُنِي رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمَّا يَبْنِ بِهَا، أَوْ بَنَى دَارًا وَلَمْ يَسْكُنْهَا...) الْحَدِيثَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}:
قَوْلُهُ: {فَتَرَبَّصُوا} صِيغَتُهُ الْأَمْرُ، وَمَعْنَاهُ التَّهْدِيدُ، وَأَمْرُ اللَّهِ الَّذِي يَأْتِي فَتْحُ مَكَّةَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَعْنَى الْآيَةِ الْهِجْرَةُ، وَيَكُونُ أَمْرُ اللَّهِ عُقُوبَتَهُ الَّتِي تُنْزِلُ بِهِمْ الذُّلَّ وَالْخِزْيَ، حَتَّى يَغْزُوَهُمْ الْعَدُوُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ، وَيَسْلُبَهُمْ أَمْوَالَهُمْ.
اعلم أن هذه الآية هي تقرير الجواب الذي ذكره في الآية الأولى، وذلك لأن جماعة من المؤمنين قالوا يا رسول الله، كيف يمكن البراءة منهم بالكلية؟ وأن هذه البراءة توجب انقطاعنا عن آبائنا وإخواننا وعشيرتنا وذهاب تجارتنا، وهلاك أموالنا وخراب ديارنا، وإبقاءنا ضائعين فبين تعالى أنه يجب تحمل جميع هذه المضار الدنيوية ليبقى الدين سليما، وذكر أنه إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية عندكم أولى من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل الله، فتربصوا بما تحبون حتى يأتي الله بأمره، أي بعقوبة عاجلة أو آجلة، والمقصود منه الوعيد.
ثم قال: {والله لا يهدي القوم الفاسقين} أي الخارجين عن طاعته إلى معصيته وهذا أيضا تهديد، وهذه الآية تدل على أنه إذا وقع التعارض بين مصلحة واحدة من مصالح الدين وبين جميع مهمات الدنيا، وجب على المسلم ترجيح الدين على الدنيا...
وقوله: {وأموال اقترفتموها} الاقتراف: الاكتساب.
واعلم أنه تعالى ذكر الأمور الداعية إلى مخالطة الكفار، وهى أمور أربعة:
أولها: مخالطة الأقارب، وذكر منهم أربعة أصناف على التفصيل وهم الآباء والأبناء والإخوان والأزواج، ثم ذكر البقية بلفظ واحد يتناول الكل، وهي لفظ العشيرة. وثانيها: الميل إلى إمساك الأموال المكتسبة.
وثالثها: الرغبة في تحصيل الأموال بالتجارة.
ولا شك أن هذا الترتيب ترتيب حسن، فإن أعظم الأسباب الداعية إلى المخالطة القرابة ثم إنه يتوصل بتلك المخالطة إلى إبقاء الأموال الحاصلة، ثم إنه يتوصل بالمخالطة إلى اكتساب الأموال التي هي غير حاصلة، وفي آخر المراتب الرغبة في البناء في الأوطان والدور التي بنيت لأجل السكنى، فذكر تعالى هذه الأشياء على هذا الترتيب الواجب، وبين بالآخرة أن رعاية الدين خير من رعاية جملة هذه الأمور.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وفي الآية دليل على وجوب حب الله ورسوله، ولا خلاف في ذلك بين الأمة، وأن ذلك مقدم على كل محبوب. وفي قوله:"وجهاد في سبيله" دليل على فضل الجهاد، وإيثاره على راحة النفس وعلائقها بالأهل والمال
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
وفي الآية تشديد عظيم وقل من يتخلص منه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانت الأنفس مختلفة الهمم متباينة السجايا والشيم، كان هذا غير كافٍ في التهديد لكلها، فأتبعه تهديداً أشد منه بالنسبة إلى تلك النفوس فقال منتقلاً من أسلوب الإقبال إلى مقام الإعراض المؤذن بزواجر الغضب: {قل} أي يا أعظم الخلق شفقة ورفقاً ونصيحة لمن لم يُزعمه ما تقدم من الزواجر أنه يجب تحمل جميع هذه المضار في الدنيا ليبقى الدين سالماً ولا ينثلم {إن كان آباؤكم} أي الذين أنتم أشد شيء توقيراً لهم {وأبناؤكم} أي الذين هم أعز الناس لديكم وأحبهم إليكم {وإخوانكم} أي الذين هم من أصولكم فهم كأنفسكم {وأزواجكم} أي اللاتي هن سكن لكم {وعشيرتكم} أي التي بها تمام الراحة وقيام العز والمنعة وهم أهل الإنسان الأدنون الذين يعاشرونه.
ولما قدم سبحانه ما هو مقدم على المال عند أولي الهمم العوال قال: {وأموال اقترفتموها} أي اكتسبتموها بالمعالجة من الأسفار وغيرها لمعاشكم {وتجارة تخشون كسادها} أي لفوات أوقات نفاقها بسبب اشتغالكم بما ندب الله سبحانه إليه فيفوت -على ما تتوهمون- ما به قوامكم {ومساكن ترضونها} أي لأنها مجمع لذلك كله، ولقد رتبها سبحانه أحسن ترتيب، فإن الأب أحب المذكورين لما هنا من شائبة النصرة، وبعده الابن ثم الأخ ثم الزوج ثم العشير الجامع للذكور والإناث ثم المال الموجود في اليد ثم المتوقع ربحه بالمتجر، وختم بالمسكن لأنه الغاية التي كل ما تقدم أسباب للاسترواح فيه والتجمل به {أحب إليكم من الله} أي الجامع لصفات الكمال الذي أنعم عليكم بجميع ما ذكر، ومتى شاء سلبكموه {ورسوله} أي الذي أتاكم بما به حفظ هذه النعم في الدارين {وجهاد في سبيله} أي لرد الشارد من عباده إليه وجمعهم عليه، وفي قوله -: {فتربصوا} أي انتظروا متبصرين -تهديد بليغ {حتى يأتي الله} أي الذي له الإحاطة بكل شيء {بأمره} أي الذي لا تبلغه أوصافكم ولا تحتمله قواكم. ولما كان من آثر حب شيء من ذلك على حبه تعالى، كان مارقاً من دينه راجعاً إلى دين من آثره، وكان التقدير: فيصيبكم بقارعة لا تطيقونها ولا تهتدون إلى دفعها بنوع حيلة، لأنكم اخترتم لأنفسكم منابذة الهداية ومعلوم أن من كان كذلك فهو مطبوع في الفسق، عطف عليه قوله: {والله} أي الجامع لصفات الكمال {لا يهدي القوم} أي لا يخلق الهداية في قلوب {الفاسقين} أي الذين استعملوا ما عندهم من قوة القيام فيما يريدون من الفساد حتى صار الفسق- وهو الخروج مما حقه المكث فيه و التقيد به وهو هنا الطاعة -خلقاً من أخلاقهم ولازماً من لوازمهم، بل يكلهم إلى نفوسهم فيخسروا الدنيا والآخرة.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{والله لا يهدي القوم الفاسقين} أي الخارجين عن الطاعة في مولاة المشركين والمؤثرين لما ذكر على رضاه تعالى. تنبيهات: الأول – قال بعضهم: ثمرة الآيتين تحريم مولاة الكفار، ولو كانوا أقرباء وأنها كبيرة لوصف متوليهم بالظلم، ووجوب الجهاد وإيثاره على كل هذه المشتهيات المعدودة طاعة لله ورسوله. الثالث – في هذه الآية وعيد وتشديد، لأن كل أحد قلما يخلص منها، فلذا قيل إنها أشد آية نعت على الناس...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم انتقل من بيان هذه الدركة من الإخلال بحقوق الإيمان ومقتضياته إلى الدركة التي من شأنها أن تكون سببا لها، فقال {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره}.
وجّه الله عز وجل الخطاب في النهي عن الجريمة الكبرى وهي ولاية الكافرين المعادين لله ورسوله إلى المؤمنين بعنوانهم مباشرة، ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخاطبهم في أمر الجريمة الثانية والوعيد عليها على فرض وقوعها منهم، ولم يشأ أن يعطف هذا على ما قبله فيكون خطابا منه بعنوان صفة الإيمان المنافي لمضمونه، ولذلك عبر عنه بأداة الشرط التي من شأن شرطها أن يكون مشكوكا في وقوعه، أو من شأنه أن لا يقع، وهي «إن»، ولم يرتب هذه المؤاخذة على أصل الحب لما ذكر في الآية من مجامع حظوظ الدنيا ولذاتها؛ لأنه غريزي، بل رتبه على تفضيل هذه الحظوظ والشهوات الدنيوية في الحب على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله الموعود عليه بما تقدم آنفا من أنواع السعادة الأبدية في الآخرة، وكذا ما دونه كما يدل عليه تنكير كلمة جهاد هنا. وذكر الأبناء والأزواج هنا دون آية النهي عن الولاية؛ لأن من شأن الإنسان أن يتولى في الحرب من فوقه كالأب ومن هو مثله كالأخ دون من هو دونه، ومن شأنه أن يكون تابعا له كابنه وزوجه، ولكنهما في المرتبة الأولى في الحب، وإننا نبين مراتب هذه الأصناف الثمانية في الحب، ونقفي عليها بمعنى حب الله ورسوله، وكون المؤمن الصادق لا يؤثر عليهما شيئا منها، ولا يعلو حبهما عنده حب شيء سواهما:
حب الأبناء للآباء له مناشئ من غرائز النفس وشعورها وعواطفها وعوارفها ومعارفها وطباعها، ومن عُرف الأقوام وآدابهم الاجتماعية وشرائعهم ودينهم، فالولد بضعة من أبيه يرث بعض صفاته وطباعه وشمائله من جسدية ونفسية وعقلية، وأول شيء يشعر به، وينمي في نفسه بنماء تمييزه وعقله إحسان والديه إليه، واقتران صورتهما في خياله بكل محبوب له. ويتلو هذا شعوره بما هما عليه من الحنان والعطف والحدب عليه والحب الخالص له الذي لا يشوبه رياء ولا تهمة، وللوالدة القدح المعلى في هذين، ويفوقها الوالد بما يحدث للولد بعد هذا من شعور الإعجاب بالعظمة والكمال والقدرة وهو من الغرائز، والطفل يشعر بأن أباه أعظم الناس وأحقهم بالإجلال والتعظيم. وهذا الشعور إما أن ينمي ويزداد في الكبر إذا كان الوالد مستحقا له ولو من بعض الوجوه، وإما أن يضعف، ولكنه قلما يزول عينا وأثرا وإن كان في غير محله.
وقد كان العرب يتفاخرون بآبائهم في أسواقهم وفي معاهد الحج، حتى قال الله تعالى: {فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا} [البقرة: 200]، يتلو ذلك شعور عزة الحماية والصيانة له من والده والذود عنه والانتقام له إذا ضيم، وفوق هذا شعور الشرف، فهو يشرف بشرفه، ويحقر بضِعَته وخسته. فإن أهين بقول أو فعل ترجف أعصابه ويتبيغ دمه، ولا تكاد تهدأ ثائرته إلا بالانتقام له.
تؤيد هذه الأنواع من الشعور والغرائز ملكات تطبعها الحقوق العرفية والآداب الاجتماعية والشرائع الدينية، فالله تعالى قد قرن الإحسان بالوالدين بتوحيده وعبادته وحده بمثل قوله: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا} [الإسراء:23] الخ، وقرن شكرهما بشكره في قوله: {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير} [لقمان: 12]، ثم إنه أمر بمعاملتهما بالمعروف وإن كانا مشركين مع نهيه عن طاعتهما إذا دعواه إلى الشرك، فقال {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا] [لقمان:15].
فهذه مجامع نوازع حب الولد الوالد، والوالدة تفوقه في بعضها وتتخلف عنه في بعض. ولما كان الوالدون هم الذين يقاتلون ويحتاجون إلى الموالاة والمناصرة دون الوالدات اقتصر على ذكرهم، تبعا لنهيه عن موالاتهم؛ لأن موالاتهم لهم من قبيل طاعتهم في الشرك الذي نهاهم عنه، ونصر الشرك وأهله لأجله شرك، بل اتفق العلماء على أن الرضاء بالكفر كفر، فكيف بنصر الكفر على الإيمان بموالاة الكافرين ونصرهم على المؤمنين؟ ولكنه لم ينههم عن حب آبائهم المشركين؛ بل حذرهم أن يكونوا أحب إليهم من الله ورسوله وجهاد ما في سبيله، لأن هذا لا يجتمع مع الإيمان الصحيح كما سيأتي. كذلك نهاهم في سورة المجادلة عن موادة من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم إذا كانت لأجل المحادة كما يفيده ترتيب النهي على فعلها، فإن المودة هي المعاملة الحبية، والمحادة شدة العداوة والبغضاء، فاشتراك المؤمن المحب لله ورسوله مع المحاد لله ولرسوله في المودة المرتبة على صفتيهما جمع بين الضدين، فهو في معنى موالاتهم بل أخص منها.
حب الآباء للأبناء له جميع تلك المناشئ الغريزية والطبيعية، وأنواع الشعور والعواطف النفسية، وبعض تلك الحقوق العرفية والآداب الاجتماعية والأحكام الشرعية لا جميعها، ولكن حب الوالد للولد أحر وأقوى وأنمى وأبقى من عكسه، وهو أشد شعورا بمعنى كون ولده بضعة منه، وكون وجوده مستمدا من وجوده، ويشعر ما لا يشعر من معنى كونه نسخة ثانية منه، يرجى لها من البقاء ما لا يرجى للنسخة الأولى، فهو يحرص على بقائه كما يحرص على نفسه أو أشد، ويحرم نفسه من كثير من الطيبات إيثارا له بها في حاضر أمره ومستقبله، ويكابد الأهوال ويركب الصعاب وكثيرا ما يقترف الحرام في سبيل السعي والادخار له، وقد بينا في تفسير {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا} [الأنعام: 151] الآية أن عاطفة البنوة ونعرتها من أقوى غرائز الفطرة، وناهيك بما ينميها في النفس من قيام الوالد بشؤون الولد من التربية والتعليم، وما يحدثه ذلك من العواطف في الحال، والذكريات في الاستقبال، وكونه مناط الآمال، قال الله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا} [الكهف: 42]، قالوا المعنى أن الأعمال الصالحة التي يبقى ثوابها للإنسان بعد الحياة الدنيا خير من زينة المال فيها ثوابا، وخير من البنين فيها أملا، فهو نشر على ترتيب اللف. وقد بينا أسباب حب الآباء للبنين بالتفصيل في تفسير {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين} [آل عمران: 13] الخ.
حب الأخوة يلي في المرتبة حب البنوة والأبوة، والأخوان صنوان في وشيجة الرحم، فالأخ الصغير كالولد، والكبير كالوالد، ويختلفان عنهما بشعور المساواة في المنبت وطبقة القرابة، وقد يماري فيه بعض الذين أفسدت فطرتهم نزغات الفلسفة المادية فيزعمون أنه من التقاليد العادية لا منشأ له من غرائز النفس ولا مقتضيات الطبع، بل يقول بعضهم إن عداوة الأخوة أعرق في الغريزة من محبتها، ويستدلون عليه بما ورد في الكتب الإلهية من قتل أحد ولدي آدم لأخيه في أول النشأة، وعهد سلامة الفطرة من تأثير التنازع في شؤون الحياة، ومن فعلة إخوة يوسف به وهم من أسلم الناس أخلاقا وخيرهم وراثة.
والحق فيما قصه علينا الوحي من قتل قابيل لأخيه هابيل أنه بيان لما في استعداد البشر من التنازع بين غرائز الفطرة بالتعارض بين عاطفة وشيجة الرحم وحب العلو، والرجحان والامتياز على الأقران في رغائب النفس ومنافعها، وما قد يلد من الحسد، وما قد يتبع الحسد من البغي والعدوان، فضرب الله لنا مثلا لبيان هاتين الحقيقتين ليرتب عليه بيان كون غريزة الدين بل هدايته هي المهذبة للفطرة البشرية بترجيح الحق على الباطل، والخير على الشر، فكان قابيل مثلا لمن غلبت عليه النزعة الثانية، وهابيل مثلا لمن غلبت عليه الأولى بترجيح هداية الدين، وذلك قوله تعالى حكاية عنه {لئن بسطت إليَّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العلمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين} [المائدة: 31،32]. والدليل على محبة الأخوة ووشيجة الرحم في نفس قابيل، وتنازعها مع حب العلو والرجحان على أخيه، أو مساواته وحسده لتقبل قربانه دونه قوله تعالى: {فطوَّعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين} [المائدة: 33]، فإن التعبير عن ترجيح داعية الشر المتولدة من الحسد العارض على عاطفة حب الأخوة ورحمة الرحم «بالتطويع» من أبلغ تحديد القرآن لدقائق الحقائق باللفظ المفرد، فإن معنى صيغة التفعيل التكرار والتدريج في محاولة الشيء كترويض الفرس الجموح، وتذليل البعير الصعب، فهي تدل على أن قابيل كان يجد من نوازع الفطرة في نفسه الأمارة بالسوء مانعا يصدها عما زينه له الحسد من قتل أخيه، وأنها ما زالت تأمره ويعصيها حتى حملته على طاعتها بعد جهد وعناء. وقد شرحنا هذا المعنى شرحا واسعا في تفسير الآيات (ج 6 تفسير).
وقد وقع مثل هذا الحسد من إخوة يوسف: كبر عليهم إقبال أبيهم يعقوب بكل وجهه وكل نفسه على هذا الابن الصغير الذي لم يبلغ أن ينفعه أو ينفع الأسرة بخدمة ولا حماية ولا غيرها من مواضع آمال الآباء في الأبناء، وإعراضه عنهم على قوتهم وقيامهم بكل ما يحتاج إليه الأب والأسرة، فزين لهم الحسد أن يقتلوه أو يغربوه ليجتمع الشمل، ويخلو لهم وجه أبيهم بالإقبال عليهم، ويكونوا بذلك قوما صالحين بزوال سبب الشقاق والفساد فيهم، ولكنهم بعد التشاور رجحوا تغريبه وإبعاده عن أبيه عندما أشار به بعضهم، ولولا عاطفة الرحم وهداية الدين لما رضي العشرة برأي الواحد في ترك قتله. ولماذا نحفظ هذه الوقائع الشاذة وننسى الأمر الغالب الأعم، وهو تواد الإخوة وتعاونهم وتناصرهم بباعث الغريزة ولوازمها؟ ومنه ما كان من إحسان يوسف إلى إخوته ثم عفوه عنهم ثم معيشته معهم؟
بعد هذا أذكر القارئ الذي أخاف عليه فساد الأفكار المادية المغرية بعداوة الأخوة للجهل بالدين والحرمان من هدايته، بما هو معهود في هذه البلاد من إهمال تعليمه وتربيته، أذكره بما لا يستطيع العالم المادي إنكاره أو المكابرة فيه من منشأ حب الأخوة في النفس، وما تقتضيه من التواد والتناصر في نظام الاجتماع البدوي والمدني، وهو أن المعهود من أخلاق البشر وآدابهم وعاداتهم المنبعثة عن طباعهم وغرائزهم أن المحبة والعطف فيما بينهم يكون على قدر ما بين أفرادهم وجماعاتهم من الاشتراك في صفات النفس الموروثة، وعواطفها المكتسبة بالتربية والمعاشرة، وفي شؤون الحياة من طبيعية واجتماعية، وفي الحقوق والآداب الشرعية والعادية، وللأخوة من جملة هذه الأمور ما ليس لمن دونهم من الأقارب، بله من بعد عنهم من الأجانب، فالأخ صنو أخيه، منبتهما واحد، ودمهما واحد، ووراثتهما النفسية والجسدية تتسلسل من أرومة واحدة، وإن تفاوتوا فيها، وكل منهما يشعر بالاعتزاز بعزة الآخر إلا أن يفسد فطرته الحسد، ويحفظ من ذكريات الطفولة والصبا ما له سلطان عظيم على النفس، وتأثير كبير في آصرة الرحمة والحب، وما زال أهل الوسط من بيوت الناس الذين سلمت فطرتهم، وكرمت أخلاقهم، يحبون إخوتهم كحبهم أنفسهم وأولادهم، ويوقرون كبيرهم توقيرهم لأبيهم، ويرحمون صغيرهم رحمتهم لأبنائهم، ويكفلون من يتركه والده صغيرا فيتربى مع أولادهم كأحدهم، وقد تكون العناية به أشد، وما أطلت في هذا وما قبله هذه الإطالة النسبية إلا ليكون تفسير كتاب الله الذي أنزل لهداية الناس وإصلاح أمورهم مشتملا على ما يحتاجون إليه في هذا الزمان من درء مفاسد الفلسفة المادية القاطعة للأرحام، المفسدة للاجتماع.
حب الزوجية ضرب خاص من شعور النفس ليس له في أنواعها ضريب، فهو هو الذي يسكن به اضطراب النفس من ثورة الطبيعة التي تهيجها داعية النسل، وغريزة بقاء النوع، وهو الذي يتحد به بشران فيكون كل منهما متمما لوجود الآخر ينتجان باتحادهما بشرا مثلهما، وقد بيناه في تفسير {زين للناس حب الشهوات من النساء} [آل عمران: 14] إلى آخره وفي مقالات (الحياة الزوجية) من المنار (المجلد الثامن)، وإنما قدمه هنالك على حب البنين؛ لأن الكلام في الآية على حب الشهوات، وهو أقوى الشهوات البشرية على الإطلاق، وأخره هنا لأن الكلام في الحب المعارض لحب الله ورسوله والجهاد في سبيله وما يخشى من حمله على موالاة أهل الكفر في الحرب على المؤمنين، وقلما تكون زوج الرجل معارضة له في دينه وولاية من يدين لله بولايته، كما يعارض أبوه وابنه وأخوه من أهل الحرب دون امرأته. وروعي الترتيب الطبيعي في علاقة هذه الأصناف الخمسة بالمرء ودرجات لصوقها به في الحياة على طريقة الترقي في قوله تعالى: {يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه} [عبس: 34 36] وهذه الفروق في الترتيب بين الأشياء واختلافها في المقامات المختلفة هي من دقائق بلاغة القرآن، التي تند عن سلائق البشر ومعارفهم في بلاغة الكلام.
حب العشيرة حب عصبية وتعاون واعتزاز، وولاية ونصر في القتال، ويكون على أشده في أهل البداوة، ومن على مقربة منهم من أهل الحضارة، وقد أضعف الإسلام هذا النوع من الحب والولاية بالمساواة بين المسلمين في أخوة الإسلام كما بيناه في تفسير {فإخوانكم في الدين} [التوبة: 11] من الآية الحادية عشرة من هذه السورة، وبتحريم الدعوة إلى عصبية، والقتال على عصبية، كما أضعفته الحياة الحضرية التامة التي توكل فيها حماية الأفراد إلى دولة الرجل دون عشيرته وقبيله، وتجمع العشيرة على عشيرات كما في المصباح المنير، وبه قرأ أبو بكر وعاصم.
حب الأموال المقترفة أي المكتسبة -طبيعي أيضا، وهو أقوى في النفس من حب الأموال الموروثة؛ لأن عناء الإنسان في اقترافها يجعل لها في قلبه من القيمة والمنزلة ما ليس لما جاءه عفوا، كما هو مشهور بين الناس علما وعملا، وقد بينا أسباب حب المال من حيث هو في تفسير آية آل عمران 13 المشار إليها آنفا.
حب التجارة التي يخشى كسادها، يراد به -والله وأعلم- عروض التجارة التي يخشى كسادها في حالة الحرب. وقد كان بعض المسلمين من أهل مكة تجارا كما ورد، وكان لدى بعضهم شيء من عروض التجارة يخشى كساده في أوقات الحرب؛ لأن أكثر مستهلكيها كانوا من المشركين، وكانت أسواقها تنصب في أيام موسم الحج، وقد منع منه المشركون بمقتضى الآيات السابقة واللاحقة من هذه السورة، وناهيك بحب أبي سفيان وولده للمال وولوعه بالتجارة، وما كان من تأليبه المشركين على قتال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر لأجل تجارته، وقد أظهر الإسلام يوم الفتح، ثم روي عنه أنه كان من الشامتين بهزيمة المؤمنين يوم حنين، فتألفه النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة العطاء من غنائم هوازن، كما استماله يوم الفتح بقوله:« من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» 54 رواه مسلم.
حب المساكن المرضية طبيعي أيضا، فكم ممن لا يملك مسكنا يأويه، أو يملك قصرا لا يرضيه، والمراد هنا- فيما يظهر، والله أعلم- ما كان لبعض المسلمين في مكة والمدينة من الدور الحسنة التي كانوا يرضونها للإقامة والسكنى، بما فيها من المرافق وأسباب الراحة، ويكونون في مدة خروجهم للجهاد محرومين منها، وما كان لبعض آخر في مكة يعدونها للاستغلال في أيام الموسم؛ إذ يظهر من طبيعة الأحوال أن ذلك قديم، وهذا النوع يكون معطلا بمنع المشركين من الحج، وهو ما بلغوه من هذه السورة.
فهذه ثمانية أنواع من حب القرابة والزوجية والمنافع والمرافق التي عليها مدار معايش الناس، قد كان من شأنها أن تجعل القتال مكروها فوق الكره الذي تقتضيه ذاته الوحشية، وما يلزمه من مفارقة هذه المحبوبات كلها أو بعضها، ولذلك لم يشرع إلا للضرورة التي يرجح بها الإقدام عليه على الإحجام عنه، كما قال تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم} [البقرة:216] الآية، وكقوله: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} [البقرة: 25]، وغيرهما مما تقدم في تفسير هذه السورة وما قبلها من حكمة تشريع القتال، وكونه بحسن القصد، والشروط التي يوجبها الإسلام أعظم مزيل للفساد، ومصلح لأمر العباد، فراجعه إن كان غاب عنك، فهو يفيد في فهم ما هنا. وزد عليه ما يجب إيثاره من حب الله ورسوله على كل حب، وتقديم كل جهاد في سبيله على كل منفعة في الأرض.
أما حب الله تعالى أي حب عبده له فهو الذي يجب أن يكون فوق كل حب؛ لأنه سبحانه وتعالى هو المتصف وحده بكل ما شأنه أن يحب من جمال وكمال، وبر وإحسان، وكل من يحب في الوجود فهو من صنعه وفيض جوده وإحسانه، ومظهر أسمائه الحسنى وصفاته، فمن الطبيعي المعقول أن يكون حب الوالد للولد، وما يتضمنه من عطف وأمل، شعبة من حب واهبه، ومودع العطف والرحمة في قلب والديه له. وأن يكون حب الولد لوالده ومربيه عندما يعقل جزءا من حب ربه الذي سخره له، وساقه بغريزة الفطرة وحكم الشريعة لتربيته، وهو عز وجل رب كل شيء، المربي الحق لكل حي، بسننه في الغرائز والقوى والأخلاق، وما يترتب عليها من الأعمال، وهو جل ثناؤه الخلف والعوض من كل والد ليتيمه، ومن كل ولد لأبيه وأمه، ومن الطبيعي المعقول أن يكون حب الأخ لأخيه كذلك بالأولى، وكذلك حب الزوج للزوج لا يشذ عن هذه القاعدة، فهو الذي خلق الزوجين الذكر والأنثى، وهو الذي أودع المحبة الزوجية في الأنفس، ولم يخصها بفرد معين {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} [الروم:19]، وحب العشيرة أحق وأولى بالدخول في عمومها، فإن الباعث عليه التعاون والتناصر بوشيجة القرابة، وقد حل محلها في الإسلام ما هو أقوى وأعظم، وهو تناصر أهل الملة الكبيرة بمقتضى أحكام الشريعة، والله ولي المؤمنين ونصيرهم بوجه أخص، {وما النصر إلا من عند الله} [آل عمران: 126] بالوجه الأعم.
وكذلك الأموال بجميع أنواعها، ومنها عروض التجارة التي يرجى رواجها ويخشى كسادها كلها من جوده وعطائه وتسخيره، وحبها يجب أن يكون دون حبه؛ بل هو دون ما تقدمه من الحب وإن فتن به أكثر الماديين، وكثير من الذين حرموا تهذيب الدين، فصارت أموالهم من أسباب شقائهم في دنياهم، حتى إن منهم من يبخل بها عن نفسه وأهله وولده. والمساكن دون الأموال؛ لأن صاحب المال يمكنه أن يبني منها مثل ما يفقده أو خيرا منه. وقد أغنى الله المؤمنين الصادقين عن كل ما فقدوا أو خافوا أن يفقدوا بنبذ عهود المشركين وعودة حال الحرب بينهما، وكذّب وهْم ضعفاء الإيمان، وإيهام المنافقين لهم بأن الجهاد في سبيل الله سبب الكساد والخسران، وصدق وعد الله للمؤمنين باستخلافه إياهم في الأرض وتمكينهم فيها، وجعلهم أغنى أهلها ما داموا مهتدين به، كما وعدهم في قوله: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض} [التغابن: 54] الخ ولو عادوا إلى تلك الهداية، لعادت إليهم تلك الخلافة.
وإن فوق جميع هذه الأنواع من حبه تعالى لفضله وإحسانه -بالإيجاد والإمداد في الدنيا وتسخير قواها ومنافعها للناس- وحبه لما وعد به -مما يشبهه ولكنه يعلوه ويفوقه من الثواب في الدار الآخرة- نوعا آخر هو حب العبادة المحضة والمعرفة العليا. وقد بينا معناه وسببه في تفسير {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله} [البقرة:165]، وبينا خطأ المشركين في إشراك أندادهم معه فيه لتوهمهم أنهم وسيلة إليه وشفعاء عنده يقربون من توسل بهم إليه زلفى، وكون المؤمنين أشد منهم حبا لله، لأنهم أعلم بما يجب العلم به من صفات جلاله وجماله وكماله، ومن توحده بالربوبية- ومن آثارها التدبير والنفع بالأسباب التي هو خالقها ومسخرها وبغير الأسباب إن شاء وانفراده بالألوهية، وهي كونه هو المعبود الحق وحده، فحبهم إياه مجتمع ثابت كامل لا شائبة للإشراك فيه، وبينا في مقابلة هذا كون حب المشركين للأنداد بسبب ذلك الاعتقاد نهبا مقسما على معبودات متعددة.
ثم إن حب المؤمن العارف لله تعالى له درجات تتفاوت بتفاوت معارفه بآيات الله في خلقه الدالة على صفات جماله وكماله، ومقدار إدراكه لما فيها من الإبداع والإتقان كما قال: {صنع الله الذي أتقن كل شيء} [النمل: 88]، وقال: {الذي أحسن كل شيء خلقه} [السجدة: 7]، وقد بينا هذا في تفسير قوله عز وجل: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} [آل عمران:31]، كما بينا فيه معنى حبه تعالى لعباده الموحدين المتبعين لما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم من النور والهدى والفرقان. وقد جهل علماء الألفاظ والتقاليد كنه هذا الحب، فتأولوه كما تأولوا غيره من صفات الله تعالى وشؤونه الكمالية، توهما منهم أنها تعارض تنزهه عن مشابهة الناس في صفاتهم البشرية، فكان حظهم من معرفة ربهم وإلههم التعطيل بشبهة التنزيه- الذي هو معنى سلبي محض- ثم أعدنا بيان ما ذكر في تفسير قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} [المائدة:54].
وأما حب رسوله صلوات الله وسلامه عليه وآله فهو دون حبه عز وجل، وفوق حب تلك الأصناف الثمانية وغيرها ممن يحب من الخلق، كالعلماء العاملين، والمرشدين المربين، والفنانين المتقنين، والزعماء السياسيين، والأغنياء المحسنين، فإنه صلى الله عليه وسلم كان المثل البشري الأعلى، والأسوة الحسنة المثلى، في أخلاقه وآدابه وفضائله وفواضله، وسياسته ورياسته، وسائر هديه، قد خصه الله بجعله خاتم النبيين، وإرساله رحمة للعالمين، وجعل اتباعه هو الدليل على حب متبعه لله عز وجل، وجعل جزاءه عنده حبه تعالى لمتبعه، ومغفرته لجميع ذنوبه، وذلك نص آية31 آل عمران التي ذكرناها آنفا، وسنزيد هذا الحب وحب الله تعالى بيانا في هذا المقام، وقد عطف عليهما الجهاد في سبيله منكرا لأنه أظهر آياتهما، ونكتة تنكيره وإبهامه إفادة أن كل نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله- قل أو كثر- فإن تاركه لأجل حب شيء من تلك الأصناف الثمانية وتفضيلها عليه يستحق الوعيد الذي في الآية.
والجهاد أنواع ترجع إلى جنسين: الجهاد بالمال والجهاد بالنفس، والقتال نوع من أنواع الجنس الثاني، ومنها أنواع أخرى علمية وعملية، فمهندس الحرب الحق العادلة مجاهد في سبيل الله، وواضع الرسوم لمواطنها وطرقها كذلك الخ.
وإذا كان الأمر كذلك وهو كذلك فلا ريب أن من كان ما ذكر من الأصناف الثمانية كلها أو بعضها أحب إليه من الله ورسوله وجهاد في سبيله فهو غير تام الإيمان أو غير صحيحه كما تشير إليه آية المائدة 75 التي استشهدنا بها آنفا. فقوله عز وجل: {فتربصوا حتى يأتي الله بأمره} وعيد أبهم لتذهب أنفسهم فيه كل مذهب، وأقرب ما يفسر به قوله في وعيد المنافقين من هذه السورة {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا} [التوبة: 52]، وما كان أولئك الذين يؤثرون حب أهلهم وأموالهم على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله إلا من المنافقين، فهم الذين كانوا يثبطون المؤمنين عن الجهاد ويوحون إليهم زخرف الاعتراض على نبذ عهود المشركين، وإعلان حالة الحرب بينهم وبين المؤمنين، كما بيناه مرارا.
وما روي عن مجاهد أن المعنى حتى يأتي الله بالأمر بالهجرة، وأن هذا كله كان قبل فتح مكة، فما أراه يصح عنه، وقد تقدم نقل الاتفاق على نزول هذه الآيات- وكذا السورة جلها أو كلها -بعد فتح مكة وغزوة حنين وتبوك، وأنها مما بلغ للمشركين في موسم سنة تسع، بعد سقوط فريضة الهجرة بنص حديث: (لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا) رواه البخاري من حديث مجاشع بن مسعود مرفوعا. ورواه في مواضع أخرى بلفظ (بعد الفتح) من حديث ابن عباس رضي الله عنه، والوعيد هنا على ترك الجهاد دون الهجرة.
{والله لا يهدي القوم الفاسقين} الفسق في اللغة خروج الشيء أو الشخص عما كان فيه، أو عما من شأنه أن يكون فيه، بحسب الخلقة أو العرف أو الشريعة. قال في المصباح: ويقال أصله خروج الشيء من الشيء على وجه الفساد، يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، وكذلك كل شيء خرج عن قشره فقد فسق. قاله السرقسطي، وقيل للحيوانات الخمس فواسق استعارة وامتهانا لهن لكثرة خبثهن وأذاهن، حتى قيل: يقتلن في الحل وفي الحرم وفي الصلاة، ولا تبطل الصلاة بذلك اه. وهو في الاستعمال: الخروج من حدود الدين والشريعة بالكفر المخرج من الملة أو فيما دونه من الكبائر، وفي اصطلاح الفقهاء تخصيصه بالأخير، وقد يستعمل في القرآن بمعنى الخروج من سلامة الفطرة إلى فساد الطباع، ومن نور العقل إلى ظلمة الجهل والتقليد كما بيناه في تفسير {ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون} [البقرة:99] بحيث يكون متمردا لا يقبل هداية الدين.
والمعنى هنا: وقد مضت سنة الله تعالى في القوم الفاسقين المارقين من الدين بعد معرفته كالمنافقين أن يكونوا محرومين من الهداية الفطرية التي يعرفها الإنسان بالعقل السليم والوجدان الصحيح، فلا يعرفوا ما فيه مصلحتهم وسعادتهم من اتباعه، فيؤثرون حب القرابة والمنفعة العارضة كالمال والتجارة على حب الله ورسوله والجهاد المفروض في سبيله، ويصح تفسيره بمقابله وعكسه، فيقال: وقد مضت سنته تعالى في القوم الفاسقين من محيط الفطرة السليمة ونور العقل الراجح اتباعا للهوى أو التقليد أن يحرموا من فقه هداية الدين فلا يعقلونها، وأهمها العلم بما في إيثار حب الله وحب رسوله والجهاد في سبيله من الصلاح والإصلاح، والفوز بسعادة الدارين، بما يقتضيه الولاء والاتحاد بين المؤمنين من إزالة خرافات الشرك ومفاسده، وإقامة الحق والعدل، وما يستلزمهما من ثبات الملك.
فصل في كمال حب الله ورسوله وطريق اكتسابه
من رحمة الله تعالى في دين الفطرة أنه لم يذم حب الأهل والأقارب والأزواج، ولا حب المال والكسب والاتجار، ولم ينه عنهما، وإنما جعل من مقتضى الإيمان إيثار حب الله ورسوله على حب ما ذكر، وكذلك الجهاد في سبيله إذا وجب، كما كانت الحال بين المؤمنين والمشركين، وتقدم شرحها في تفسير هذه السورة وغيرها، وهذا منتهى التسامح في الدين دون تكليف بغض ما ذكر، فكيف وقد أباح الإسلام معه بر المخالف في الدين والعدل والقسط في معاملته في سورة الممتحنة 8، 9، وتقدم الاستشهاد به في آخر تفسير الآية السابقة، وخاطب المؤمنين في سورة آل عمران بقوله بعد النهي عن اتخاذ بطانة من الكفار الذين لا يألونهم خبالا الخ: {ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم} [آل عمران: 3]، وأباح لهم نكاح الكتابيات على ما فطر عليه القلوب من حب الزوجية، وقوله: {وجعل بينكم مودة ورحمة} [الروم:21].
ومن الأحاديث في الحب المشروح في الآية ما رواه الشيخان في صحيحيهما وكذا الترمذي والنسائي من حديث أنس مرفوعا: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار)، وما رواه الشيخان من حديث أنس أيضا: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)، وما رواه البخاري من حديث عبد الله بن هشام قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا نفسي التي بين جنبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك). فقال له عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (الآن يا عمر).
وقد حملوا هذه الأحاديث على الإيمان الكامل بناء على أن المراد حب الطبع الذي لا يملكه الإنسان؛ إذ من المعلوم بالضرورة أن حب الإيمان والعبادة والإجلال شرط أو شطر من الإيمان بالله وبرسالته صلوات الله وسلامه عليه. وأما صيرورته وجدانا من قبيل حب الطبع، وغلبته على حب كل شيء حتى النفس، فهو كمال لا يحصل إلا بعد الرسوخ في الإيمان، وهو ليس ببعيد، فكثير من العشاق للحسان يصلون إلى هذه الدرجة، وأكثر هؤلاء الحسان غير أهل لعشر هذا الحب، لولا أنه من أمراض النفس، فأين منه حب من هو مصدر لكل جمال وكمال وحسن وإحسان، يتجلى في كل ما عرف البشر من نظام الأكوان، وهم لم يعرفوا منه إلا القليل؟
والطريق إلى هذه المعرفة والحب كثرة الذكر والفكر، وتدبر القرآن مع التزام سائر أحكام الشرع، وإنما الذكر ذكر القلب، مع حسن النية وصحة القصد، وتأمل سننه وآياته في الخلق، بأن تذكر عند رؤية كل حسن وجمال وكمال في الكون أنه من الله عز وجل، وأن تذكره عند سماع كل صوت من ناطق مفهوم، وصامت معلوم، كخرير المياه، وهزيز الرياح، وحفيف الأشجار، وتغريد الأطيار، وكذا نغمات الأوتار، وتتذكر أنها تسبح بحمد الله، ومن صنع الله الذي أتقن كل شيء، كما قال تعالى في تسبيح نبيه داود عليه السلام في زبوره: {إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق والطير محشورة كل له أواب} [ص:18، 19]...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وهذه الآية الكريمة أعظم دليل على وجوب محبة اللّه ورسوله، وعلى تقديمها على محبة كل شيء، وعلى الوعيد الشديد والمقت الأكيد، على من كان شيء من هذه المذكورات أحب إليه من اللّه ورسوله، وجهاد في سبيله. وعلامة ذلك، أنه إذا عرض عليه أمران، أحدهما يحبه اللّه ورسوله، وليس لنفسه فيها هوى، والآخر تحبه نفسه وتشتهيه، ولكنه يُفَوِّتُ عليه محبوبًا للّه ورسوله، أو ينقصه، فإنه إن قدم ما تهواه نفسه، على ما يحبه اللّه، دل ذلك على أنه ظالم، تارك لما يجب عليه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذا التجرد لا يطالب به الفرد وحده، إنما تطالب به الجماعة المسلمة، والدولة المسلمة. فما يجوز أن يكون هناك اعتبار لعلاقة أو مصلحة يرتفع على مقتضيات العقيدة في الله ومقتضيات الجهاد في سبيل الله. وما يكلف الله الفئة المؤمنة هذا التكليف، إلا وهو يعلم أن فطرتها تطيقه -فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها- وإنه لمن رحمة الله بعباده أن أودع فطرتهم هذه الطاقة العالية من التجرد والاحتمال؛ وأودع فيها الشعور بلذة علوية لذلك التجرد لا تعدلها لذائذ الأرض كلها.. لذة الشعور بالاتصال بالله، ولذة الرجاء في رضوان الله، ولذة الاستعلاء على الضعف والهبوط، والخلاص من ثقلة اللحم والدم، والارتفاع إلى الأفق المشرق الوضيء. فإذا غلبتها ثقلة الأرض ففي التطلع إلى الأفق ما يجدد الرغبة الطامعة في الخلاص والفكاك.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمخاطب بضمائر جماعة المخاطبين: المؤمنون الذين قصروا في بعض الواجب أو المتوقّع منهم ذلك، كما يشعر به اقتران الشرط بحرف الشّكّ وهو {إنْ} ويفهم منه أنّ المسترسلين في ذلك المُلابِسينَ له هم أهل النفاق، فهم المعرَّض لهم بالتهديد في قوله: {فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}...
وقد جمعت هذه الآية أصنافاً من العلاقات وذويها، من شأنها أن تألفها النفوس وترغب في القرب منها وعدم مفارقتها، فإذا كان الثبات على الإيمان يجرّ إلى هجران بعضها كالآباء والإخوان الكافرين الذين يهجر بعضهم بعضاً إذا اختلفوا في الدين، وكالأبناء والأزواج والعشيرة الذين يألف المرء البقاء بينهم، فلعلّ ذلك يقعده عن الغزو، وكالأموال والتجارة التي تصدّ عن الغزو وعن الإنفاق في سبيل الله. وكذلك المساكن التي يألف المرء الإقامة فيها فيصدّه إلفها عن الغزو. فإذا حصل التعارض والتدافع بين ما أراده الله من المؤمنين وبين ما تَجُرُّ إليه تلك العلائق وجب على المؤمِن دحضها وإرضاء ربّه...
وقد أفاد هذا المعنى التعبير ب {أحب} لأنّ التفضيل في المحبّة يقتضي إرضاء الأقوى من المحبوبين، ففي هذا التعبير تحذير من التهاون بواجبات الدين مع الكناية عن جعل ذلك التهاون مُسبّباً على تقديم محبّة تلك العلائق على محبّة الله، ففيه إيقاظ إلى ما يؤول إليه ذلك من مهواة في الدين وهذا من أبلغ التعبير. وخصّ الجهاد بالذكر من عموم ما يحبّه الله منهم: تنويهاً بشأنه، ولأنّ ما فيه من الخطر على النفوس ومن إنفاق الأموال ومفارقة الإلف، جَعله أقوى مظنّة للتقاعس عنه، لا سيما والسورة نزلت عقب غزوة تبوك التي تخلّف عنها كثير من المنافقين وبعضُ المسلمين...
وجملة {والله لا يهدي القوم الفاسقين} تذييل، والواو اعتراضية وهذا تهديد بأنّهم فضلوا قرابتهم وأموالهم على محبّة الله ورسوله وعلى الجهاد فقد تحقّق أنّهم فاسقون والله لا يهدي القوم الفاسقين فحصل بموقع التذييل تعريض بهم بأنّهم من الفاسقين.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
أي تؤثرون المعيشة الرافهة الفاكهة عن طاعة الله ورسوله {وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} في سبيل الله تنالون به العزة، وتبعدون به الذلة {فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ} أي ترقبوا، حتى تنزل المذلة إذا استرخيتم تحت ظل النعيم، وعند الاسترخاء والاستنامة للراحة يكون القعود عن الجهاد، ولقد توقع خليفة رسول الله ذلك، إذ قال رضي الله عنه: (لتألمن على الصوف الأزربي كما يتألم أحدكم من النوم على حسك السعدان)، ولقد كان ذلك عندما وجدوا الدمقس والحرير، وجلسوا على عرش كسرى، وجاءتهم غنائم من الأندلس والصين، عندئذ كان الترفه والتنعم، والارتماء في أحضان القيان، وكثرت الأغاني، ورق الذوق، وحين كان ذلك لا تكون عزيمة...