{ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } يحتمل أن المراد بثيابه ، أعماله كلها ، وبتطهيرها تخليصها والنصح بها ، وإيقاعها على أكمل الوجوه ، وتنقيتها عن المبطلات والمفسدات ، والمنقصات من شر ورياء ، [ ونفاق ] ، وعجب ، وتكبر ، وغفلة ، وغير ذلك ، مما يؤمر العبد باجتنابه في عباداته .
ويدخل في ذلك تطهير الثياب من النجاسة ، فإن ذلك من تمام التطهير للأعمال خصوصا في الصلاة ، التي قال كثير من العلماء : إن إزالة النجاسة عنها شرط من شروط الصلاة .
ويحتمل أن المراد بثيابه ، الثياب المعروفة ، وأنه مأمور بتطهيرها عن [ جميع ] النجاسات ، في جميع الأوقات ، خصوصا في الدخول في الصلوات ، وإذا كان مأمورا بتطهير الظاهر ، فإن طهارة الظاهر من تمام طهارة الباطن .
والمراد بتطهير الثياب فى قوله - تعالى - : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } أمر بأن تكون ثيابه طاهرة من النجاسات ، لأن طهارة الثياب شرط فى الصلاة ، ولا تصح إلا بها . وهى الأول والأحب فى غير الصلاة . وقبيح بالمؤمن الطيب أن يحمل خبثا .
وقيل : هو أمر بتطهير النفس مما يستقذر من الأفعال ، ويستهجن من العادات . يقال : فلان طاهر الثياب ، وطاهر الجيب والذيل والأردان ، إذا وصفوه بالنقاء من المعايب ، ومدانس الأخلاق . ويقال : فلان دنس الثياب : للغادر - والفاجر - ، وذلك لأن الثوب يلابس الإِنسان ، ويشتمل عليه .
وسواء أكانت المراد بالثياب هنا معناها الحقيقى ، أو معناها المجازى المكنى به عن النفس والذات ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مواظبا على الطهارة الحسية والمعنوية فى كل شئونه وأحواله ، فهو بالنسبة لثيابه كان يطهرها من كل دنس وقذر ، وبالنسبة لذاته ونفسه ، كان أبعد الناس عن كل سوء ومنكر من القول أو الفعل .
إلا أننا نميل إلى حمل اللفظ على حقيقته ، لأنه لا يوجد ما يوجب حمله على غير ذلك .
وقوله : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } قال الأجلح الكندي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أنه أتاه رجل فسأله عن هذه الآية : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ }
قال : لا تلبسها{[29472]} على معصية ولا على غَدْرَة . ثم قال : أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي :
فَإني بحمد الله لا ثوبَ فَاجر *** لبستُ ولا من غَدْرَة أتَقَنَّعُ{[29473]}
وقال ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس [ في هذه الآية ]{[29474]} { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } قال : في كلام العرب : نَقِي الثياب . وفي رواية بهذا الإسناد : فطهر من الذنوب . وكذا قال إبراهيم ، الشعبي ، وعطاء .
وقال الثوري ، عن رجل ، عن عطاء ، عن ابن عباس في هذه الآية : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } قال : من الإثم . وكذا قال إبراهيم النخعي .
وقال{[29475]} مجاهد : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } قال : نفسك ، ليس ثيابه . وفي رواية عنه : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } عملك فأصلح ، وكذا قال أبو رَزِين . وقال في رواية أخرى : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } أي : لست بكاهن ولا ساحر ، فأعرض عما قالوا .
وقال قتادة : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } أي : طهرها من المعاصي ، وكانت العرب تسمي الرجل إذا نكث ولم يف بعهد الله إنه لَمُدنَس{[29476]} الثياب . وإذا وفى وأصلح : إنه لمطهر الثياب .
وقال عكرمة ، والضحاك : لا تلبسها على معصية .
وقال الشاعر{[29477]}
إذا المرءُ لم يَدْنَس منَ اللؤم عِرْضُه *** فَكُلّ ردَاء يَرْتَديه جَميلُ
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } [ يعني ]{[29478]} لا تك ثيابك التي تلبس من مكسب غير طائب ، ويقال : لا تلبس ثيابك على معصية .
وقال محمد بن سيرين : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } أي : اغسلها بالماء .
وقال ابن زيد : كان المشركون لا يتطهرون ، فأمره الله أن يتطهر ، وأن يطهر ثيابه .
وهذا القول اختاره ابن جرير ، وقد تشمل الآية جميع ذلك مع طهارة القلب ، فإن العرب تطلق الثياب عليه ، كما قال امرؤ القيس :
أفاطمَ مَهلا بعض هَذا التَدَلُّل *** وَإن كُنت قَد أزْمَعْت هَجْري فأجْمِلي
وَإن تَكُ قَد سَاءتك مني خَليقَةٌ *** فَسُلّي ثِيَابي مِن ثيابك تَنْسُلِ{[29479]}
وقال سعيد بن جبير : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } وقلبك ونيتك فطهر .
وقوله : وَثِيابَكَ فَطَهّرْ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : لا تلبس ثيابك على معصية ، ولا على غدرة . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : أما سمعت قول غَيلان بن سَلَمة :
وإنّى بِحَمْدِ اللّهِ لا ثَوْبَ فاجِرٍ *** لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرَةٍ أتَقَنّعُ
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مُصْعَب بن سلام ، عن الأجلح ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، قال : أتاه رجل وأنا جالس فقال : أرأيت قول الله : وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : لا تلبسها على معصية ولا على غدرة ، ثم قال : أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفيّ :
وإنّى بِحَمْدِ اللّهِ لا ثَوْبَ فاجِرٍ *** لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرَةٍ أتَقَنّعُ
حدثنا سعيد بن يحيى ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، عن الأجلح ، عن عكرِمة ، قوله : وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : لا تلبسها على غدرة ، ولا على فجرة ، ثم تمثّل بشعر غيلان بن سلمة هذا .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأجلح بن عبد الله الكندي ، عن عكرِمة وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : لا تلبس ثيابك على معصية ، ألم تسمع قول غيلان بن سَلَمَةَ الثقفّي :
وإنّى بِحَمْدِ اللّهِ لا ثَوْبَ فاجِرٍ *** لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرَةٍ أتَقَنّعُ
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا حجاج ، قال ابن جريج ، أخبرني عطاء ، أنه سمع ابن عباس يقول : وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : من الإثم ، ثم قال : نقيّ الثياب في كلام العرب .
حدثنا سعيد بن يحيى ، قال : حدثنا حفص بن غياث القاضي ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، قوله وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : في كلام العرب : نقيّ الثياب .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : من الذنوب .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : من الذنوب .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : هي كلمة من العربية كانت العرب تقولها : طهر ثيابك : أي من الذنوب .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَثِيابَكَ فَطَهّرْ يقول : طهّرها من المعاصي ، فكانت العرب تسمى الرجل إذا نكث ولم يف بعهد أنه دَنِس الثياب ، وإذا وفى وأصلح قالوا : مطهّر الثياب .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : من الإثم .
قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : من الإثم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَثِيابَكَ فَطَهّرْ يقول : لا تلبس ثيابك على معصية .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن ابن جُريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : من الإثم .
قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : من الإثم .
قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن الأجلح ، سمع عكرمة قال : لا تلبس ثيابك على معصية .
قال : ثنا وكيع ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عامر وعطاء قالا : من الخطايا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا تلبس ثيابك من مكسب غير طيب . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب غير طائب ، ويقال : لا تلبس ثيابك على معصية .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أصلح عملك . ذكر من قال ذلك :
حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : حدثنا فضيل بن عياض ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : عملك فأصلح .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن أبي رَزِين في قوله : وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : عملك فأصلحه ، وكان الرجل إذا كان خبيث العمل ، قالوا : فلان خبيث الثياب ، وإذا كان حسن العمل قالوا : فلان طاهر الثياب .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : لست بكاهن ولا ساحر ، فأعرض عما قالوا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : اغسلها بالماء ، وطهرها من النجاسة . ذكر من قال ذلك :
حدثني عباس بن أبي طالب ، قال : حدثنا عليّ بن عبد الله بن جعفر ، عن أحمد بن موسى بن أبي مريم صاحب اللؤلؤ ، قال : أخبرنا ابن عون ، عن محمد بن سيرين وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : اغسلها بالماء .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَثِيابَكَ فَطَهّرْ قال : كان المشركون لا يتطهرون ، فأمره أن يتطهر ، ويطهّر ثيابه .
وهذا القول الذي قاله ابن سيرين وابن زيد في ذلك أظهر معانيه ، والذي قاله ابن عباس وعكرِمة وابن زكريا قول عليه أكثر السلف من أنه عُنِيَ به : جسمك فطهر من الذنوب ، والله أعلم بمراده من ذلك .
هو في النظم مثل نظم { وربّك فكبر } [ المدثر : 3 ] أي لا تترك تطهير ثيابك .
وللثياب إطلاق صريح وهو ما يلبسه اللابس ، وإطلاق كنائي فيكنى بالثياب عن ذات صاحبها ، كقول عنترة :
فشكَكْت بالرمح الأصم ثيابه *** كناية عن طعنه بالرمح .
وللتطهير إطلاق حقيقي وهو التنظيف وإزالة النجاسات وإطلاق مجازي وهو التزكية قال تعالى : { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويُطهركم تطهيراً } [ الأحزاب : 33 ] .
والمعنيان صالحان في الآية فتحمل عليهما معاً فتحصل أربعةُ معان لأنه مأمور بالطهارة الحقيقية لثيابه إبطالاً لما كان عليه أهل الجاهلية من عدم الاكتراث بذلك . وقد وردت أحاديث في ذلك يقوّي بعضها بعضاً وأقواها مَا رواه الترمذي « إِن الله نظيف يحب النظافة » . وقال : هو غريب .
ومناسبة التطهير بهذا المعنى لأن يعطف على { وربَّك فكبر } لأنه لما أمر بالصلاة أُمر بالتطهر لها لأن الطهارة مشروعة للصلاة .
وليس في القرآن ذكر طهارة الثوب إلاّ في هذه الآية في أحد محاملها وهو مأمور بتزكية نفسه .
والمعنى المركب من الكنائي والمجازي هو الأعلق بإضافة النبوءة عليه . وفي كلام العرب : فلان نقي الثياب . وقال غيلان بن سلمة الثقفي :
وإِنِّي بحمد الله لا ثوب فاجر *** لبست ولا من غدرة أتقنّع
وأنشدوا قول أبي كبشة وينسب إلى امرىء القيس :
ثيابُ عوف طَهارَى نقية *** وأوْجُهُهُمْ بيضُ المَسَافِرِ غُرَّان
ودخول الفاء على فعل { فطهر } كما تقدم عند قوله : { وربّك فكبّر } [ المدثر : 3 ] .
وتقديم { ثيابك } على فعل ( طهِّرْ ) للاهتمام به في الأمر بالتطهير .