يقول تعالى : واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم ، لَمَّا عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه ، عند انقضاء أمَد المواعدة ، وكانت أربعين يومًا ، وهي المذكورة في الأعراف ، في قوله تعالى : { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ } [ الأعراف : 142 ] قيل : إنها ذو القعدة بكماله وعشر من ذي الحجة ، وكان ذلك بعد خلاصهم من قوم فرعون وإنجائهم من البحر .
{ ثُمّ عَفَوْنَا عَنكُمِ مّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ }
وتأويل قوله : ثُمّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلكَ يقول : تركنا معاجلتكم بالعقوبة من بعد ذلك ، أي من بعد اتخاذكم العجل إلها . كما :
حدثني به المثنى بن إبراهيم قال : حدثنا آدم العسقلاني ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : ثُمّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ يعني من بعد ما اتخذتم العجل .
وأما تأويل قوله : لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ فإنه يعني به : لتشكروا . ومعنى «لعل » في هذا الموضع معنى «كي » ، وقد بينت فيما مضى قبل أن أحد معاني «لعل » «كي » بما فيه الكفاية عن إعادته في هذا الموضع . فمعنى الكلام إذا : ثم عفونا عنكم من بعد اتخاذكم العجل إلها لتشكروني على عفوي عنكم ، إذ كان العفو يوجب الشكر على أهل اللبّ والعقل .
ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 52 )
والعفو تغطية الأثر وإذهاب الحال الأولى من الذنب أو غيره ، ولا يستعمل العفو بمعنى الصفح إلا في الذنب وعفا عنهم عز وجل أي عمن بقي منهم لم يقتل ، و { لعلكم } ترج لهم في حقهم وتوقع منهم لا في حق الله عز جل ، لأنه كان يعلم ما يكون منهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
" ثُمّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلكَ": تركنا معاجلتكم بالعقوبة من بعد ذلك، أي من بعد اتخاذكم العجل إلها.
"لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ": لتشكروا. ومعنى «لعل» في هذا الموضع معنى «كي»... فمعنى الكلام إذا: ثم عفونا عنكم من بعد اتخاذكم العجل إلها لتشكروني على عفوي عنكم، إذ كان العفو يوجب الشكر على أهل اللبّ والعقل.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لكي تشكروا عفوي عنكم، وصنيعي إليكم...
[و] الشكر... [كما] قال ابن عباس: هو الطاعة بجميع الجوارح لربّ الخلائق في السر والعلانية. وقال الحسن: شكر النعمة ذكرها، قال الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]. [وقال] الفضل: شكر كل نعمة ألاّ يُعصى الله بعد تلك النعمة. [وقال] أبو بكر بن محمد بن عمر الوراق: حقيقة الشكر: معرفة المُنعم، وأن لا تعرف لنفسك في النعمة حظّاً بل تراها من الله عزّ وجلّ...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
العفو: تغطية الأثر، وإذهاب الحال الأولى من الذنب أو غيره، ولا يستعمل العفو بمعنى الصفح إلا في الذنب. وعفا عنهم عز وجل أي عمن بقي منهم لم يقتل.
و {لعلكم} ترج لهم في حقهم، وتوقع منهم، لا في حق الله عز جل، لأنه كان يعلم ما يكون منهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان ذلك مقتضياً لأعظم السخط المقتضي من القادر للمعاجلة بالأخذ، ذكرهم نعمة الإمهال بعده، فقال مشيراً إلى عظم الذنب والنعمة بأداة التراخي: {ثم عفونا}. وقال الحرالي: ثم تجاوز الخطاب ما أصابهم من العقوبة على اتخاذهم إلى ذكر العفو تقريراً على تكرر تلافيهم حالاً بعد حال وقتاً بعد وقت، كلما أحدثوا خطيئة تداركهم منه عفو، وخصه باسم العفو لما ذكر ذنوبهم، لأن المغفور له لا يذكر ذنبه، فإن العفو رفع العقوبة دون رفع ذكرها، والغفر إماتة ذكر الذنب مع رفع العقوبة -انتهى.
{عنكم} ولم نعاجلكم بالأخذ، وفي قوله تعالى {من بعد ذلك} أي الذنب العظيم إشعار بما أصابهم من العقوبة وخطاب لبقية المعفو عنهم، لينتهي الأمر فيهم إلى غاية يترجّى معها لبقيتهم الشكر- قاله الحرالي. وكان الإشعار من جهة إدخال من، على الظرفية، فاقتضى مهلة بين العفو والذنب لم يشملها العفو بل كان فيها عقوبة، كما اقتضى قوله: من بعده، مهلة بين اتخاذهم العجل وأول ذهاب موسى عليه السلام للمناجاة.
{لعلكم تشكرون} أي ليكون حالكم حال من يتوقع منه الشكر.
قال الحرالي: وهو ظهور بركة الباطن على الظاهر، يقال: دابة شكور، إذا أنجح مأكلها بظهور سمنها؛ وفيه إشعار بأن منهم من يشكر وفيهم من يتمادى بما في ترجي كلمة لعل من الإبهام المشعر بالقسمين والمهيئ لإمكان ظهور الفريقين حتى يظهر ذلك لميقاته، لأن كل ما كان في حق الخلق تردداً فهو من الله سبحانه إبهام لمعلومه فيهم؛ على ذلك تجري كلمة لعل وعسى ونحوها -انتهى.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
توالت نعمة الله تعالى، ولكنهم فتنوا بما كان عليه المصريون الأقوياء، وكانوا هم الضعفاء، والضعيف دائما مأخوذ بتقليد القوي، فسرى ما عند الأقوياء، وهم قوم فرعون إلى الضعفاء، وكانوا يشعرون بالمذلة والاستكانة، وشعروا من بعد بأنهم ذلوا، فتابوا وتاب الله عليهم وعفى عنهم، وعد الله تعالى ذلك عليهم نعمة فقال تعالى: {ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون}.
أي أن هذه الجريمة الكبرى وهي الإشراك بالله تعالى ما كانت لتغفر، ولكن الله تعالى عفى عنها، والتعبير هنا بثم الدالة على التراخي والبعد، لبيان بعد ما كان منهم عن أن ينالوا من بعده عفو الله تعالى، ولكنه سبحانه وتعالى تواب رحيم وسعت رحمته كل شيء ما دامت التوبة قد حصلت.
وهنا نجده سبحانه وتعالى عبر بالعفو، ولم يعبر بالغفران وقبول التوبة، وذلك لأن العفو يكون عما وقع بجهالة، وهم كانوا في حال جهالة، لتأثرهم بما كان عند المصريين من عادات جاهلية، ولأنهم خرجوا من ذل المعاصي إلى عزة الحق، فكان العفو أدنى إليهم، لأنهم كانوا في فتنة.
وقوله من بعد ذلك الكفران، والفتنة التي أضلتهم، فالإشارة إلى البعيد، لبعد ما ارتكبوا عن موجب العفو الذي نالوه، فهم كفروا كفرانا مبينا، ولكن التوبة تجب ما قبلها، ولم يكن الخطاب بالجمع لأن فتنة العجل لم تكن منهم أجمعين، بخلاف ما كان يسومهم به فرعون وآله من عذاب، فقد كان يعمهم، ولا يخص فريقا. وقوله تعالى: {لعلكم تشكرون}، لعل هنا للرجاء، والرجاء هنا من العبيد لا من الله، والمعنى: عفونا عنكم لتكون حالكم حال الرجاء لشكر الله تعالى، فالرجاء لأمر يقع أو لا يقع إنما هو من شأن الناس، ولا يمكن أن يكون من الله تعالى الذي يعلم ما يقع وما لا يقع، ولا يغيب عن علمه شيء في الأرض ولا في السماء والله سميع عليم.
أو يكون الرجاء من الله تعالى، ويكون بمعنى الأمر، كما يقول السيد لخادمه فعلت معك كذا وكذا رجاء أن تعترف بالجميل، وتشكر لي حسن صنيعي، فهذا يكون حثا على فعل الجميل، بذكر موجبه، وعلى هذا المعنى تكون {لعلكم} في مقام التعليل لوجوب الشكر، وتكون بمعنى: لكي تشكروا، إن كنتم لا تكفرون بالنعمة، ولكن تشكرونها.