الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{ثُمَّ عَفَوۡنَا عَنكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (52)

{ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم } أي تركناكم فلم نستأصلكم ، من قول له عليه السلام : أحفوا الشّوارب واعفوا اللحي ، وقيل : محونا ذنوبكم ، من قول العرب : عفت الرّيح المنازل فعفت . { مِّن بَعْدِ ذَلِكَ } أي من بعد عبادتكم العجل . { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } لكي تشكروا عفوي عنكم ، وصنيعي إليكم .

واختلف العلماء في ماهيّة الشكر ، فقال ابن عباس : هو الطاعة بجميع الجوارح لربّ الخلائق في السر والعلانية .

وقال الحسن : شكر النعمة ذكرها ، قال الله تعالى : { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } [ الضحى : 11 ] .

الفضل : شكر كل نعمة ألاّ يُعصى الله بعد تلك النعمة .

أبو بكر بن محمد بن عمر الوراق : حقيقة الشكر : معرفة المُنعم ، وأن لا تعرف لنفسك في النعمة حظّاً بل تراها من الله عزّ وجلّ . قال الله تعالى : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } [ النحل : 53 ] يدل عليه ما روى سيف بن ميمون عن الحسين : إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال موسى عليه السلام : يا ربّ كيف استطاع آدم أنْ يؤدي شكر ما أجريت عليه من نعمك ، خلقته بيدك واسجدت له ملائكتك واسكنته جنَّتك ؟ فأوحى الله إليه : إنّ آدم علم إنّ ذلك كله منّي ومن عندي فذلك شكر " .

وعن إسحاق بن نجيح الملطي عن عطاء الخرساني عن وهب بن منبّه قال : قال داود عليه السلام : إلهي كيف لي أن أشكرك وأنا لا أصِلُ إلى شكرك إلاّ بنعمتك ؟ فأوحى الله تعالى إليه : ألست تعلم أنّ الذي بك من النعم منّي ؟ قال : بلى يا ربّ ، قال : أرضى بذلك لك شكراً .

وقال وهب : وكذلك قال موسى : يا ربّ أنعمت عليّ بالنعم السوابغ وأمرتني بالشكر لك عليها ، وإنما شكري لكل نعمة منك عليّ ، فقال الله : يا موسى تعلّمت العلم الذي لا يفوته علم ، حسبي من عبدي أن يعلم أن ما به من نعمة فهو منّي ومن عندي .

قال الجنيد : حقيقة الشكر : العجز عن الشكر .

وروى ذلك عن داود عليه السلام إنّه قال : سبحان من جعل اعتراف العبد بالعجز عن شكره شكراً ، كما جعل اعترافه بالعجز عن معرفته معرفة .

وقال بعضهم : الشكر أن لا يرى النعمة البتة بل يرى المنعم .

أبو عثمان الخيري : صدق الشكر : لا تمدح بلسانك غير المنعم .

أبو عبد الرحمن السلمي عن أبي بكر الرازي عن الشبلي : الشكر : التواضع تحت رؤية المنّة .

وقيل : الشكر خمسة أشياء : مجانبة السيئات ، والمحافظة على الحسنات ، ومخالفة الشهوات ، وبذل الطاعات ، ومراقبة ربّ السموات .

قال الثعلبي : سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سُئل أبو الحسن علي بن عبد الرحيم القناد في الجامع بحضرة أبي بكر بن عدوس وأنا حاضر : من أشكر الشاكرين ؟ قال : الطاهر من الذنوب ، يعدُّ نفسه من المذنبين ، والمجتهد في النوافل بعداد الفرائض ، يعدُّ نفسه من المقصّرين ، والراضي بالقليل من الدُّنيا ، يعدُ نفسهُ من المفلسين ، فهذا أشكر الشاكرين .

بكر بن عبد الرحمن عن ذي النّور : الشكر لمن فوقك بالطاعة ، ولنظيرك بالمكافأة ، ولمن دونك بالإحسان والإفضال .