البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ثُمَّ عَفَوۡنَا عَنكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (52)

عفا : بمعنى كثر ، فلا يتعدى حتى عفوا ، وقالوا : وبمعنى درس ، فيكون لازماً متعدياً نحو : عفت الديار ، ونحو : عفاها الريح ، وعفا عن زيد : لم يؤاخذه بجريمته ، واعفوا عن اللحى ، أي اتركوها ولا تأخذوا منها شيئاً ، ورجل عفوّ ، والجمع عفو على فعل بإسكان العين ، وهو جميع شاذ ، والعفاء : الشعر الكثير ، قال الشاعر :

عليه من عقيقته عفاء***

ويقال في الدعاء على الشخص : عليه العفاء ، قال :

على آثار من ذهب العفاء***

يريد الدروس ، وتأتي عفا : بمعنى سهل من قولهم : خذ ما عفا وصفا ، وأخذت عفوه : أي ما سهل عليه ، { ماذا ينفقون قل العفو } أي الفضل الذي يسهل إعطاؤه ، ومنه : خذ العفو ، أي السهل على أحد الأقوال ، والعافية : الحالة السهلة السمحة .

الشكر : الثناء على إسداء النعم ، وفعلة : شكر يشكر شكراً وشكوراً ، ويتعدى لواحد تارة بنفسه وتارة بحرف جر ، وهو من ألفاظ مسموعة تحفظ ولا يقاس عليها ، وهو قسم برأسه ، تارة يتعدى بنفسه وتارة بحرف جر على حد سواء ، خلافاً لمن زعم استحالة ذلك .

وكان شيخنا أبو الحسين بن أبي الربيع يذهب إلى أن شكر أصله أن يتعدى بحرف جر ، ثم أسقط اتساعاً .

وقيل : الشكر : إظهار النعمة من قولهم : شكرت الرمكة مهرها إذا أظهرته ، والشكير : صغار الورق يظهر من أثر الماء ، قال الشاعر :

وبينا الفتى يهتز للعيش ناضراً *** كعسلوجة يهتز منها شكيرها

وأوّل الشيب ، قال الراجز :

ألان ادلاج بك العتير *** والرأس إذ صار له شكير

وناقة شكور تذر أكثر مما رعت***

{ ثم عفونا عنكم } : تقدّمت معاني عفا ، ويحتمل أن يكون عفا عنه من باب المحو والإذهاب ، أو من باب الترك ، أو من باب السهولة ، والعفو والصفح متقاربان في المعنى .

وقال قوم : لا يستعمل العفو بمعنى الصفح إلا في الذنب ، فإن كان العفو هنا بمعنى الترك أو التسهيل ، فيكون عنكم عام اللفظ خاص المعنى ، لأن العفو إنما كان عمن بقي منهم ، وإن كان بمعنى المحو ، كان عاماً لفظاً ومعنى ، فإنه تعالى تاب على من قتل ، وعلى من بقي ، قال تعالى : { فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم } وروي أن الله أوحى إلى موسى بعد قتلهم أنفسهم أني قبلت توبتهم فمن قتل فهو شهيد ، ومن لم يقتل فقد تبت عليه وغفرت له .

وقالت المعتزلة : عفونا عنكم ، أي بسبب إتيانكم بالتوبة ، وهي قتل بعضهم بعضاً : { من بعد ذلك } إشارة إلى اتخاذ العجل ، وقيل : إلى قتلهم أنفسهم ، والأوّل أظهر .

{ لعلكم } : تقدّم الكلام في لعل في قوله : { لعلكم تتقون } ، لغة ودلالة معنى بالنسبة إلى الله تعالى ، فأغنى عن إعادته .

{ تشكرون } : أي تثنون عليه تعالى بإسدائه نعمه إليكم ، وتظهرن النعمة بالثناء ، وقالوا : الشكر باللسان ، وهو الحديث بنعمة المنعم ، والثناء عليه بذلك وبالقلب ، وهو اعتقاد حق المنعم على المنعَم عليه ، وبالعمل { اعملوا آل داود شكراً } وبالله أي شكراً لله بالله لأنه لا يشكره حق شكره إلا هو ، وقال بعضهم :

وشكر ذوي الإحسان بالقول تارة *** وبالقلب أخرى ثم بالعمل الأسنى

وشكري لربي لا بقلبي وطاعتي *** ولا بلساني بل به شكره عنا

ومعنى لعلكم تشكرون : أي عفو الله عنكم ، لأن العفو يقتضي الشكر ، قاله الجمهور ، أو تظهرون نعمة الله عليكم في العفو ، أو تعترفون بنعمتي ، أو تديمون طاعتي ، أو تقرون بعجزكم عن شكري أربعة أقوال : وقال ابن عباس : الشكر طاعة الجوارح .

وقال الجنيد : الشكر هو العجز عن الشكر .

وقال الشبلي : التواضع تحت رؤية المنة .

وقال الفضيل : أن لا تعصي الله .

وقال أبو بكر الورّاق أن تعرف النعمة من الله .

وقال ذو النون : الشكر لمن فوقك بالطاعة ، ولنظيرك بالمكافأة ، ولمن دونك بالإحسان .

قال القشيري : سرعة العفو عن عظيم الجرم دالة على حقارة المعفو عنه ، يشهد لذلك { من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين } ، وهؤلاء بنو إسرائيل عبدوا العجل فقال تعالى : { ثم عفونا عنكم من بعد ذلك } ، وقال لهذه الأمة : { ومن يعمل مثقال ذرة شرّاً يره } انتهى كلامه .

وناسب ترجي الشكر إثر ذكر العفو ، لأن العفو عن مثل هذه الزلة العظيمة التي هي اتخاذ العجل إلهاً هو من أعظم ، أو أعظم إسداء النعم ، فلذلك قال : { لعلكم تشكرون } .

/خ53