اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ثُمَّ عَفَوۡنَا عَنكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (52)

قوله : { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ } .

و " العفو " المَحْوُ ، ومنه : " عَفَا اللَّهُ عَنْكُمْ " أي : محا ذنوبكم ، والعافية : لأنها تمحو السّقم ، وعَفَتِ الريح الأَثَرَ ؛ قال : [ الطويل ]

488 فَتُوضِحَ فَالمِقْراةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا *** لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وَشَمْأَلِ{[12]}

وقيل : عَفَا كذا أي : كَثُرَ ، ومنه " وأَعْفُوا اللِّحَى " فيكون من الأضداد .

وقال ابن عطية : " العَفْوُ تَغطية الأثر ، وإذهاب الحال الأوّل من الذَّنْبِ أو غيره ، ولا يستعمل العَفْوُ بمعنى الصَّفح إلا في الذنب " . وهذا الذي قاله قريب من تَفْسِيْرِ الغُفْرَان ؛ لأن الغفر التغطية والسَّتر ، ومنه : المغفر ، ولكن قد فُرِّق بينهما بأن العفو يجوز أن يكون بعد العقوبة ، فيجتمع معها ، وأمّا الغُفْرَانُ فلا يكون مع عقوبة .

وقال الرَّاغب{[13]} : " العَفُو " : القصد لتناول الشَّيء ، يقال : عَفَاه واعْتَفَاهُ أي : قصده مُتَناولاً ما عنده ، وعَفَتِ الريحُ التُّرابَ قصدتها متناولةً آثارها ، وعَفَتِ الديار كأنها قصدت نحو البِلَى وعفا النَّبْت والشَّعْرُ قصد تناولَ الزِّيادة ، وعفوتُ عنك كأنه قصد إِزَالَةَ ذَنْبِهِ صارفاً عنه ، وأَعْفَيْتُ كذا ، أي : تركته يعفو ويكثر ، ومنه " أعْفُوا اللِّحَى " فجعل القصد قدراً مشتركاً في العَفْوِ ، وهذا ينفي كونه من الأَضْدَادِ ، وهو كلام حسن ؛ وقال الشاعر [ الطويل ]

489 . . . *** إِذَا رَدَّ عَافِي الْقِدْر مَنْ يَسْتَعِيرُهَا{[14]}

معناه : أن العَافِي هنا ما يبقى في القَدْرِ من المَرَقِ ونحوه ، فإذا أراد أحد أن يستعير القِدْرَ يُعَلِّلُ صاحبها بالعَافي الذي فيها ، فالعَافِي فاعل ، ومن يستعيرها مَفْعُول ، وهو من الإسناد المجازي ؛ لأن الرَّاد في الحقيقة صاحب القِدْرِ بسبب العافي .

فصل في تفسير المعتزلة للعفو في الآية

قالت المعتزلة : " المراد ثم عفونا عنكم بسبب إتيانكم بالتَّوْبَة ، وهي قتل بعضكم بَعْضاً " .

قال ابن الخطيب{[15]} : وهذا ضعيف من وجهين :

الأول : أن قبول التوبة وَاجبٌ عَقْلاً ، ولو كان المُرَاد ذلك لما جاز عدُّه في معرض الإنعام ، لأن أداء الواجب لا يُعَدّ من باب الإنعام ، والمقصود من هذه الآيات تَعْدِيْدُ نِعَمِ الله تعالى عليهم .

الثاني : أن العَفْوَ اسم لإسقاط العقاب المستحقّ ؛ وأمّا إسقاط ما يجب إسقاطه ، وذلك لا يُسمَّى عَفْواً ، ألا ترى أن الظالم لما لم يجز له تعذيب المظلوم ، فإذا ترك عذابه لم يكن الترك عفواً ، فكذلك هاهنا .

إذا ثبت هذا فنقول : لا شَكّ في حصول التوبة في هذه الصورة لقوله تعالى : { فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } وإذا كان كذلك دَلَّت الآية على أن قَبُولَ التوبة غير واجب عَقْلاً ، وإذا ثبت ذلك ثبت أيضاً أنه تعالى أسقط عُقُوبَةَ من يجوز عقابه عقلاً ، وشرعاً ، وذلك أيضاً خلاف قول المعتزلة ، وإذا ثبت أنه عفا عن كفّار قوم موسى ، فلأن يعفو عن فُسّاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم مع أنهم خير أمة أُخرجت للنَّاس كان أولى .

قوله : " لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ " .

" تَشْكُرُونَ " في محل رفع خبر " لعلّ " ، وقد تقدّم تفسير الشكر عند ذكر الحمد .

وقال الراغب{[16]} : هو تصور النعمة وإظهارها .

وقيل : هو مقلوب عن الكَشْر أي : الكَشْف ، وهو ضدّ الكفر ، فإنه تَغْطِيَةُ النعمة وقيل : أصله من " عَيْن شَكْرى " أي : ممتلئة ، فهو على هذا الامتلاء من ذكر المنعم عليه .

و " شَكَر " من الأفعال المتعدّية بنفسها تارةً ، وبحرف الجرِّ أُخْرَى ، وليس أحدهما أصلاً للآخَرِ على الصحيح ، فمن المتعدِّي بنفسه قول عَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ{[17]} : [ الطويل ]

490 هُمُ جَمَعُوا بُؤْسَى ونُعْمَى عَلَيْكُمُ *** فَهَلاَّ شَكَرْتَ الْقَوْمَ إِذْ لَمْ تُقَاتِلِ{[18]}

ومن المتعدِّي بحرف الجر قوله تعالى : { وَاشْكُرُواْ لِي } [ البقرة : 152 ] ، وسيأتي هنا تحقيقُهُ .

فصل في الرد على المعتزلة

قالت المعتزلة : إنه تعالى بَيَّن أنه عفا عنهم ، ولم يؤاخذهم لكي يشكروا ، وذلك يدلّ على أنه تعالى لم يرد منهم إلا الشكر .

والجواب : لو أراد الله تعالى منهم الشكر لأراد ذلك ، إنما شرط أن يحصل للشَّاكر داعية للشكر أولاً بهذا الشرط ، والأول باطل ؛ إذ لو أراد ذلك بهذا الشَّرط ، فإن كان هذا الشرط من العَمْدِ لزم افتقار الدَّاعية إلى داعية أخرى ، وإن كان من الله بحيث خلق الله الدَّاعي حصل الشكر لا محالة ، وحيث لم يخلق الدَّاعي استحال حُصُول الشكر ، وذلك ضد قول المعتزلة ، وإن أراد حصول الشُّكر منه من غير هذه الداعية ، فقد أراد منه المُحَال ؛ لأن الفِعْلَ بدون الدواعي مُحَال . فثبت أن الإشكال واردٌ عليهم .


[12]:سقط في ب.
[13]:ستأتي في "المؤمنون" 1 وينظر: شرح الطيبة 4/ 145.
[14]:قال سيبويه في الكتاب 3/265 وزعم من يوثق به: أنه سمع من العرب من يقول: "ثلاثة أربعه" طرح همزة أربعه على الهاء ففتحها، ولم يحولها تاء لأنه جعلها ساكتة والساكن لا يتغير في الإدراج، تقول: اضرب، ثم تقول: اضرب زيدا.
[15]:ينظر: الكتاب 4/ 166.
[16]:ينظر: الدر المصون 2/35.
[17]:ينظر: السبعة 200، والكشف 1/334، والحجة، 3/6 والبحر المحيط 2/389، والدر المصون 2/5.
[18]:قال سيبويه 3/25 "فإن قلت: ما بالي أقول: واحد اثنان، فأشم الواحد، ولا يكون ذلك في هذه الحروف فلأن الواحد اسم متمكن، وليس كالصوت، وليست هذه الحروف مما يدرج وليس أصلها الإدراج...".