الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{ثُمَّ عَفَوۡنَا عَنكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ} (52)

الأولى : قوله تعالى : " ثم عفونا عنكم " العفو عفو الله جل وعز عن خلقه ، وقد يكون بعد العقوبة وقبلها بخلاف الغفران ، فإنه لا يكون معه عقوبة البتة . وكل من استحق عقوبة فتركت له فقد عفي عنه ، فالعفو : محو الذنب أي محونا ذنوبكم وتجاوزنا عنكم مأخوذ من قولك : عفت الريح الأثر أي أذهبته وعفا الشيء كثر فهو من الأضداد ، ومنه قوله تعالى " حتى عفوا " . [ الأعراف 95 ]

الثانية : قوله تعالى : " من بعد ذلك " أي من بعد عبادتكم العجل وسمي العجل عجلا لاستعجالهم عبادته . والله أعلم . والعجل ولد البقرة والعجول مثله ، والجمع العجاجيل ، والأنثى عجلة عن أبي الجراح .

الثالثة : قوله تعالى : " لعلكم تشكرون " كي تشكروا عفو الله عنكم ، وقد تقدم معنى لعل ، {[756]} .

وأما الشكر فهو في اللغة الظهور من قول دابة شكور إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف وحقيقته الثناء على الإنسان بمعروف يوليكه . كما تقدم في الفاتحة{[757]} . قال الجوهري : الشكر الثناء على المحسن بما أولاكه من المعروف يقال : شكرته وشكرت له وباللام أفصح والشكران خلاف الكفران وتشكرت له مثل شكرت له . وروى الترمذي وأبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( لا يشكر الله من لا يشكر الناس ) قال الخطابي : هذا الكلام يتأول على معنيين أحدهما - أن من كان من طبعه كفران نعمة الناس وترك الشكر لمعروفهم كان من عادته كفران نعمة الله عز وجل وترك الشكر له . والوجه الآخر - أن الله سبحانه لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس إليه ويكفر معروفهم لاتصال أحد الأمرين بالآخر .

الرابعة : في عبارات العلماء في معنى الشكر ، فقال سهل بن عبد الله : الشكر : الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السر والعلانية . وقالت فرقة أخرى : الشكر هو : الاعتراف في تقصير الشكر للمنعم ؛ ولذلك قال تعالى " اعملوا آل داود شكرا{[758]} " [ سبأ : 13 ] فقال داود : كيف أشكرك يا رب والشكر نعمة منك قال : الآن قد عرفتني وشكرتني إذ قد عرفت أن الشكر مني نعمة قال : يا رب فأرني أخفى نعمك علي قال : يا داود تنفس فتنفس داود ، فقال الله تعالى من يحصي هذه النعمة الليلَ والنهارَ ، وقال موسى عليه السلام : كيف أشكرك وأصغر نعمة وضعتها بيدي من نعمك لا يجازى بها عملي كله ، فأوحى الله إليه يا موسى الآن شكرتني . وقال الجنيد : حقيقة الشكر العجز عن الشكر وعنه قال : كنت بين يدي السري السقطي ألعب وأنا ابن سبع سنين وببن يديه جماعة يتكلمون في الشكر فقال لي : يا غلام ما الشكر ؟ فقلت : ألا يعصى الله بنعمه ، فقال لي : أخشى أن يكون حظك من الله لسانك قال الجنيد : فلا أزال أبكي على هذه الكلمة التي قالها السري لي . وقال الشبلي : الشكر : التواضع والمحافظة على الحسنات ومخالفة الشهوات وبذل الطاعات ومراقبة جبار الأرض والسماوات . وقال ذو النون المصري أبو الفيض : الشكر لمن فوقك بالطاعة ولنظيرك بالمكافأة ، ولمن دونك بالإحسان والإفضال .


[756]:راجع ص 227 من هذا الجزء
[757]:راجع ص 133 من هذا الجزء
[758]:راجع ج 14 ص 276