وأما حالة المنهي ، فأمره الله أن لا يصغى إلى هذا الناهي ولا ينقاد لنهيه فقال : { كَلَّا لَا تُطِعْهُ } [ أي : ] فإنه لا يأمر إلا بما فيه خسارة الدارين ، { وَاسْجُدْ } لربك { وَاقْتَربَ } منه في السجود وغيره من أنواع الطاعات والقربات ، فإنها كلها تدني من رضاه ، وتقرب منه .
وهذا عام لكل ناه عن الخير ومنهي عنه ، وإن كانت نازلة في شأن أبي جهل حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة ، وعبث به{[1460]} وآذاه . تمت ولله الحمد .
وقوله - تعالى - : { كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ واسجد واقترب } ردع آخر لهذا الكافر عن الغرور والبطر والطغيان ، وإبطال لدعواه أنه سيدعو أهل نادية ، وتأكيد لعجزه عن منع الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصلاة .
أى : كلا ليس الأمر كما قال هذا المغرور من أن أهله وعشيرته سينصرونه ، وسيقفون إلى جانبه فى منعك أيها الرسول الكريم من الصلاة ، فإنهم وغيرهم أعجز من أن يفعلوا ذلك ، وعليك - أيها الرسول الكريم - أن تمضى فى طريقك ، وأن تواظب على أداء الصلاة فى المكان الذى تختاره ، ولا تطع هذا الشقي ، فإنه جاهل مغرور ، واسجد لربك ، وتقرب إليه - تعالى - بالعبادة والطاعة ، وداوم على ذلك .
فالمقصود بهذه الآية الكريمة ، حض النبى صلى الله عليه على المداومة على الصلاة فى الكعبة ، وعدم المبالاة بنهى الناهين عن ذلك ، فإنهم أحقر من أن يفعلوا شيئا . .
ابن العربي : قال ابن نافع ، ومطرف : كان مالك يسجد في خاصة نفسه بخاتمة هذه السورة . ...
عن مجاهد قال : أقرب ما يكون العبد من الله عز وجل إذا كان ساجدا ، ألم تر إلى قوله عز ذكره : { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبِ } يعني : افعل واقرب . ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{ كَلاّ } يقول تعالى ذكره : ليس الأمر كما يقول أبو جهل ، إذ ينهى محمدا عن عبادة ربه والصلاة له { لا تُطِعْهُ } يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لا تُطع أبا جهل فيما أمرك به من ترك الصلاة لربك ، وَاسْجُدْ لِرَبّكَ ، وَاقْتَرِبْ منه ، بالتحبب إليه بطاعته ، فإن أبا جهل لن يقدر على ضرّك ، ونحن نمنعك منه . ...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
( كلا ) أي: ارتدع وانزجر ( فلا تطعه ) أي لا تطع هذا الكافر ، فإنه ليس الأمر على ما يظن هذا الكافر وهو أبو جهل الذي نزلت الآيات فيه ( واسجد ) لله تعالى وأطعه ( واقترب ) من ثوابه بطاعته . وقيل : معناه تقرب إليه بطاعته دون الرياء والسمعة . ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ كَلاَّ } ردع لأبي جهل { لاَ تُطِعْهُ } أي اثبت على ما أنت عليه من عصيانه ، كقوله : { فَلاَ تُطِعِ المكذبين } [ القلم : 8 ] . { واسجد } ودم على سجودك ، يريد : الصلاة { واقترب } وتقرّب إلى ربك ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
( كلا . لا تطعه ، واسجد ، واقترب . ) كلا ! لا تطع هذا الطاغي الذي ينهى عن الصلاة والدعوة . واسجد لربك واقترب منه بالطاعة والعبادة . ودع هذا الطاغي . الناهي دعه للزبانية ! ...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
{ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب } . ربط بين السجود والاقتراب من الله... وهذا مما يدل لأول وهلة أن الصلاة أعظم قربة إلى اللَّه ، حيث وجه إليها الرسول صلى الله عليه وسلم من أول الأمر ، كما بين تعالى في قوله : { وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ } . ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{ كَلاَّ } لن ينالك بسوء ، ولن يستطيع أن يدفع عن نفسه أيّ لونٍ من ألوان العذاب . الاقتراب من الله والسجود له { لاَ تُطِعْهُ } في ما ينهاك عنه من الصلاة ، مهما هدّد وتوعّد ، { وَاسْجُدْ } لله وحده ، فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ؛ لأن السجود هو المظهر الحيّ للخضوع لله تعالى بكل مراتبه . { وَاقْتَرِب } لأن الاستغراق في معنى العبودية ، الذي يمثله السجود ، هو الذي يجعل العبد قريباً إلى الله وبكلّ كيانه الروحي والجسدي ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وفي آخر آية من السّورة وهي آية السجدة يقول سبحانه : ( كلاّ ) أي ليس الأمر كما يتصور بأنّه قادر على أن يمنع سجودك : ( لا تطعه واسجد واقترب ) فأبو جهل أقل من أن يستطيع منع سجودك أو الوقوف بوجه دينك ، فتوكل على اللّه واعبده واسجد له ، وبذلك تقترب منه سبحانه على هذا المسير أكثر فأكثر . ويستفاد ضمنياً من هذه الآية أن «السجود » عامل اقتراب من اللّه ...
نظرات في الهدى المنهاجي في القرآن الكريم من خلال السور حسب ترتيب النزول 2010 هـ :
المفروض أن يكون كل قارئ لهذه النظرات قد رجع إلى مختلف التفاسير ليتعرف على معاني السورة حسب الطاقة؛ لأنني ههنا لن أتحدث عن المعاني، وإنما سأتحدث عن شيء آخر زائد عن المعاني، هو هذا الهدى المنهاجي الذي يمكن أن يستفاد من هذه السور في زمننا هذا في ظرفنا هذا.
وسورة العلق من أول ما نعمل -بحول الله وقوته- على تلمُّس الهدى المنهاجي فيها. ومن الأمور التي يمكن استفادتها من هذه السورة ما يلي:
الهدى الأول: أول الطريق القراءة باسم ربنا:
فبلا قراءة لا علم، وبغير اسم ربنا لا قدرة ولا انتفاع، أي الإبصار بعين الوحي وميزانه:
- أن التفوق في العلم بلغة اليوم هو الخيار الاستراتيجي والطريق المعبد للإمامة الحضارية.
- أن الإصلاح يبدأ من الأفكار قبل الأعمال، ومن الباطن قبل الظاهر، ومن الأصل قبل الفرع، ومن الفرد قبل الجماعة.
- أن التبرؤ من الحول والتوكل على الله الذي ليس إلا منه الحول وهو رأس الحول.
ويستفاد هذا الأمر من مطلع السورة الذي هو أول ما نزل من كتاب الله عز وجل.
فأول الطريق ليكون الإنسان مسلما، مؤمنا، صالحا، مصلحا، هو القراءة باسم الله، باسم ربنا، أي الإبْصَار بعَيْن الوَحْي وميزَانِه. فبلا قراءة لا عِلم، وبغير اسم ربِّنا لا قُدْرة ولا انتفاعَ.
ومعنى هذا الكلام: أني إذا أردتُ أنا الفرد أن أكون مؤمنا حقا من أين أبدأ؟ هل أبدأ بأن ألبس جلبابا أو أضع حزاماً أو عمامة أو أي شيْء آخر. لا.
البدءُ أولا يكون بالعلم، بالعلم الشرعي، لأنه لا يحل لامرئ مسلم أن يُقْدم على أمر حتى يعْلَم حُكْم الله فيه.
ولكن الآن ونحن في هذه النقطة بالذات نقطة من أين بدأ الله عز وجل بعبده محمد –صلى الله عليه وسلم- الذي أراد منه أي يكون معَلِّم البشرية كلها، لقد أراد منه ألاَّ يُعلِّم حتى يتعلم هو، وحتى يعْمَل بما يعْلَم، أي حتى يتحقَّق مما يعلم، ويتخلَّق بما يعلم.
فمن أين يكون البدء إذن؟ البدْءُ من العلم، هذا أوّل الطريق للفرد رجلا كان أو امرأة يجب أن يبدأ التحوُّل فيه بالعلم، أي يجب أن يبدأ بتحويل نفسه انطلاقا من العلم، والعلم المطلوب علم الوحي. هذه هي النقطة التي منها البدء. ينْبغي ألاًّ نتَّجِه أيَّ وِجهة أخرى، ينْبَغي أن لا نعكس الأولويات، أوْ أن نأتي إلى بعض التفاصيل أو إلى بعض الأعمال فنُقدِّمها على العلم الصحيح.
والعلم الخالص الصافي: هو عِلْم الوحْي الذي يجب أن نرتَوِيَ منه إلى أقصى ما نستطيع، إنه هو الأول قبل كُلّ شيء.
هذه نقطة مركزية أساسية في السَّيْر، اختارها الله تعالى لرسوله –صلى الله عليه وسلم-، واختارها الرسول –صلى الله عليه وسلم- لأصحابه ذكوراً وإناثاً، واختارها الصحابة رضوان الله تعالى عليهم لأبنائهم وأحفادهم، واختارتها الأمة على مرِّ التاريخ، فلا ينبغي أن يطرأ على هذه الحقيقة أي اختلال، سواء بالنسبة للسيّر الفرْدِيّ، أو السّيْر الجماعي، لأن الخطاب القرآني وإن كان متجهاً إلى فردٍ واحدٍ هو محمد –صلى الله عليه وسلم-، فالمقصود به أيضا الجماعة، والأمة والدّولة.
ومن مُسْتلزمات هذه النقطة الأولى التي هي أولى الأولويات في حياة الفرد والجماعة والأمة والدولة الإسلامية:
1- أن التفوق في العلم هو الخيار الاستراتيجي ليعود المسلمون إلى التاريخ، وتعود الأمة سائدة قائدة رائدة، أي عندما تريد أن تكون حيث وضعها الله تعالى في الموقع الطبيعي لها الذي هو الشهادة على الناس، وذلك إنّما يكونُ بالعلم. إن التفوق في العلم بلغة اليوم هو الخيار الإستراتيجي، والطريق المُعَبَّدُ للإمَامَة الحضارية.
ومعنى هذا أن أكبر حظ في مِيزانية الدولة ينبغي أن يتجه إلى العلم، وإلى تكْوين الأطر العلمية، فإن ذلك ينبغي أن يُقَدّم على ما سواه في الأمة الإسلامية، كما أن البحث العِلْميّ ينبغي أن تكون له الميزانية الضّخمة التي لا تُعَادِلها ميزانية أخرى، لأن العلم له الريادة، فالعلمُ هو الذي يشُقُّ الطريق في الصخر، والعلم هو الذي به يتم الابتكار، هو الذي به يتم تعبيد الطريق تجاه التفوق، تجاه الإمامة الحضارية، إذ لا يمكن لأمَّةٍ أن تنطلق تجاه المسار الصحيح الذي يؤهلها لأن تدرك ما سواها وتتَفَوَّق عليه، بدون علم. لهذا كان الانطلاق من العلم هو الخيار الإستراتيجي. هذا الخيار لن تندم الأمة إذا دفعت فيه أقصى ما تستطيع، لأنّه الشيء الذي ينْبني عليه ما سواه. وهو لا ينْبني على سواه.
2) من مستلزمات الانطلاق من العلم: أن الإصلاح يبتدئ من الفكر وليس من السلوك، السلوك تابعٌ لما في القَلْب، لما في العقل، سَمِّهِ ما شئت، المُهِم البدْءُ من الداخل الذي يسميه بعضُهم: التصوُّر، ويسميه بعضهم بالعقيدة أو ما شاء أن يُسَمِّيه، المُهم تلك الأمور التي تكون في الداخل، نوع الأفكار التي عندك في الداخل هي التي ينبغي أن يطْرأ عليها التّصْحيحُ أولا. لأن السلوك ينبني على ما هُنالك من فكر، فالفكْرُ الأعوجُ يُعْطي السُّلُوك الأعوجَ. والفكر الصحيحُ يعطي السلوك الصحيحَ، والتصَوُّر الصحيحُ ينتُجُ عنه السلوكُ الصحيح، ولذلك فالعملُ تابعٌ للعلم ولا عكس، ولذلك أقول: الباطنُ مقدَّمٌ على الظاهر، وهذا واضح في قول رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : "ألاَ وَإِنّ في الجَسَدِ مُضْغَة إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّه، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّه، ألاَ وَهِي القَلْب"( صحيح البخاري)؛ لأن {اقْرَأْ} لا تخاطبُ الأنْفَ، أو الأذْن، أو الرِّجل، ولكنها تخاطب القلب البشري الذي تُحْدِثُ فيه التحوّل، تخاطبُ باطن الإنسان، على حسب ما يقع في هذا الباطن من تحوُّلٍ من الفساد إلى الصلاح ومن المرض إلى الصحة، يكون التحوُّل بعْدُ في السلوك، وعلى حسب الرُّسوخ الذي يقع في هذه الحقائق الصحيحة يكون الثباتُ في الخارج عند الابتلاء.
3) ومن مستلزمات النقطة الأولى كذلك: البَدْءُ بالأصل قبل الفرع.
فالفردُ أصل، والجماعة فرع؛ لأن الجماعة مكوّنة من أفراد، والدولة مكونة من أفراد، والأمة مكونة من أفراد، وهكذا، وكذلك الفرد مكوّن من قلب وجوارح، فإذَنْ دائما الأصْل يقدَّم على الفرع؛ لأننا حين نصلح النقطة المركزية تلقائيا ينصلح ما سواها تبعاً لها، فإذن إصلاح الفرد هو الذي يتَّجِه له الأمر أولاً، ثم إصلاح الأُسر والجماعات يأتي تلقائيا، ثم الأسرة الصالحة والجماعة الصالحة تصبح أصلا لما يَتْلُو بعد من كُتَلٍ، وكُلُّ كُتْلَة تكون نواة لغيرها تُعتَبَرُ أصلا لغيرها وفرعاً عن أصلها، فدائما نِظامُ الأولويات يحْكُمه هذا المبدأ: "الأصْلُ قبل الفرع"، والأصْلُ الأول قبل الأصل الثاني، والأصل الثاني قبل الثالث، والثالث قبل الرابع، وهكذا وهكذا.. ولذلك كان الخطاب لرسول الله –صلى الله عليه وسلم- ليقرأ ويُقرئ غيره، ويعْلَم ويُعلِّم غيره.
4) ومن مستلزمات اقرأ باسم ربّك: التبرُّؤ من كل حَوْل وطوْل، هذه نقطة مهمة جدّاً؛ لأن الأمْر بالقراءة ليس أمراً تكْليفيا بما لا يُسْتطاعُ، فالرسول –صلى الله عليه وسلم- لم يكن متعلما القراءة حتى يقرأ شيئا مكتوبا، ولكنه أمرٌ تكوينيٌّ، أي "صِرْ قَارئا" بحول الله وقوته.
لأن المفعول حين يُحْذَف يكون التركيز على الفعل، وهنا حُذِف المقرُوء، فكان التركيز على فعل القراءة، أي "كُنْ قارئاً" باسْم ربّك، لتكون قراءتك باسم ربك -وأنت أُمِّي- من أعظم المعجزات الدّالة على نبوتك، ويكون إقراؤك لأمتك وتزكيتُها بالعلم الرباني لتصبح خير أمة من أعظم معجزات الوحي الصانع لأمة فريدة في التاريخ الحضاري.
وهذا التعبير ﴿ اَ۪قْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾ يراد منه أمران كبيران لابد أن نستصحبهما باستمرار، وهما: الاستئذان، واستمداد الحوْل، كأنك تقول: أستأذن الله تعالى وأتوكل عليه، أي لا أمارس فعل القراءة إلا بعد استئذان الله، ولا أمارسه بحولي، ولكن أمارسه بحول الله وقوته وقدرته.
وإذا كان من المعلوم تاريخياً أن الأحكام كانت تصْدُر باسم الكاهن، أو الساحر أو ما أشبه، فإن الواقع أيضا يعرف أحكاما تصدر باسم مجلس الثورة أو باسم رئيس الجمهورية أو ما أشبه. فالتعبير إذن هنا ﴿ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾ يُرادُ منه تصحيح هذا.
وفي مقامنا هذا، ما أمرت به الشريعة يجب أن نُقْدم عليه متوكلين على الله وحده كائنا ما كان، لا عَلى حوْلنا ولا على قوتنا؛ إذ لا حول لنا ولا قوة مهما أعددنا.
وهذه النقطة مركزية، خصوصاً وأن الله تعالى علّم المسلمين درساً من حُنَيْن في ظروف صعبة حيث قال لهم: ﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ اِذَ اَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَئْاٗ ﴾ [التوبة: 25] التفات القلب إلى غير الله يجْلُب الهزيمة. فقلبُ المؤمن لا ينبغي أن يتوكل إلا على الله، وألا يتجه إلا إلى جهة واحدة لا شريك لها هي جهة الله جل جلاله، وإنْ أعَدَّ ما أعَدَّ، وإن أعْدَدْنا ما أعْدَدْنا، أفراداً أو جماعة أو دولة أو أمة. قال الله تعالى ﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اَ۪سْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ﴾ [الأنفال: 61] ولكن مع الإعداد لابد من التوكل على الله؛ لأن التوكل هو القوة التي لا قوة فوقها.
هذا الرسول –صلى الله عليه وسلم- لم يكن قارئا ﴿ وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِۦ مِن كِتَٰبٖ وَلَا تَخُطُّهُۥ بِيَمِينِكَۖ إِذاٗ لَّارْتَابَ اَ۬لْمُبْطِلُونَۖ﴾ [العنكبوت: 48] ولكنه صار قارئا بحول الله وقوته.
الهدى الثاني: أول العلم العلم بربنا: خالقًا ومعلِّما لنا ثم العلم بالإنسان (من حيث هو إنسان) مخلوقا ومعلّما من ربنا:
- ذكر نعم الله تعالى طريقا للعلم به والخشية له، وعلى رأس تلك النعم نعمتا الخلق والتعليم.
- تركيز الاهتمام بالإنسان لتميزه موقعا وتكريما وتعليما.
العلمُ مهمُّ، ولكن أيّ عِلْم نطلب أولا؟ هل هو علمُ النحو؟ هل هو علم الفيزياء؟ هل هو علم الفلك؟ العلم الأول الذي به تتم الرؤيا ويستطيع البصر أن يبصر الحقيقة، هو العلم بالله جل جلاله؛ لأن المسألة لها علاقة بشيء مركزي إذا تحدد ذلك الشيء تحددت التوابع، وإذا لم تستقر الحقيقةُ الضخمة كُلُّ الأمور الأخرى لن تأْخُذ مواضعها. فأول نقطة يجب أن تستقر في موضعها استقراراً تاما هي العلم بالله؛ لأننا نجد أن الله جل جلاله في الآيات الخمس الأولى، لم يتحدثْ عن شيء، غير الله سبحانه، قال ﴿ اَ۪قْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾ بمجرد أن ذكر {رَبِّكَ } ليس بعدها إلا التعريف بهذا الرب، الذي خلق، خلق الإنسان من علق، هذا الرّبُّ الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم.
ماذا في هذه الآيات؟ ما هو هذا الشيء الذي له الصدارة في هذه القراءة أو في أمْر العلم، أو في أمْرِ التعلم، أو في أمْر التعليم، إنّه أساساً العلمُ بالله جل جلاله، وبالتحديد العلمُ بربنا الذي لم يَرِد في القرآن إلا مضافاً {ربنا} {ربكم} {رب العالمين} للإشعار دائماً بعظمة الإنعام الرباني على كل شيء في الوجود وبالأخص نعمتي الخلق والتعليم بالنسبة للإنسان. الأولى فيها وجوده، إذ لو لم يُخْلق لم يوجد، والثانية فيها سر قدراته كلها، كل ما يفعله عُلِّمَه من قبل المعلِّم الذي هو الله جل جلاله ﴿ اَ۬لَاكْرَمُ اُ۬لذِے عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ اَ۬لِانسَٰنَ مَا لَمْ يَعْلَمْۖ﴾ علّمه بالقلم وبغير القلم. ولكن الله تعالى أبْرَزَ أداةَ التعليم بالقلم؛ لأن القلم كان وما زال سبب ما اكتسبه الإنسان من علوم ومعارف على مرّ العصور.
ورصيدُ الهدى الذي تفضل الله به علينا من خلال العلم الذي تعلمناه من الوحي بالقلم وبغير القلم، هذا العلم كان هو سر نهوض الأمة سابقا، وكان هو سر سيادة آدم وبنيه على سواه قبل ذلك. ﴿ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُّفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ اُ۬لدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيَ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَۖ وَعَلَّمَ ءَادَمَ اَ۬لَاسْمَآءَ كُلَّهَا ﴾[البقرة: 29- 30] فهذا التعليم لآدم هو سر الخلافة ﴿إِنِّے جَاعِلٞ فِے اِ۬لَارْضِ خَلِيفَةٗۖ﴾ [البقرة: 29].
وإذا كان الله تعالى أبرز في أول آيات المطلع نعمة الخلق مطلقاً، فإن التركيز جاء بعد ذلك على الإنسان بصفته مخلوقاً ومعلّماً من ربِّه الأكرم.
فإذن هناك أمران كبيران لابد من العلم بهما كما ينبغي:
- الأمر الأول هو العلم بالله جل جلاله، وهو عنوان هذا المعنى، هو عنوان على جميع العلم الذي جاء من عند الله، فإذن العلم بالملائكة وبالكتب والقدر وبالرسل والآخرة، العلم عموما الذي جاء من عند الله عز وجل داخل في العنوان الأول.
- والأمر الثاني العلم بكل ما له صلة بالإنسان تسخيراً وتيسيراً وتدبيراً كله أيضا داخل في العنوان الثاني، الذي هو العلم بالإنسان، الذي سخر الله تعالى له الكون بأجمعه ﴿ أَلَمْ تَرَوَاْ اَنَّ اَ۬للَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِے اِ۬لسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِے اِ۬لَارْضِ ﴾ [لقمان: 19] فحين نعلم الإنسان، ووظيفة الإنسان، وموقع الإنسان، وما هو الإنسان، تلقائيا يستلزم أن نعرف ما سُخِّرَ لهذا الإنسان ونتجه إلى أن نعرف كيف سُخِّر ما سُخِّر، وكيف نُسَخِّر ما سُخِّر لهذا الإنسان.
فهذه هي النقطة الكبيرة والمهمة، فما أهميتها بالنسبة للفرد؟!، بالنسبة للجماعة، بالنسبة للأمة؟! أو للدولة بصفة عامة؟!، أهميتها بالنسبة للفرد والأمة والدولة هي أن يضع الكل في حسابه أولَويّات العلم، والعلم الشرعي لا سواه، العلم الشرعي هو رأس الأمر، ورأس العلم الشرعي هو الوحي، ورأس الوحي هو كتاب الله تعالى، هذه حقيقة ضخمة، كلية أساسية مهمة، يجب أن تكون في غاية الوضوح، ويجب أن ننطلق منها أفراداً، وننطلق منها أسراً وجماعات ودولاً، وننطلق منها أمة.
داخل هذا الإطار -إطار العلم الشرعي- يأتي العلم بالله جل جلاله كأي معلومة تقدم على سواها، لأنك حين تعرف الله يصغر عندك كل ما سواه، ولا يكبر إلا هو، وتنتهي أهمِّيةُ ما سواه؛ بل تبقي أهمية ما سواه بقدر ما أعْطَاه الله تعالى من أهمية، وإذّاك تبتدئ العبديّة، وإذّاك تبتدئ العبودية، وإذّاك تبتدئ العبادة على وجهها الصحيح، وإذّاك يبتدئ الوجود الإيماني الحقيقي للعبد.
قبل أن يتم هذا الاتصال المباشر بالله جل جلاله كما عرّف نفسه بنفسه في كتابه، لا إيمان ولا عبديّة ولا عبادة، أي لا عبادة -على الحقيقة- لله قَبْل معرفة الله تعالى على وجْه اليقين.
فإذن عندما نفكر في أن نعرِّف الناسَ بالله يجب أن نعرفهم به عن طريق كتابه، أي عن طريق الآيات المتعلقة بالتعريف بالله جل جلاله، كهذه الآيات نفسها وأشباهها في كتاب الله تعالى، وذلك هو التوحيد الحقيقي، التوحيد أو الإيمان يؤخذ من الآيات المتعلقة بالله جل جلاله، ومن الآيات المتعلقة باليوم الآخر، وبالملائكة، وبالرسل، وبالكتب، وبالقدَر. ما أشد خَيْبَتَنا وخسراننا حين تركنا القرآن جانبا أو نُزَيّن به الجدران، أو نطبعه ونوزعه مزينا منمقا، والمطلوب أن يسكن القلوب. هذا المطلوب هو الذي فعله الرسول –صلى الله عليه وسلم- كتَبَه في القلوب، ورسَّخه في الأعمال، هذا هو المنهاج.
1) تذكُّر النّعم للوصول للعلم بالله عِلْماً يورّث الخشية منه؛ لأن العلم الذي لا يورث الخشية ليس بعلم أبداً.
2) تركيز الاهتمام بالإنسان لتميزه موقعا وتكريماً وتعليما؛ لأن الإنسان هو الأساس في النجاح أو في الفشل في أي خطة، أو عمل، أو في أي شيء، وبإصلاح الإنسان اشتغل الرسل، لم يشتغلوا بتأليف الكتب عليهم السلام، وإنما اشتغلوا بتأليف الرجال، اهتموا بالبشر، بالتحويل اللازم لبني آدم من الفساد إلى الصلاح لوضع نماذج بشرية صالحة راضية مرضية عند الله تعالى في الواقع العملي، وبعد ذلك فليبلغ الشاهد الغائب.
هذا محل التحدي عمليا، فلذلك الإنسان هو المحور في أي عملية إصلاح، في أي عملية يراد القيام بها ينبغي التركيز أولا على العنصر البشري فيها. فيا خيبتنا ويا خسارتنا يوم نرى أن الثروة البشرية تصير عندنا أهون من الثروة الحيوانية، وأهون من الثروة المعدنية، ونرى البشر يتسكع في الطريق، ونراه يقتل الوقت ويقتله الوقت، وكائنات بشرية كثيرة لا تعرف ما تصنع ولا تعرف ماذا يصنع بها، مع أن تلك الكائنات نفسها إذا فُعِّلت التفعيل الصحيح وأُوقِد فيها السِّرُّ الذي يفعّل الإنسان، إذا خولطت كينونتها بالوحي فإنها تصير خلقا آخر، وتفعل في التاريخ العجب العجاب كما فعله العرب في الجزيرة العربية، فعلوه في التاريخ في شرق الكرة وجنوبها وغربها، مع أنهم كانوا أعرابا بداة لا يكادون يفقهون شيئا، ومع ذلك صنعوا ما صنعوا بالوحي لا بسواه، فانظر إلى أثر هذا العلم في النفوس، هذا العلم الذي يعتبر أكبر مظهر للتكريم بعد الخلق.
وهَلْ تميَّز آدمُ وبنوه إلا بهذه النقطة؟! نقطة التعليم الذي علمه الله عز وجل، إن أكبر ما تميَّز به آدم وبنوه، هو العلم والتعليم وما يندرج تحتهما من تفاصيل جزئية لا تخرج عن دائرة العلم والتعليم.
الهدى الثالث: الطغيان أبرز أدواء الإنسان، وفي توهم الشعور بالاستغناء سر الداء، وفي الاستيقان بالرجوع إلى ربنا سر الدواء:
- ملازمة الشعور بالافتقار إلى الله تعالى.
- ملازمة ذكر الموت والآخرة والرجوع إلى الله تعالى.
- ملازمة الوقوف عند حدود الله تعالى وعدم التعدي.
المقطع الموالي من قوله تعالى: ﴿ كَلَّآ إِنَّ اَ۬لِانسَٰنَ لَيَطْغ۪يٰٓ أَن رّ۪ء۪اهُ اُ۪سْتَغْن۪يٰٓۖ ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ إِنَّ إِلَيٰ رَبِّكَ اَ۬لرُّجْع۪يٰٓۖ ﴾ يستفاد منه حقيقة أن الطغيان أبْرز أدْواء الإنسان، وأن توهُّم الشعور بالاستغناء هو سِرُّ الدّاء، وأن الاستيقان بالرجوع إلى ربنا هو سِرُّ الدّواء.
هذه الآيات فيها ذكر المرض، وفيها سَبَبُ المرض، وفيها الدَّواء لهذا المرض. مع أنها آيات صغيرة ﴿ كَلَّآ إِنَّ اَ۬لِانسَٰنَ لَيَطْغ۪يٰٓ أَن رّ۪ء۪اهُ اُ۪سْتَغْن۪يٰٓۖ إِنَّ إِلَيٰ رَبِّكَ اَ۬لرُّجْع۪يٰٓۖ ﴾ ومع ذلك تضمنت هذه المعاني الكبيرة.
﴿ كَلَّآ إِنَّ اَ۬لِانسَٰنَ لَيَطْغ۪يٰٓ ﴾ الدّاءُ الخطير الذي إذا أصاب فرداً أو جماعة سبّبَ البلاء العظيم ومنه يأتي كل بلاءٍ، إنه الطغيان، فما هو الطغيان؟ الطغيان بصفة عامة هو تجاوُزُ الحَدِّ، والله تعالى ضبط الأمور، وحَدّ الحدود ثم قال: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اُ۬للَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَاۖ ﴾[البقرة: 228] وقال أيضاً: ﴿فَلَا تَقْرَبُوهَاۖ ﴾ [البقرة: 186]، هناك أمور منظمة: لكل جزء فينا حدُود، للسمع حدودٌ، للنظر حدود، للكلام حدودٌ، للفرج حدودٌ، للبطن حدودٌ، إلى غير ذلك.
الحدود حدّها الله في كل مجال، فمن تجاوز الحدّ فقد طغى، أيُّ تجاوُزٍ هو طغيان، الإنسان بصفة عامة هِوَايَتُه الطغيان، أيْ تجاوز الحدود بالنسبة للآخرين بالدرجة الأولى، وبالنسبة للنفس.
هذا الداء سبَبُه توهُّمُ الاستغناء ﴿ أَن رّ۪ء۪اهُ اُ۪سْتَغْن۪يٰٓۖ ﴾ هل الإنسان يستغني؟ مستحيل، لا يوجد المستغني، الكل مفتقر بشَكْل من الأشكال. من لديه شيء ليس لديه شيء آخر. ولكن الاستغناء هنا هو الشعور بالاستغناء عن الله فهُوَ مستقلٌّ بنفسه، فالذي ﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ اُ۬لَاعْل۪يٰ ﴾ [النازعات: 24] كان يحتاج إلى الله؟ ولكنه في نظر نفسه لا يحتاج إلى الله جل جلاله فـ﴿ أَن رّ۪ء۪اهُ اُ۪سْتَغْن۪يٰٓۖ ﴾ معناها تخيُّلُ الاستغناء، فالقرآن في غاية الدقة، بمعنى أن الاستغناء مستحيل. لا أحد يستطيع الاستغناء، إذن ما الذي يبقى؟ يبقى توهُّم الاستغناء، لأنّ الإنسان يرى نفسه أنه قد استغنى، هذا التوهُّم هو سرُّ البلاء، أما سر الشفاء فهو هذا الدواء ﴿ إِنَّ إِلَيٰ رَبِّكَ اَ۬لرُّجْع۪يٰٓۖ ﴾ إذا تذكّر بأَنّه عائد إلى ربّه حقيقة حصل له اليقين بالضُّعف الذي يمكن أن يُوقظ الضمير الميت.
هذا الكلام يساوي حقيقته الأخروية والدنيوية، حين تقول ﴿ إِنَّ إِلَيٰ رَبِّكَ اَ۬لرُّجْع۪يٰٓۖ ﴾ فإن إلى ربك الرجعى. ويجب أن تصير في القلب إلى الحد الذي يحدث لك الزلزال في كيانك، لأنه إذا حدث هذا اليقين قطعا يتم التوقف عن الطغيان.
هذا العلمُ اليقينيُّ هو الذي يحدث السلوك الحقيقي، لذلك قال الرسول –صلى الله عليه وسلم-: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مومن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مومن"(صحيح البخاري) معناه: لا يكون في تلك اللحظة لديه الحضور اليقيني للمعلومة أن الله سيأخذه وأن هذا سيؤدي به إلى عذاب عظيم لا يخطر له على بال، إذا كان الإنسان لا يطيق أن يضَع أصْبعه على شمعة موقدة فكيف يطيق جهنم، وكيف يطيق الخلود فيها؟ وكيف يطيق الاحتراق الدائم؟ ﴿ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ اُ۬لْعَذَابَۖ ﴾ [النساء: 55] المشكلة أننا نتعامل مع الألفاظ تعاملا عاديا بارداً لا ينتج ثماراً ولا انتهاء عن الطغيان.
فالطغيان هُو أبْرزُ أدواءِ الإنسان، لذلك وُضَعِ في البُؤْرة باعتباره سِرّ الأدْواء التي تُهْلِك النفس، وتهلك الأُسَرَ والمجتمعات، والمطلوب ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوِاْ ﴾[هود: 112] لكيْ لا يكون طُغْيان أبداً ﴿ وَلَا تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِےۖ وَمَنْ يَّحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِے فَقَدْ هَو۪يٰۖ ﴾[طه: 79] ولا تطغوا، هذه نقطة مركزية ﴿ كَلَّآ إِنَّ اَ۬لِانسَٰنَ لَيَطْغ۪يٰٓ ﴾ ومتى يحْدُث ذلك ﴿ أَن رّ۪ء۪اهُ اُ۪سْتَغْن۪يٰٓۖ ﴾ بشكل من الأشكال والاستغناء عن الله أخطر الاستغناءات، ورأس البلاءات وهو يحدث للكفار الخُلَّص الذين شُرِحت صُدُورهم للكفر ويتبع الكفار من استغنى بسبب جاهه، أو ماله، أو علمه، أو أي شيء يتوهَّم من خلاله أنه غير محتاج للآخرين، وليتخلص من ذلك حقا عليه أن يعلم علما يقينيا أنه محاسبٌ ومؤاخذ.
ومما تستلزم هذه الحقيقة ثلاثة أمور:
1) ملازمة الشعور بالافتقار إلى الله تعالى مع التبرؤ من كل حول وقوة (فلا حول ولا قوة إلا بالله): هذه كلمة جامعة مانعة في بابها مع مصاحبة الاستئذان الدائم من الله تعالى، فإذا لم يأذن لك بالكلام فلا تتكلم، وإذا لم يأذن لك بالنظر فلا تنظر، وإذا لم يأذن لك بالسير فلا تسر، وإذا لم يأذن لك بالتفكير فيما لا يرضاه فلا تفكر فيه.
فملازمة الشعور بالافتقار لله عز وجل هي عين الهدى المنهاجي العاصم من الطغيان.
2) ملازمة ذكر الموت والآخرة وذكر الرجوع إلى الله تعالى ﴿ إِنَّ إِلَيٰ رَبِّكَ اَ۬لرُّجْع۪يٰٓۖ ﴾ يجب أن نتذكر ذلك باستمرار لأنك في كل لحظة قد تنتقل، إذا أصْبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، هذا الشعور يجب أن يكون، ليكون المومن مستعداً للقاء ربه في أي وقت.
فملازمة الذكر للآخرة والرجوع لله تعالى ضروري أيضا في ضبط نبض القلب البشري الإيماني، كالأمر الأول الذي هو الشعور بالافتقار.
3) ومن مستلزمات ذكر الرجوع لله الوقوفُ عند حدود الله تعالى وعدم التعدي، هذه نقطة في غاية الأهمية، فلكل شي ء حدٌّ يجب عدَم تخطِّيه وتجاوزه.
الهدى الرابع: الله تعالى يتولى الدفاع بنفسه عن عبده إذا استجمع ثلاثة شروط: إذا صلى، وكان على الهدى، وأمر بالتقوى:
أي إذا كان موصولا به في قلبه، سائرا على هداه في حياته، داعيا غيره إلى تقوى ربه.
﴿ أَرَٰٓيْتَ اَ۬لذِے يَنْه۪يٰ عَبْداً اِذَا صَلّ۪يٰٓۖ أَرَٰٓيْتَ إِن كَانَ عَلَي اَ۬لْهُد۪يٰٓ أَوَ اَمَرَ بِالتَّقْو۪يٰٓ أَرَٰٓيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلّ۪يٰٓ أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اَ۬للَّهَ يَر۪يٰۖ ﴾ الله تعالى يتولى الدفاع بنفسه عن عبده إذا استوفى ثلاثة شروط:
1) إذا صلَّى صلاة حقيقيّة نطمح إليها، صلاة فيها ارتباط بالله تعالى، يناجي فيها ربه، يغيبُ عن الكون من حوله، يقع له الاتصال المباشر كأنه يتكلم مع الله محققا قول الله تعالى ﴿ وَأَقِمِ اِ۬لصَّلَوٰةَ لِذِكْرِيَۖ ﴾ [طه: 13]. فإذا كان أولُ العلم العِلْم بالله تعالى، فإن الصلاة أولُ تطبيق لهذا العلم، عِلم الخشية من الله، علم التضرع لله، علم الاعتماد على الله تعالى وحده، إنه العلم الذي به تحول العرب، وبه حولوا العالم، به تعلموا كيف يركعون ويسجدون لله وحده، ولا يلتفتون إلى غيره أبداً، به حَوَّلُوا التاريخ، وحوَّلُوا الناس من الخضوع لغير الله إلى الخضوع لله تعالى وحده.
إن علم الخشوع والاستكانة لله تعالى في الصلاة أشرفُ العلوم على الإطلاق، ولذلك كانت عمود الدّين، فإذا سقط العمود سقطت الخيمة، وإذا انهار العمود انهار البناء، فمن الصلاة بدأ المسلمون الأُولُ تعْبيد الطريق للتمكين، ومنها ينبغي أن يَبْدأ الطريق من جديد، ولهذا نحن نحتاج إلى أن نُصَلِّي من جديد. نعم نحتاج إلى أن نصلي لأننا لم نُصَلِّ، فنحن مثل ذلك الصحابي الذي قال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "ارْجِعْ فَصَلِّ فإِنَّكَ لمْ تُصَلِّ"( صحيح البخاري)، ولأهمية الصلاة نرى في السورة أن الله تعالى جعلها الصفة الحقيقيّة للعبديّة الحقيقيّة المتمثلة في هيأة الصلاة الخاشعة ﴿ أَرَٰٓيْتَ اَ۬لذِے يَنْه۪يٰ عَبْداً اِذَا صَلّ۪يٰٓۖ ﴾.
2) الشرط الثاني أن يكون مستقيما على أمر الله تعالى في كل شؤون الحياة ﴿ أَرَٰٓيْتَ إِن كَانَ عَلَي اَ۬لْهُد۪يٰٓ ﴾.
3) الشرط الثالث أن يكون داعياً غيره إلى الصلاح: لَيْسَ مُصلحاً لنفسه فقط، وليس مُحوِّلا لنفسه فقط، ولكنه عبد أصلحَ نفسه ودعا غيره إلى الصلاح، فهو صالح مصلح، ومُهتدٍ وهادٍ، ومُصَلٍّ وآمر غيره بالصلاة ﴿ أَوَ اَمَرَ بِالتَّقْو۪يٰٓ ﴾، حين يكون العبد مصليا مستقيما على الهدى داعيا غيره إلى الهدى والصلاح يتولاه الله تعالى ويرعاه ويحميه ويدافع عنه سبحانه بنفسه.
الهدى الخامس: دفاع الله تعالى عن عبده يكون بأمور: الهدى الذي يليه نأخذه من هذه الآيات ﴿ أَرَٰٓيْتَ إِن كَانَ عَلَي اَ۬لْهُد۪يٰٓ أَوَ اَمَرَ بِالتَّقْو۪يٰٓ أَرَٰٓيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلّ۪يٰٓ أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اَ۬للَّهَ يَر۪يٰۖ كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاَۢ بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٖ كَٰذِبَةٍ خَاطِئَةٖۖ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُۥ سَنَدْعُ اُ۬لزَّبَانِيَةَۖ ﴾، وذلك يكون بـ :
1- فضْح لطُغْيان الطاغي، بدون ذكر اسمه؛ لأن القرآن صاغه الله تعالى بصورة نموذجية لا يحدها زمان ولا مكان، حيث هَجَم هذا الطاغي على عبد صالح بدون مبرّرٍ أو ذنب اقترفه العبد الصالح.
2- بيان اتصاف عبده بكل ما يقتضي الإحسان إليه بدل الإساءة إليه.
3 - تخويف الطاغي عليه برؤية الله تعالى لا محالة:
في الآيات تعجب من شناعة فعل الطاغية الذي هجم على العبد الصالح حين تلبُّسه بفعل الصلاة، الذي هو أشرف فعل، وأزكى فعل، فبدل الإحسان إليه وإكرامه يُسيء الطاغية إليه.
إنه دفاع يورث الرعب والزلزلة في كيان كل طاغية كافر، ويورث الاطمئنان في نفس كل عبد صالح. هذه مرحلة.
المرحلة الثانية: أن هذا الطاغية إن تمادى ولم يتُب ولم يرتدع تأتي مرحلة أخرى فيها ثلاث مراحل:
1) التهديد بالأخذ المباشر ﴿ كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاَۢ بِالنَّاصِيَةِ ﴾ والسفع في اللغة العربية هو الضرب بالنار حتى يُحْدِث سواداً يكون من النار أو من حِدّة حرارة الشمس، ﴿ لَنَسْفَعاَۢ بِالنَّاصِيَةِ ﴾؛ لأن تلك الناصية هي مَكْمَنُ التكبُّر في الطاغية، وهي في الأصل ينبغي أن تكون مكمَن الخضوع والسجود والطاعة.
2) ثم بعد ذلك الهُجُوم على الطاغية بالقول المباشر ﴿ نَاصِيَةٖ كَٰذِبَةٍ خَاطِئَةٖۖ ﴾ هذا سبٌّ وقَذْفٌ وهجوم مباشر.
3) وأخيرا التحدي ﴿ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُۥ ﴾ فليدع جماعته وأتباعه، فإذا فعل فإن الله سيأخذه أخذاً مباشراً، والأخذ المباشر سيكون على أشكال متعددة لا يعلمها إلا الله تعالى، ولكن المذكور في هذه الآيات شكلان كبيران هما :
أ- السفع بالناصية، وسفعها تلويحُها بالنار، وإحراقها بالنار، وتسويدها بالنار، مقابل عُلوِّها وتكبرها عن الخضوع لله، ومقابل تهديدها للناصية العابدة الساجدة ناصية العبد الصالح، ومقابل توهّمها الاستغناء عن الله بشيء قليل من المال، والصحة، والأولاد، والأتباع.
فالناصية التي يجتمع فيها كل تلك الاستغناءات المتوهَّمة، هي ناصية كاذبة خاطئة.
ب- دعوة الزبانية خزنة جهنم للإسراع بالطاغية إلى مصيره ومستقره، وبيس المصير والمستقر.
وإذا ائْتَسَيْنا بفعل الله تعالى يجب أن يتدخل الإعلام لصالح أهل الإيمان، فيُظهر أن ما هُمْ عليه هو خير ما يكون عليه بشر، وأن ما يُفعل بهم هو أسوأ ما يمكن أن يُفْعل ببشر مستقيم على الهُدَى.
ثم يقع الوعظ والتذكير بالله تعالى، ثم التخويف من عذابه.
الهدى السادس: واجب عبد الله تجاه أي طاغية ينهاه عن فعل ما أمر به الله عز وجل هو:
وبعد ذلك يأتي الهدى النهائي الموجّه إلى العَبْد الصالح. أي ماذا ينبغي أن يفعل عَبْدُ الله إذا وُوجه بكل هذه المشاكل ووُوجه بهذا الطغيان، ووقع الهجوم عليه، وبدأ يُمنع من الصلاة، ويُمنع من السير على هدى الله، ويُمنع من أن يكون على التقوى، وآمِراً بالتقوى؟...
واجب عبد الله أمام هذه الحالات، شيء واحد هو الفرار إلى الله تعالى بكثرة الطاعات، وكثرة الصلوات والتضرعات، وكثرة الصبر والثبات، والعصيان لأوامر الطغاة ﴿ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبِۖ﴾.
أولا: تعلُّم الحق كما هو خالصاً من عند الله جل جلاله:
يعني هذه السورة تقول: أول ما ينبغي فعلُه تعلُّم الحق، يجب تعلُّمُ العلم الذي هو الحقُّ كما جاء من عند الله خالصا مصفَّى.
ثانيا: العملُ بالحق والثباتُ عليه كما أمر الله جل جلاله اتصالاً به وسيراً على هداه، وأمراً بتقواه:
ومتى وجد عبدٌ يصلي لربّه على هدى ربّه، آمراً بتقوى ربه، ولا يبالي بسوى ربّه، فإن ربه قريب مجيب، فإذَنْ النقطة الثانية بعد تعلُّم الحق، الذي هو واضح في المطلع يأتي العملُ بالحق الذي هو واضح في الوسَطِ، فالثباتُ عليه كما أمر الله جل جلاله اتصالاً به، وسَيْرا على هداه، وأمراً بتقواه.
ثالثا: الصبر على أذى الطغيان دون طاعة له ولا ردٍّ مادي عليه، إلا رَدُّ البيانِ لحق المحِق وخطر مصير المبطل:
هذا الذي نجده في هذه المرحلة، فحين يكون ظرفٌ كهذا الظرف، يكون وصفٌ كهذا الوصف، وتكون وصفة كهذه الوصْفة، وهذا هو المقصود بالهدى المنهاجي، أن نعُود إلى كتاب ربنا لنَسْتَخْلِص منْه ما ينبغي فعْلُهُ.
فالصبر على أذى الطغيان هو السبيل، وهذه نقطة أساسية.
في كتاب "كيف ندعو الناس" نقطة انقدحت في ذهن مؤلفه الأستاذ محمد قطب هي الواردة في سورة الأنعام ﴿ولِتَسْتبِين سبيلَ المُجْرمِين﴾ وفي قراءة حفص ﴿ولتستبين سبيلُ المجرمين﴾ أي تتضح سبيل المجرمين. متى تتضح؟ لا تتضح في البداية، تتضح عندما يطبقها عبد أو عباد تطبيقا تاما قويا جدا لا يصرفه ولا يصرفهم عنها صارف، ومع أنهم يتعرضون لبلاء عظيم، مع ذلك لا يتزلزلون ولا يتزحزحون نهائيا، ويتبين أيضا بالمقابل الصورة المظلمة للطغاة، يتضح طغيانهم للجميع فلا يبقى الالتباس، فيتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، يتضح الحق من الباطل، يتضح الأمر كل الاتضاح، لا يمكن أن يتم ذلك إلا بعد مرحلة من الصبر على البلاء، هناك أمران يسيران جنبا إلى جنب: العمل بالحق، والثبات على الحق، ومع العمل بالحق والثبات عليه يأتي البلاء ﴿ أَلَٓمِّٓۖ اَحَسِبَ اَ۬لنَّاسُ أَنْ يُّتْرَكُوٓاْ أَنْ يَّقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَۖ﴾ [العنكبوت: 1] لابد من الفتْن بأشكال مختلفة، فهذا الفَتْن ما الموقف منه: الصبرُ على الأذى، ﴿ وَاصْبِرْ حَتَّيٰ يَحْكُمَ اَ۬للَّهُ﴾ [يونس: 109] "صَبراً آل يَاسِر، فإنّ موْعِدَكم الجنّة"(رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين).
الرد ممنوع، لأن الإنسان إذا لم يرُد:
أما عندما يرد: كل ذلك ينقص، وأحيانا يَلْتَبس الأمْر تماما ويختلط، ولا يعْرف الناس الحقّ من الباطل.
فلذلك الله عز وجل في البداية اختار لرُسله ولأتباع رُسله أن يعرفوا الحَقَّ، ويعملوا بالحق، ويثبتوا على الحق، ويصبروا، حتى يأتي الفرج، وبالله التوفيق.