التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{كَلَّا لَا تُطِعۡهُ وَٱسۡجُدۡۤ وَٱقۡتَرِب۩} (19)

اسجد : أمر بالسجود لله . والسجود هو وضع الجبهة على الأرض في معرض عبادة الله وتعظيمه والخضوع له .

اقترب : تقرب إلى الله بالسجود .

6

تعليق على سنّة سجود التلاوة

في مناسبة الآية الأخيرة من السورة

هذا ، وهناك أحاديث عديدة تقرر سنة نبوية بالسجود عند تلاوة عدد من الآيات فيها أمر بالسجود لله ، أو خبر باستكبار الكفار عنه . من جملة ذلك : سنة السجود عند تلاوة آخر سورة العلق ؛ حيث روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة حديثا جاء فيه : " سجدنا مع رسول الله في { إذا السماء انشقت } ( الانشقاق : 1 ) ، و{ اقرأ باسم ربك الذي خلق } ( العلق : 1 ) " .

ومن الأحاديث المروية في الموضوع عامة حديث رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر جاء فيه : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ السورة التي فيها السجدة فيسجد ونسجد معه ، حتى ما يجد أحدنا مكانا لموضع جبهته " . وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة جاء فيه : " إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول : يا ويله ، وفي رواية : يا ويلي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة ، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار " . وحديث رواه أبو داود والحاكم عن ابن عمر جاء فيه : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا القرآن ، فإذا مرَّ بالسجدة كبَّر وسجدَ وسجدنا معه " {[2461]} .

وفي المصحف الذي اعتمدنا عليه إشارة إلى أربع عشرة سجدة هي آيات الرعد ( 15 ) والنحل ( 49 ) والإسراء ( 107 ) ومريم ( 58 ) والحج ( 18 و77 ) والفرقان ( 60 ) والنمل ( 25 ) والسجدة ( 15 ) وص ( 24 ) وفصلت ( 37 ) والنجم ( 62 ) والانشقاق ( 21 ) والعلق ( 18 ) . وفي بعض هذه السجدات أحاديث دون بعض . ولقد روى أبو داود وابن ماجه عن عمرو بن العاص حديثا قال فيه : " إن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأني خمس عشرة سجدة : منها ثلاث في المفصل ، وفي سورة الحج سجدتان " {[2462]} . وروى الترمذي وأبو داود عن أبي الدرداء حديثاً جاء فيه : " سجدت مع رسول الله إحدى عشرة سجدة ، منها التي في النجم " {[2463]} . وروى أبو داود حديثا مرفوعا جاء فيه : " قرأ رسول الله وهو على المنبر ( ص ) ، فلما بلغ السجدة نزل فسجدَ وسجدَ الناس معه . فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تَشَزَّنَ الناس للسجود فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما هي توبة نبي ، ولكني رأيتكم تَشزَّنتُم للسجودِ ، فنزلَ فسجدَ وسجدُوا " {[2464]} . وهذا بالإضافة إلى حديث أبي هريرة الذي ذكر في سجدتي الانشقاق والعلق . وما بقية السجدات فهي على ما يبدو من تنبيهات المفسرين اجتهادية جرياً على قاعدة ذكرها الزمخشري في سياق آية سورة النمل [ 25 ] حيث قال : إن مواضع السجدة إما أمر بها ، أو مدح لمن أتى بها ، أو ذم لمن تركها . ثم قال : إن أبا حنيفة والشافعي رحمهما الله اتفقا على أن سجدات القرآن أربع عشرة ، وإنما اختلفا في سجدة ( ص ) وسجدتي ( النحل ) .

ولقد روى الخمسة عن زيد بن ثابت قال : قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم النجم فلم يسجدْ فيها " ، وروى البخاري عن ربيعة بن عبد الله قال : " قرأ عمر بن الخطاب على المنبر يوم الجمعة بسورة النحل فلما جاء السجدة نزل فسجد وسجد الناس ، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها فلما جاء السجدة قال : يا أيّها الناس إنما نمّر بالسجود فمن سجدَ فقد أصابَ ، ومن لم يسْجد فلا إثم عليه ، ولم يسجد عمرُ " وروى البخاري حديثا عن ابن عمر جاء فيه : " إن الله لم يفرضْ علينَا السجودَ إلا أن نشاء " .

ويلحظ أن السجدات جميعها في سور مكية ، وقد كان العهد المكي بنوع خاص عهد نضال وتشاد مريرين بين التوحيد والشرك ، والإيمان والكفر ، وبين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكفار العرب وفي مقدمتهم زعماء مكة . حيث يلمح من ذلك حكمة السنة النبوية التي فيها علامة الاستجابة السريعة من أهل الإيمان إلى السجود إلى الله عز وجل عند كل مناسبة ، ورد وتحد عمليان على الكفار بسبب استكبارهم وعنادهم .

/خ19

ختام السورة:

علنية الدعوة في بدئها

والمشهد الذي احتوته الآيات والأحاديث المروية في صدده يدل بقوة على أن الدعوة بدأت علنية خلافا لما روي{[1]} أو لما هو مستقر في الذهن . وأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ يمارس صلاته الجديدة جهرة ويدعو الناس إلى الله وتقواه . وفي المشاهد المماثلة التي ظلت تذكر في السور العديدة المبكرة في النزول ، مثل القلم والمزمل والمدثر والتكاثر والماعون والكافرون تأييد لذلك . وكل ما يمكن أن يقال إزاء ما ورد في الأحاديث التي تروي أقوال بعض أصحاب رسول الله مثل ما روي عن عمر في قصة إسلامه حيث سأل بعد إسلامه : " أنحن على حقّ أم باطل ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل على حقّ ، فقال عمر : ففيم التخفي إذن ؟ " . ومثل ما روي عن ابن مسعود أنه قال : " ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر . ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالكعبة ظاهرين آمنين حتى أسلم عمر " {[2]} ، إن النبي صلى الله عليه وسلم - حماية لأصحابه - كان يلزم الحذر والتحفظ في الصلاة والاجتماع بهم . غير أن دعوته للناس كانت وظلت جهرة . وهذا هو المعقول المتسق مع هدف الدعوة وإيمان النبي بالله ورسالته .

والمتبادر أن هذه الآيات قد نزلت بعد نزول الآيات الخمس الأولى بمدة ما ، وبعد نزول جملة من القرآن تتضمن أمرا بالدعوة ، وشيئا من مبادئها وأهدافها . وبعد أن سار النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته شوطاً ما ، حيث أخذ يتصل بالناس ، ويدعوهم ، ويبشرهم ، وينذرهم ، ويتلو عليهم ما أوحي إليه من آيات القرآن وسوره ، ويصلي جهرة ، فتصدى له الطاغية ، فنزلت منذرة منددة ، مذكرة قارعة .

وإلحاق هذه الآيات بالآيات الخمس الأولى حيث تكونت شخصية السورة يدل على أن سور القرآن كانت تؤلف أولاً فأولاً ، وعلى أن المشهد الذي احتوته لم يتأخر كثيراً . ولعله من أوائل مشاهد المناوأة للدعوة ، والتعرّض لصاحبها ، مما يدل عليه إلحاق آياته بأولى آيات القرآن نزولاً .

تعليق على الأحاديث الواردة في صدد

فضل قراءة السور القرآنية

هذا ، ولقد أورد الزمخشري في آخر تفسير هذه السورة حديثا معزواً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فيه : ( من قرأ سورة العلق أعطي من الأجر كأنما قرأ المفصل كله ) .

وننبه بهذه المناسبة على أن الزمخشري يورد في آخر كل سورة بدون استثناء حديثاً من هذا الباب{[3]} . وقد نبّه ابن حجر الذي اضطلع بتخريج أحاديث هذا المفسر على ضعف رواة هذه الأحاديث ، وانقطاعها عن رسول الله ، والمتبادر أن في هذا الحق والصواب . وقد جعلنا هذا نكتفي بإيراد حديث هذه السورة كمثال ، والتنبيه على ما نبه عليه ا بن حجر .

على أننا ننبه على أن هناك أحاديث وردت في كتب الأحاديث الصحيحة بالتنويه ببعض السور . ومن ذلك الأحاديث التي أوردناها في سورة الفاتحة . وسنورد ما كان من هذا الباب في سياق السور التي جاءت في صددها .


[1]:التاج جـ 5 ص 382.
[2]:كتب السيد رشيد رضا في تفسيره في صدد هذه النقطة وفي سياق آية مماثلة للآية هنا وهي الآية [128] من سورة الأنعام أكثر من خمس وعشرين صفحة استعرض فيها أقوال من يقول بالتأييد ومن يقول بخلافه وأورد حججهم النقلية والعقلية وانتهى إلى إناطة الأمر إلى حكمة الله ورحمته وعدله.
[3]:التاج جـ 5 ص 173 و 174.
[2461]:- "التاج" ج 1 ص 198 وما بعدها.
[2462]:- التاج ج 1 ص 198 وما بعدها.
[2463]:- المصدر نفسه.
[2464]:- المصدر السابق نفسه.