نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{كَلَّا لَا تُطِعۡهُ وَٱسۡجُدۡۤ وَٱقۡتَرِب۩} (19)

ولما كان الذي تقدم نهي الناهي للمصلي ، والسفع بناصيته إن لم ينته ، وأمره بدعاء ناديه ، وكان الحكم في الأول أنه لا يجيبه إلى ترك الصلاة ، وفي الثاني أن الناهي لا ينتهي عن عصيانه بالتهديد ، وأنه لا يفيده دعاء ناديه ، فالكل منفي ، حسن كل الحسن الإتيان بأداة الردع ، فقال : { كلا } أي لا يقدر على دعاء ناديه ، ولا ينتهي عن أذاه للمطيع بالتهديد فليرتدع عن كل من ذلك .

ولما كان كأنه قيل : فما أفعل ؟ قال معرفاً أن من علم أن طبع الزمان وأهله الفساد ، وجب عليه الإقبال على شأنه ، والإعراض عن سائر العباد { لا تطعه } أي في نهيه لك عن الطاعة بالصلاة أو غيرها .

ولما كان نهيه عن الصلاة التي هي عماد الدين ، وكانت الصلاة يعبر عنها بالسجود ؛ لأنه - مع أنه جزؤها - هو أشرفها ، وهو أيضاً يطلق على مطلق العبادة ، قال تعالى مشيراً إلى النصر له صلى الله عليه وسلم ولأتباعه على كل من يمنعهم عبادته : { واسجد } أي دم على صلاتك وخضوعك بنفسك ، وجدد ذلك في كل وقت . ولما كان السجود أقرب مقرب للعبد إلى الله قال : { واقترب * } أي اجتهد بسرك في بلوغ درجة القرب إلى ربك ، والتحبب إليه بكل عبادة ، لا سيما الصلاة ، فإنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، وقد شرح هذا المقام كما تقدم في الفاتحة قوله صلى الله عليه وسلم : " أعوذ بعفوك من عقوبتك " ، فإن هذه الجملة أفادت - كما قال الإمام الغزالي في كتاب الشكر - مشاهدة أفعال الله فقط ، فكأنه لم ير إلا الله وأفعاله ، فاستعاذ بفعله من فعله ، قال : ثم اقترب ، ففني في مشاهدة الأحوال ، وترقى إلى مصادر الأفعال ، وهي الصفات ، فقال : " أعوذ برضاك من سخطك " وهما صفتان ، ثم رأى ذلك نقصاناً في التوحيد فاقترب وترقى من مقام مشاهدة الصفات إلى مشاهدة الذات ، فقال " وأعوذ بك منك " فراراً منه إليه من غير رؤية فعل وصفة ، ولكنه رأى نفسه فاراً منه إليه ، ومستعيذاً ومثنياً ، ففني عن مشاهدة نفسه إذا رأى ذلك نقصاناً فاقترب فقال " أنت كما أثنيت على نفسك ، لا أحصي ثناء عليك " ، فقوله : " لا أحصي " خبر عن فناء نفسه ، وخروجه عن مشاهدتها ، وقوله : " أنت كما أثنيت " بيان أنه المثني والمثنى عليه ، وأن الكل منه بدأ وإليه يعود ، وأن كل شيء هالك إلا وجهه ، فكان أول مقامه نهاية مقامات الموحدين وهو أن لا يرى إلا الله وأفعاله ، فيستعيذ بفعل من فعل ، فانظر إلى ماذا انتهت نهايته إذا انتهى إلى الواحد الحق حتى ارتفع من نظره ومشاهدته سوى الذات الحق ، ولقد كان صلى الله عليه وسلم لا يرقى من مرتبة إلى أخرى إلا ويرى الأولى بعداً بالإضافة إلى الثانية ، فكان يستغفر الله من الأولى ، ويرى ذلك نقصاً في سلوكه ، وتقصيراً في مقامه ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : " إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة " ، فكان ذلك لترقيه إلى سبيعن مقاماً بعضها يعد نقصاً لنقص أوائلها ، وإن كان مجاوزاً أقصى غايات مقامات الخلق ، ولكن كان نقصاناً بالإضافة إلى أواخرها ، فكان استغفاره لذلك .

ولما قالت عائشة رضي الله عنها : قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فما هذا البكاء في السجود وما هذا الجهد الشديد ؟ قال : " أفلا أكون عبداً شكوراً " معناه : أفلا أكون طالباً للمزيد في المقامات ، فإن الشكر سبب الزيادة حيث قال تعالى{ ولئن شكرتم لأزيدنكم }[ إبراهيم : 7 ] انتهى . وهو على ما ترى من النفاسة ، فمن أكثر من الدعاء في سجوده فقمن أن يستجاب له ، والصلاة لا تكون إلا بالقراءة ، فإذا فعلت ذلك احتجبت عن الأغيار بحجاب منيع ، فازددت صفاء ، وصنت حالك عن الغير - كما يرشد إليه ما في صحف إبراهيم عليه الصلاة والسلام : " ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه ، عارفاً بزمانه ، مقبلاً على شأنه - والله أعلم " فقد رجع آخرها إلى الأول ، على أحسن وجه وأجمل وأكمل - والله الهادي .