الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{كَلَّا لَا تُطِعۡهُ وَٱسۡجُدۡۤ وَٱقۡتَرِب۩} (19)

ثم قال تعالى لنبيه عليه السلام : { كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ } أي : لا تَلْتَفِتْ إلى نَهْيِهِ وكلامِه و{ اسجد واقترب } لربك و{ اقترب } إليه بسجودِك ، وفي الحديث : " أَقْرَبُ ما يكونُ العبدُ من رَبّه إذا سَجَدَ ، فَأَكْثِرُوا مِنَ الدُّعَاءِ في السجودِ ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُم " . ورَوَى ابنُ وهب عَنْ جماعةٍ من أهل العِلم : أنّ قَوْلَه : { تطعه } : خطابٌ للنبي صلى الله عليه وسلم ، وَأَن قَوْلَه : و{ اقترب } : خطابٌ لأَبِي جَهْلٍ ، أي : إنْ كنت تَجْتَرئ حتى تَرَى كَيْفَ تَهْلَكُ . ( ت ) : والتأويلُ الأولُ أظهرُ ؛ يدلُ عليه قولُه صلى الله عليه وسلم : " أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربه وهو ساجِدٌ " ، وعنْ ربيعة بن كعب الأسلميِّ قال : " كنتُ أبيتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم فآتيهِ بِوضُوئِهِ وحَاجَتِه ، فقال لي : سَلْ ؛ فقلتُ : أسألكَ مُرَافَقَتَكَ في الجنةِ ، قالَ : أوَ غَيْرَ ذَلِكَ ؟ قُلْتُ : هُوَ ذَاكَ ، قَال : فأعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ " ، رواه الجماعة إلا البخاريَّ ، ولفظُ الترمذي : " كُنْتُ أَبِيتُ عِنْدَ بَابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَأُعْطِيهِ وَضُوءَهُ ، فَأَسْمَعُهُ الْهَوِيَّ مِنَ اللَّيْلِ يقول : سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَه ، وأَسْمَعُهُ الْهَوِيَّ مِنَ اللَّيْلِ يَقُولُ : الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ " ، قال الترمذيُّ : هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيحٌ ، وليس لربيعةَ في الكتب الستَّةِ سوى هذا الحديثِ ، انتهى من «السلاح » ، ورُوِيَ أن أبا جَهْلٍ جاءَ والنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي ، فَهمَّ بِأَنْ يَصِلَ إلَيْهِ ، وَيَمْنَعَهُ مِنَ الصَّلاَةِ ، ثُمَّ رجعَّ وَوَلَّى نَاكِصاً على عَقِبَيْهِ مُتَّقِياً بِيَدَيْهِ ، فَقِيلَ لَهُ : مَا هَذَا ؟ فَقَالَ : لَقَدْ عَرَضَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَنْدَقٌ مِنْ نَارٍ ، وَهَوْلٌ وَأَجْنِحَةٌ ، فيروى : أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " لَوْ دَنَا مِنِّي لأَخَذَتْهُ المَلاَئِكَةُ عِيَاناً " ( ت ) : ولما لم يَنْتَهِ عَدُوُّ اللَّهِ أَخَذَهُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ ، وَأَمْكَنَ مِنْهُ ، وذَكَرَ الوائليُّ الحَافِظُ في كتابِ «الإبَانَةِ » له مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بن مغول عن نافِع عن ابن عمر قال : " بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ بِجَنَبَاتِ بَدْرٍ إذْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنَ الأَرْضِ في عُنُقِهِ سِلْسِلَةٌ يُمْسِكُ طَرَفهَا أَسْوَدُ ، فَقال : يَا عَبْدَ اللَّهِ ، اسْقِنِي ، فَقَالَ ابن عُمَرَ : لاَ أَدْرِي أَعَرَفَ اسمي ، أَوْ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ : يَا عَبْدَ اللَّهِ ، فَقَالَ لي الأَسْوَدُ : لاَ تَسْقِهِ ؛ فَإنَّهُ كَافِرٌ ، ثُمَّ اجتذبه ، فَدَخَلَ الأرْضَ ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ : فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُه ، فقال : «أَوَ قَدْ رَأَيْتَهُ ؟ ذَلِكَ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ ، وهُوَ عَذَابُهُ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ " انتهى من «التَّذْكِرَة » للقرطبيِّ ، وقد ذَكَرْتُ هذهِ الحكايةَ عَن أبي عمر بن عبد البر بأتَّم مِنْ هَذا عِنْد قوله تعالى : { فَلَنُذِيقَنَّ الذين كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً } [ فصلت : 27 ] .