{ واسجد } صل لله تعالى ، واخضع لجلاله .
{ كلا لا تطعه واسجد واقترب( 19 ) } كأن المعنى- والله أعلم بالمراد - : الأمر ليس كما يزعم أبو جهل ، فلا تبال به ، ولا يحزنك إسرافه في ضلاله ؛ واثبت على عبادة ربك ، والصلاة التي تغيظه ، ويشمئز منها من هم على منواله : { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة . . }{[11876]} ، واستكثر من السجود لمولاك الذي يسمعك ويراك ، واقترب من مزيد فضله ، وعظيم فيضه ؛ فإن وليك يعصمك ، { . . وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا }{[11877]} .
روى الإمام مسلم في صحيحه- بسنده- عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء ) ، وفي الحديث الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أما الركوع فعظموا فيه الرب ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء ، فإنه قمن{[11878]} أن يستجاب لكم ) : قوله تعالى : { واسجد } هذا من السجود ؛ يحتمل أن يكون بمعنى السجود في الصلاة ، ويحتمل أن يكون سجود التلاوة في هذه السورة ؛ قال ابن العربي : والظاهر أنه سجود الصلاة لقوله تعالى : { أرأيت الذي ينهى . عبدا إذا صلى } إلى قوله : { كلا لا تطعه واسجد واقترب } لولا ما ثبت في الصحيح من رواية مسلم وغيره من الأئمة عن أبي هريرة أنه قال : سجدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في : { إذا السماء انشقت }{[11879]} وفي : { اقرأ باسم ربك الذي خلق }{[11880]} سجدتين ، فكان هذا نصا على أن المراد سجود التلاوة ؛ . . وكان مالك يسجد في خاصة نفسه بخاتمة هذه السورة من { اقرأ باسم ربك } ، وابن وهب يراها من العزائم-{[11881]} .
السور الثنتان والأربعون ( من المزمل إلى الناس ) هذه صرف ربنا فيها القول في أسمائه الحسنى ، وصفاته القدسية ، وأفعاله الحكيمة ، وقامت بآياتها الحجة والبرهان على الذين يجادلون في الله بغير سلطان ، كما أثنى الحق جل علاه على الملائكة المكرمين ، وشهد سبحانه- وكفى به شهيدا- بصدق المرسلين ؛ وبشر المتقين ، وأنذر الجاحدين ؛ ووصى بذكره وشكره وحسن عبادته ، والخلق الكريم وجميل الصحبة مع الخلطاء ، والبر والعدل حتى مع الأعداء ، والرشد والدعوة إليه ومجاهدة السفهاء .
فليهتدي السعداء ويزداد الذين آمنوا إيمانا تنزلت آيات مباركات تبين جلال الأسماء والصفات والأفعال الربانية : { رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا }{[1]} ، { الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد }{[2]} { إن بطش ربك لشديد . إنه هو يبدئ ويعيد . وهو الغفور الودود . ذو العرش المجيد . فعال لما يريد }{[3]} ، { سبح اسم ربك الأعلى . الذي خلق فسوى . والذي قدر فهدى . والذي أخرج المرعى . فجعله غثاء أحوى }{[4]} . { . . إنه يعلم الجهر وما يخفى }{[5]} { الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم }{[6]} ، { قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد }{[7]} ، { ملك الناس . إله الناس }{[8]} .
وبينت مع تقديس أسمائه- سبحانه- وصفاته وأفعاله آثار القدرة والحكمة والرحمة ، فأزهقت باطل أهل الجحود والزيغ والغفلة : { إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا . إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا }{[9]} { نحن خلقناهم وشددنا أسرهم وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا } {[10]} { وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما }{[11]} ؛ { ألم نخلقكم من ماء مهين . فجعلناه في قرار مكين . إلى قدر معلوم . فقدرنا فنعم القادرون }{[12]} . فمن غير الله أوجد الآدميين من العدم ؟ ! ومن جعل نسلهم من أخلاط تخرج من صلب لتستقر في رحم ؟ ! ومن يصور الأجنة في بطون الأمهات ويجعل لها السمع والبصر . ويسبغ عليها النعم ؟ ! إنه مولانا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى .
وفاطر الأرض والسموات- وإنشاؤهما أكبر- بث فيهما وأوجد ما نعلم وما لا نعلم ، وباركهما رزقا للعالمين ، ومتاعا إلى حين : { أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها . رفع سمكها فسواها . وأغطش ليلها وأخرج ضحاها . والأرض بعد ذلك دحاها . أخرج منها ماءها ومرعاها . والجبال أرساها . متاعا لكم ولأنعامكم }{[13]} ، { فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا . ثم شققنا الأرض شقا . فأنبتنا فيها حبا . وعنبا وقضبا . وزيتونا ونخلا . وحدائق غلبا . وفاكهة وأبا . متاعا لكم ولأنعامكم }{[14]} .
وأقسام القرآن ، لعل من المراد بها- والله أعلم- : التذكير بجلال من أتقن هذه الأشياء صنعا ، فالظلمات والنور ، والشمس والقمر ، والليل والنهار كلها من صنع الفاعل المختار ، الواحد القهار : { كلا والقمر . والليل إذ أدبر . والصبح إذا أسفر }{[15]} ، { فلا أقسم بالخنس . الجوار الكنس . والليل إذا عسعس . والصبح إذا تنفس }{[16]} ، { فلا أقسم بالشفق . والليل وما وسق . والقمر إذا اتسق }{[17]} ، { والسماء ذات البروج }{[18]} ، { والسماء والطارق . وما أدراك ما الطارق . النجم الثاقب }{[19]} ، { والفجر . وليال عشر . والشفع والوتر . والليل إذا يسر }{[20]} { والشمس وضحاها . والقمر إذا تلاها . والنهار إذا جلاها . والليل إذا يغشاها . والسماء وما بناها . والأرض وما طحاها }{[21]} ، { والليل إذا يغشى . والنهار إذا تجلى }{[22]} ، { والضحى . والليل إذا سجى }{[23]} ، { والعصر }{[24]} ؛ وكذا القسم بالأماكن : { لا أقسم بهذا البلد }{[25]} ، { والتين والزيتون . وطور سينين . وهذا البد الأمين }{[26]} . وقسم القرآن بالملأ الكرام عليهم السلام وما عهد إليهم به الحكيم العلام يدلنا على اقتدار وسلطان مولانا ذي الجلال والإكرام : { والمرسلات عرفا . فالعاصفات عصفا . والناشرات نشرا . فالفارقات فرقا . فالملقيات ذكرا }{[27]} ، { والنازعات غرقا . والناشطات نشطا . والسابحات سبحا . فالسابقات سبقا . فالمدبرات أمرا }{[28]} .
وعن اليقين بالموت والإحياء ، والحساب والقضاء ، والمصير والجزاء ، بشرت الآيات وذكرت ، وحذرت وأنذرت ، وأقامت الحجة البالغة على المنكرين والغافلين : { فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا . السماء منفطر به كان وعده مفعولا . إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا }{[29]} ، { إن لدينا أنكالا وجحيما . وطعاما ذا غصة وعذابا أليما . يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا }{[30]} . { . . وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم }{[31]} ، { فإذا نقر في الناقور . فذلك يومئذ يوم عسير . على الكافرين غير يسير }{[32]} { وما أدراك ما سقر . لا تبقي ولا تذر . لواحة للبشر }{[33]} { إنها لإحدى الكبر . نذيرا للبشر . لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر . كل نفس بما كسبت رهينة . إلا أصحاب اليمين . في جنات يتساءلون . عن المجرمين }{[34]} ، { أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه . بل قادرين على أن نسوي بنانه . بل يريد الإنسان ليفجر أمامه . يسأل أيان يوم القيامة . فإذا برق البصر . وخسف القمر . وجمع الشمس والقمر . يقول الإنسان يومئذ أين المفر . كلا لا وزر . إلى ربك يومئذ المستقر . ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر . بل الإنسان على نفسه بصيرة . ولو ألقى معاذيره }{[35]} ، { كلا بل تحبون العاجلة . وتذرون الآخرة . وجوه يومئذ ناضرة . إلى ربها ناظرة . ووجوه يومئذ باسرة . تظن أن يفعل بها فاقرة . كلا إذا بلغت التراقي . وقيل من راق . وظن أنه الفراق . والتفت الساق بالساق . إلى ربك يومئذ المساق }{[36]} { أيحسب الإنسان أن يترك سدى ، ألم يك نطفة من مني يمنى . ثم كان علقة فخلق فسوى . فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى . أليس ذلك بقادر على أن يحي الموتى }{[37]} ، { إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا . إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا . عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا }{[38]} ، { متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا . ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا . ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا . قوارير من فضة قدروها تقديرا . ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا . عينا فيها تسمى سلسبيلا . ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا . وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا . عاليهم ثياب سندس خضرا واستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا . إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا }{[39]} ، { يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما }{[40]} ، { إن ما توعدون لواقع . فإذا النجوم طمست . وإذا السماء فرجت . وإذا الجبال نسفت . وإذا الرسل أقتت . لأي يوم أجلت . ليوم الفصل . وما أدراك ما يوم الفصل . ويل يومئذ للمكذبين }{[41]} ، { انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون . انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب . لا ظليل ولا يغني من اللهب . إنها ترمي بشرر كالقصر . كأنه جمالت صفر . ويل يومئذ للمكذبين . هذا يوم لا ينطقون . ولا يؤذن لهم فيعتذرون . ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين . فإن كان لكم كيد فكيدون . ويل يومئذ للمكذبين . إن المتقين في ظلال وعيون . وفواكه مما يشتهون . كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون . إنا كذلك نجزي المحسنين }{[42]} ، { عم يتساءلون . عن النبأ العظيم . الذي هم فيه مختلفون . كلا سيعلمون . ثم كلا سيعلمون . ألم نجعل الأرض مهادا . والجبال أوتادا . وخلقناكم أزواجا . وجعلنا نومكم سباتا . وجعلنا الليل لباسا . وجعلنا النهار معاشا . وبنينا فوقكم سبعا شدادا . وجعلنا سراجا وهاجا . وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا . لنخرج به حبا ونباتا . وجنات ألفافا . إن يوم الفصل كان ميقاتا . يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا . وفتحت السماء فكانت أبوابا . وسيرت الجبال فكانت سرابا . إن جهنم كانت مرصادا . للطاغين مآبا . لا بثين فيها أحقابا . لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا . إلا حميما وغساقا . جزاء وفاقا . إنهم كانوا لا يرجون حسابا . وكذبوا بآياتنا كذابا . وكل شيء أحصيناه كتابا . فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا . إن المتقين مفازا . حدائق وأعنابا . وكواعب أترابا . وكأسا دهاقا . لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا . جزاء من ربك عطاء حسابا . رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا . يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا . ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا . إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا }{[43]} ، { يوم ترجف الراجفة . تتبعها الرادفة . قلوب يومئذ واجفة . أبصارها خاشعة . يقولون أئنا لمردودون في الحافرة . أئذا كنا عظاما نخرة . قالوا تلك إذا كرة خاسرة . فإنما هي زجرة واحدة . فإذا هم بالساهرة }{[44]} ، { فإذا جاءت الطامة الكبرى . يوم يتذكر الإنسان ما سعى . وبرزت الجحيم لمن يرى . فأما من طغى . وآثر الحياة الدنيا . فإن الجحيم هي المأوى . وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى . فإن الجنة هي المأوى . يسألونك عن الساعة أيان مرساها . فيم أنت من ذكراها . إلى ربك منتهاها . إنما أنت منذر من يخشاها . كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها }{[45]} .
في سبع سور متتابعات- من سورة المزمل إلى سورة النازعات- جاءتنا آيات محكمات [ تقارب المائتين ] تثبت الإيمان وتزيده بحياة بعد هذه الأولى ، حياة عظيمة أحوالها ، مفزعة أهوالها ، تجعل الولدان شيبا ، { وينجى الله الذين اتقوا بمفازتهم لا يمسهم السوء ولا هم يحزنون }{[46]} . { لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون }{[47]} ؛ وجاءنا فيها البرهان على أن الذي فلق الإصباح ، وجعل الليل والنهار خلفة ، وخلق الإنسان من ماء مهين ، فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى قادر ، على أن يحيى الموتى .
وخوف المهيمن العزيز الجبار ، من سوء المصير وعذاب النار ، فإن سعيرها لا يبقى ولا يذر ، وخزنتها جند رب القوي والقدر ؛ كما دعانا البر الرحيم إلى دار النعيم ، نلقى فيها الثواب الكريم ، والفضل العظيم ، نرزق فيها أهنأ الطعام والشراب ، وآنيتهما صحاف من ذهب وأكواب ، ونكسى فيها أوقر الثياب ؛ وأكرم من كل ذلك نسعد بالنظر إلى مولانا الملك الوهاب .
وعشر سور{[48]} بعد هذه السبع أكثرها{[49]} وعد ووعيد ، وبيان لما يكون يوم القيامة من بلاء شديد ، تكور الشمس ، وتنكدر النجوم ، وتسير الجبال وتنسف ، وتسجر البحار وتشتعل ؛ هذا حين ينفخ في الصور النفخة الأولى ، فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، فإذا نفخ فيه أخرى بعثرت القبور ، وذلك يوم النشور ، حينئذ لا تملك نفس لنفس شيئا ، والأمر يومئذ لله ؛ وربنا يحكم بالحق ، ولا يسوي بين المبطلين وأهل الصدق ، فوجوه المجرمين عليها غبرة ترهقها قترة ، ومقامهم في السعير ، ودعاؤهم بالثبور والتحسير { فيومئذ لا يعذب عذابه أحد . ولا يوثق وثاقه أحد }{[50]} ، { وجاء ربك والملك صفا صفا . وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى . يقول يا ليتني قدمت لحياتي }{[51]} ، { وجوه يومئذ خاشعة . عاملة ناصبة . تصلى نارا حامية . تسقى من عين آنية . ليس لهم طعام إلا من ضريع . لا يسمن ولا يغني من جوع }{[52]} . { ثم لا يموت فيها ولا يحيا }{[53]} { إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق }{[54]} ، { ويل يومئذ للمكذبين . الذين يكذبون بيوم الدين . وما يكذب به إلا كل معتد أثيم }{[55]} ، { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون . ثم إنهم لصالوا الجحيم . ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون }{[56]} ، { وإذا الموءودة سئلت . بأي ذنب قتلت . وإذا الصحف نشرت . وإذا السماء كشطت . وإذا الجحيم سعرت . وإذا الجنة أزلفت . علمت نفس ما أحضرت }{[57]} ، { فإذا جاءت الصاخة . يوم يفر المرء من أخيه . وأمه وأبيه . وصاحبته وبنيه . لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه }{[58]} ؛ أما النضرة والسرور ، ورضوان مولانا الغفور الشكور ، فإنه لأهل الإيمان والعمل المبرور : { وجوه يومئذ مسفرة . ضاحكة مستبشرة }{[59]} ، { وإن عليكم لحافظين . كراما كاتبين . يعلمون ما تفعلون . إن الأبرار لفي نعيم }{[60]} ، { وعلى الأرائك ينظرون . تعرف في وجوههم نضرة النعيم . يسقون من رحيق مختوم . ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون . ومزاجه من تسنيم . عينا يشرب بها المقربون }{[61]} . { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون . على الأرائك ينظرون }{[62]} ، { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير }{[63]} ، { قد أفلح من تزكى }{[64]} ، { وجوه يومئذ ناعمة . لسعيها راضية . وفي جنة عالية . لا تسمع فيها لا غية . فيها عين جارية . فيها سرر مرفوعة . وأكواب موضوعة . ونمارق مصفوفة . وزرابي مبثوثة }{[65]} ، { يأيتها النفس المطمئنة . ارجعي إلى ربك راضية مرضية . فادخلي في عبادي وادخلي جنتي }{[66]} ؛ ثم نقرأ بعد ذلك في عشر من السور القصار ، ماذا أعد للكفرة والفجار ، وما يُلقى المؤمنون الأخيار : { إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية . جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه }{[67]} ؛ { فأنذرتكم نارا تلظى . لا يصلاها إلا الأشقى . الذي كذب وتولى . وسيجنبها الأتقى . الذي يؤتي ماله يتزكى . وما لأحد عنده من نعمة تجزي . إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى . ولسوف يرضي }{[68]} .
وعن الإيمان بجند الله الكرام عليهم السلام بينت آيات محكمات ما عهد به المولى سبحانه إلى طائفة منهم ليكونوا خزنة جهنم- أعاذنا الله منها- : { عليها تسعة عشر . وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر }{[69]} ، وأقسم ربنا بطوائف منهم في آيات خمس هي فواتح سورة [ المرسلات ] ، وخمس أخر هن فواتح سورة [ النازعات ] ، وبين حالهم حين يبعث الخلق { يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان وقال صوابا }{[70]} ؛ وطائفة عهد ربنا إليهم بصحفه المكرمة ، المرفوعة المطهرة { بأيدي سفرة . كرام بررة }{[71]} ، وملك الوحي جبريل المبلغ عن الملك القدوس { إنه لقول رسول كريم . ذي قوة عند ذي العرش مكين . مطاع ثم أمين }{[72]} ، { وإن عليكم لحافظين . كراما كاتبين . يعلمون ما تفعلون }{[73]} ، { إن كل نفس لما عليها حافظ }{[74]} ، { وجاء ربك والملك صفا صفا }{[75]} ، { سندع الزبانية }{[76]} ، { تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر }{[77]} .
وفي التصديق بما نزل من الكتاب ، ولزوم تلاوته واتباعه ، وفي عاقبة من أعرض عنه جاءت الآيات المحكمات : { . . ورتل القرآن ترتيلا . إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا . إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا }{[78]} ، { . . فاقرءوا ما تيسر من القرآن . . }{[79]} { . . فاقرءوا ما تيسر منه . . }11 ، { كلا إنه كان لآياتنا عنيدا . سأرهقه صعودا }{[80]} ، { ثم أدبر واستكبر . فقال إن هذا إلا سحر يؤثر . إن هذا إلا قول البشر . سأصليه سقر }{[81]} { كلا إنه تذكرة . فمن شاء ذكره }{[82]} ، { لا تحرك به لسانك لتعجل به . إن علينا جمعه وقرآنه . فإذا قرأناه فاتبع قرآنه . ثم إن علينا بيانه }{[83]} ، { وإنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا . فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا . واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا . ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا }{[84]} ، { فبأي حديث بعده يؤمنون }{[85]} ، { إنهم كانوا لا يرجون حسابا . وكذبوا بآياتنا كذابا }{[86]} ، { إن هو إلا ذكر للعالمين ، لمن شاء منكم أن يستقيم }{[87]} ، { وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون }{[88]} { بل هو قرآن مجيد . في لوح محفوظ }{[89]} ، { إنه لقول فصل . وما هو بالهزل }{[90]} ، { إن هذا لفي الصحف الأولى . صحف إبراهيم وموسى }{[91]} ، { والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة }{[92]} ، { اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم }{[93]} ، { إنا أنزلناه في ليلة القدر }{[94]} ، { رسول من الله يتلو صحفا مطهرة . فيها كتب قيمة }{[95]} .
وعن تصديق النبيين وتأييد الله لهم ولأتباعهم ، وبطشته سبحانه بأعدائهم ، يقول مولانا تقدست أسماؤه : { وذرني والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا }{[96]} ، { إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا . فعصى فرعون الرسول فأخذنه أخذا وبيلا }{[97]} ، { يا أيها المدثر . قم فأنذر }{[98]} ، { هل أتاك حديث موسى . إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى . اذهب إلى فرعون إنه طغى . فقل هل لك إلى أن تزكى . وأهديك إلى ربك فتخشى . فأراه الآية الكبرى . فكذب وعصى . ثم أدبر يسعى . فحشر فنادى . فقال أنا ربكم الأعلى . فأخذه الله نكال الآخرة والأولى . إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } ، {[99]} { يسألونك عن الساعة أيان مرساها . فيم أنت من ذكراها . إلى ربك منتهاها . إنما أنت منذري من يخشاها }{[100]} ، { وما صاحبكم بمجنون . ولقد رآه بالأفق المبين . وما هو على الغيب بضنين }{[101]} ، { هل أتاك حديث الجنود . فرعون وثمود }{[102]} ، { سنقرئك فلا تنسى }{[103]} ؛ { ونيسرك لليسرى . فذكر إن نفعت الذكرى }{[104]} ؛ { فذكر إنما أنت مذكر . لست عليهم بمسيطر }{[105]} . { ألم تر كيف فعل ربك بعاد . إرم ذات العماد . التي لم يخلق مثلها في البلاد . وثمود الذين جابوا الصخر بالواد . وفرعون ذي الأوتاد . الذين طغوا في البلاد . فأكثروا فيها الفساد . فصب عليهم ربك سوط عذاب ، إن ربك لبالمرصاد }{[106]} ، { كذبت ثمود بطغواها . إذ انبعث أشقاها . فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها . فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها }{[107]} ؛ { ما ودعك ربك وما قلى . وللآخرة خير لك من الأولى . ولسوف يعطيك ربك فترضى }{[108]} ؛ { ورفعنا لك ذكرك }{[109]} ؛ { كلا لا تطعه واسجد واقترب }{[110]} ؛ { إنا أعطيناك الكوثر . فصل لربك وانحر . إن شانئك هو الأبتر }{[111]} ؛ { قل يا أيها الكافرون . لا أعبد ما تعبدون . ولا أنتم عابدون ما أعبد }{[112]} . { إذا جاء نصر الله والفتح . ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا . فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا }{[113]} .
وفي هذه السور المباركة مع الهداية إلى الإيمان الصادق دعوة إلى عبادة الملك القدوس المهيمن ، يؤمر بها النبي صلى الله عليه وسلم ، والأمة له في ذلك تبع ، أو ينادي إليها العباد ، { يا أيها المزمل . قم الليل إلا قليلا }{[114]} ، { ورتل القرآن ترتيلا }{[115]} { واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا } {[116]}{ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم }{[117]} ، { واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا . ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا }{[118]} ، { سبح اسم ربك الأعلى }{[119]} ، { فذكر إنما أنت مذكر }{[120]} ، { أما بنعمة ربك فحدث }{[121]} ، { فإذا فرغت فانصب . وإلى ربك فارغب }{[122]} ، { . . واسجد واقترب }{[123]} ، { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة }{[124]} ، { . . وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر }{[125]} ، { فليعبدوا رب هذا البيت }{[126]} ، { فصل لربك وانحر }{[127]} ، { فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا }{[128]} ، { قل هو الله أحد }{[129]} ، { قل أعوذ برب الفلق }{[130]} ، { قل أعوذ برب الناس }{[131]} ؛ وتأتي آيات ينهانا ربنا فيها عن أشياء ، فإذا انتهينا كنا من العابدين { ولا تمنن تستكثر }{[132]} ، { . . ولا تطع منهم آثما أو كفورا }{[133]} { فأما اليتيم فلا تقهر . وأما السائل فلا تنهر }{[134]} ؛ وآيات أخر يشكر الله فيها عمل الصالحين ، أو يقبح طغيان الطاغين : { وذرني والمكذبين أولى النعمة ومهلهم قليلا }{[135]} ، { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الله والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله . . } {[136]} ، { إنه فكر وقدر . فقتل كيف قدر . ثم قتل كيف قدر . ثم نظر . ثم عبس وبسر . ثم أدبر واستكبر . فقال إن هذا إلا سحر يؤثر . إن هذا إلا قول البشر }{[137]} { ما سلككم في سقر . قالوا لم نك من المصلين . ولم نك نطعم المسكين . وكنا نخوض مع الخائضين . وكنا نكذب بيوم الدين . حتى أتانا اليقين . فما تنفعهم شفاعة الشافعين فما لهم عن التذكرة معرضين }{[138]} { كلا بل لا يخافون الآخرة }{[139]} ، { أحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه . بلى قادرين على أن نسوي بنانه . بل يريد الإنسان ليفجر أمامه . يسأل أيان يوم القيامة }{[140]} { كلا بل تحبون العاجلة . وتذرون الآخرة }{[141]} ، { فلا صدق ولا صلى . ولكن كذب وتولى . ثم ذهب إلى أهله يتمطى }{[142]} ، { إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا . عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا . يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا . ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا . إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا . إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا }{[143]} ، { إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوم ثقيلا }{[144]} { كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون }{[145]} ، { ويل للمطففين . الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون . وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون . ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون . ليوم عظيم . يوم يقوم الناس لرب العالمين }{[146]} ، { إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين }{[147]} ، { قتل أصحاب الأخدود . النار ذات الوقود . إذ هم عليها قعود . وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود . وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد }{[148]} ، { بل الذين كفروا في تكذيب . والله من ورائهم محيط }{[149]} . { إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا فمهل الكافرين أمهلهم رويدا }{[150]} ، { قد أفلح من تزكى . وذكر اسم ربه فصلى }{[151]} ، أيحسب أن لن يقدر عليه أحد . يقول أهلكت مالا لبدا . أيحسب أن لم يره أحد }{[152]} { قد أفلح من زكاها . وقد خاب من دساها }{[153]} { كلا إن الإنسان ليطغى . أن رآه استغنى }{[154]} { أرأيت الذي ينهى . عبدا إذا صلى . أرأيت إن كان على الهدى . أو أمر بالتقوى . أرأيت إن كذب وتولى . ألم يعلم بأن الله يرى }{[155]} ، { إن الإنسان لربه لكنود . وإنه على ذلك لشهيد . وإنه لحب الخير لشديد }{[156]} ، { ألهاكم التكاثر . حتى زرتم المقابر }{[157]} ، { أرأيت الذي يكذب بالدين فذلك الذي يدع اليتيم . ولا يحض على طعام المسكين }{[158]} ، { فلا اقتحم العقبة . وما أدراك ما العقبة فك رقبة . أو إطعام في يوم ذي مسغبة . يتيما ذا مقربة . أو مسكينا ذا متربة . ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة . أولئك أصحاب الميمنة }{[159]} .
وصاكم الملك القدوس في هذه السور الثنتين والأربعين أن تستيقنوا بالله وجلاله وآلائه ، وبملائكته وكتبه وأنبيائه ، وبالموت والبعث وبحسابه وجزائه ؛ وصاكم أن تذكروه كثيرا ، وتسبحوه ليلا طويلا ، وبكرة وأصيلا ، وتستغفروه وتنيبوا إليه ، وتعبدوه وتتوكلوا عليه ، وأنتم بهذا أهل دينه القيم وأصحاب النعيم والرضوان لديه .
نهى عن الكفر والكبر ، وترك الصلاة ومنع الزكاة ، والافتتان بالعاجلة ، والغفلة عن الحياة الآجلة ؛ نهى عن البغي والفجور ، والتطفيف والتخسير ، واللمز والسخرية والتحقير ؛ وتوعد الطاغين ، والذين يفتنون المؤمنات والمؤمنين ، ويصدون عن سبيل رب العالمين ، ويحرمون اليتامى والمساكين ؛ وسعر الجحيم للمرائين ، والأشحة الممسكين .
وحبب إليكم أن تخلصوا له الدين ، وتقوموا له قانتين ، تفكوا رقاب المستعبدين ، وتبسطوا أيديكم بالبر ، وتحضوا من استطعتم على بذل الخير ، وتتواصوا بالحق وبالصبر .
فاستجيبوا لربكم ، وأوفوا بعده يوف بعهدكم .
ونضرع إلى مولانا خاشعين أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته ، وأن يتقبل عنا أحسن ما عملنا ، ويتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة ، وعد الصدق الذين كانوا يوعدون .