فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ أي : إلى مدة قدر اللّه بقاءهم إليها ، وليس كشفا مؤبدا ، وإنما هو مؤقت ، إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ العهد الذي عاهدوا عليه موسى ، ووعدوه بالإيمان به ، وإرسال بني إسرائيل ، فلا آمنوا به ولا أرسلوا معه بني إسرائيل ، بل استمروا على كفرهم يعمهون ، وعلى تعذيب بني إسرائيل دائبين .
ثم بين - سبحانه - موقفهم الجحودى فقال : { فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرجز إلى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } أى : فلما كشفنا عنهم العذاب مرة بعد مرة إلى الوقت الذي أجل لهم وهو وقت إغراقهم في اليم ، إذا هم ينكثون أى : ينقضون عهدهم الذي التزموه ، ويحنثون في قسمهم في كل مرة .
وينكثون : من النكث . وأصله فك طاقات الصوف المغزول ليغزل ثانيا ، ثم استعير لنقض العهد بعد إبرامه .
قال الآلوسى : وجواب " لما " فعل مقدر يؤذن به إذا الفجائية لا الجملة المقترنة بها ، أى : فلما كشفنا عنهم ذلك فاجأوا بالنكث من غير توقف " .
هذا ، وقد ساق بعض المفسرين آثارا متعددة في كيفية نزول هذا العذاب بهم . ونم هذه الآثار ما رواه أبو جعفر بن جرير - بسنده - عن سعيد بن جبير قال :
لما أتى موسى - عليه السلام - فرعون قال له : أرسل معى بنى إسرائيل ، فأرسل الله عليهم الطوفان وهو المطر فصب عليهم منه شيئا خافوا أن يكون عذابا . فقالوا لموسى : ادع لنا ربك أن يكشف عنا هذا المطر فنؤمن لك ونرسل معك بنى إسرائيل . فدعا ربه ، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بنى إسرائيل . فأنبت لهم في تلك السنة شيئا لم ينبته قبل ذلك من الزروع والثمار والكلأ ، فقالوا : هذا ما كنا نتمنى ، فأرسل الله عليهم الجراد فسلطه على الكلأ فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لا يبقى الزرع فقالوا : يا موسى ادع لنا ربك أن يكشف عنا الجراد فنؤمن لك ونرسل معك بنى إسرائيل ، فدعا ربه فكشف عنهم الجراد فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بنى إسرائيل ، فداسوا وأحرزوا في البيوت فقالوا : قد أحرزنا . فأرسل الله عليهم القمل وهو السوس الذي يرخج منه ، فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلم يرد منها إلا ثلاثة أقفزة - والجريب والقفزير مكيالان للحبوب ، والجريب أربعة أقفزة - فقاولا : يا موسى ادع لنا ربك أن يكشف عنا القمل فنؤمن لك ونرسل معك بنى إسرائيل ، فدعا ربه فكشف عنهم فأبوا أن يرسلوا معه بنى إسرائيل . فبينما هو جالس عند فرعون إذ سمع نقيق ضفدع فقال لفرعون : ما تلقى أنت وقومك من هذا . فقال : وما عسى أن يكون كيد هذا ، فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع ، ويهم أن يتكلم فيثبت الضفدع في فيه فقالوا لموسى ادع لنا ربك أن يكشف عنا هذه الضفادع فنؤمن لك ونرسل معك بنى إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا ، وأرسل الله عليهم الدم فكانوا ما استقوا من الأنهار والآبار ، وما كان في أوعيتهم وجدوه دما عبيطا ، فشكوا إلى فرعون ، فقالوا إنا قد ابتلينا بالدم وليس لنا شراب ، فقال : إنه قد سحركم ، فقالوا : من أين سحرنا ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئا من الماء إلا وجدناه دما عبيطا ؟ فأتوه وقالوا : يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن لك ونرسل معك بنى إسرائيل ، فدعا ربه فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بنى إسرائيل " .
قال ابن كثير : قد روى نحو هذا عن ابن عباس والسدى وقتادة وغير واحد من علماء السلف أنه أخبر بهذا .
وفي كل مرة ينقضون عهدهم ، ويعودون إلى ما كانوا فيه قبل رفع العذاب عنهم وفق قدر الله في تأجيلهم إلى أجلهم المقدور لهم :
( فلما كشفنا عنهم الرجز - إلى أجل هم بالغوه - إذا هم ينكثون ) . .
جمع السياق الآيات كلها ، كأنما جاءتهم مرة واحدة . وكأنما وقع النكث منهم مرة واحدة . ذلك أن التجارب كلها كانت واحدة ، وكانت نهايتها واحدة كذلك . وهي طريقة من طرق العرض القرآني للقصص يجمع فيها البدايات لتماثلها ؛ ويجمع فيه النهايات لتماثلها كذلك . . ذلك أن القلب المغلق المطموس يتلقى التجارب المنوعة وكأنها واحدة ؛ لايفيد منها شيئاً ، ولا يجد فيها عبرة . .
فأما كيف وقعت هذه الآيات ، فليس لنا وراء النص القرآني شيء . ولم نجد في الأحاديث المرفوعة إلى رسول الله [ ص ] عنها شيئاً . ونحن على طريقتنا في هذه " الظلال " نقف عند حدود النص القرآني في مثل هذه المواضع . لا سبيل لنا إلى شيء منها إلا من طريق الكتاب أو السنة الصحيحة . وذلك تحرزاًمن الإسرائيليات والأقوال والروايات التي لا أصل لها ؛ والتي تسربت - مع الأسف - إلى التفاسير القديمة كلها ، حتى ما ينجو منها تفسير واحد من هذه التفاسير ؛ وحتى إن تفسير الإمام ابن جرير الطبري - على نفاسة قيمته - وتفسير ابن كثير كذلك - على عظيم قدره - لم ينجوا من هذه الظاهرة الخطيرة . .
وقد وردت روايات شتى في شأن هذه الآيات عن ابن عباس ، وعن سعيد بن جبير ، وعن قتادة ، وعن ابن إسحاق . . رواها أبو جعفر ابن جرير الطبري في تاريخه وفي تفسيره . وهذه واحدة منها :
" حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن المغيرة ، عن سعيد بن جبير قال : لما أتى موسى فرعون قال له : أرسل معي بني إسرائيل ، فأبى عليه ، فأرسل الله عليهم الطوفان - وهو المطر - فصب عليهم منه شيئاً ، فخافوا أن يكون عذاباً ، فقالوا لموسى : ادع لنا ربك أن يكشف عنا المطر فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ! فدعا ربه ، فلم يؤمنوا ، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل ؛ فأنبت لهم في تلك السنة شيئاً لم ينبته قبل ذلك من الزرع والثمر والكلأ . فقالوا : هذا ما كنا نتمنى ! فأرسل الله عليهم الجراد فسلطه على الكلأ ، فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لايبقي الزرع . فقالوا : يا موسى ادع لنا ربك فيكشف عنا الجراد فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل ! فدعا ربه ، فكشف عنهم الجراد ، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل ! فداسوا وأحرزوا في البيوت ، فقالوا : قد أحرزنا ! فأرسل الله عليهم القمل - وهو السوس الذي يخرج منه - فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها ثلاثة أقفزة . فقالوا : ياموسى ادع لنا ربك يكشف عنا القمل ، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ! فدعا ربه فكشف عنهم ، فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل . فبينما هو جالس عند فرعون ، إذ سمع نقيق ضفدع فقال لفرعون : ما تلقى أنت وقومك من هذا ! فقال : وما عسى أن يكون كيد هذا ؟ ! فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع ، ويهم أن يتكلم فتثب الضفادع في فيه . فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع ، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ! فكشف عنهم فلم يؤمنوا . فأرسل الله عليهم الدم ، فكانوا ما استقوا من الأنهار والآبار ، أو ما كان في أوعيتهم ، وجدوه دماً عبيطاً . فشكوا إلى فرعون فقالوا : إنا قد ابتلينا بالدم ، وليس لنا شراب ! فقال : إنه قد سحركم ! فقالوا : من أين سحرنا ، ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئاً من الماء إلا وجدناه دماً عبيطاً ؟ فأتوه فقالوا : يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم ، فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل ! فدعا ربه ، فكشف عنهم ، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل " .
والله أعلم أي ذلك كان . . والصورة التي جاءت بها هذه الآيات لا يؤثر اختلافها في طبيعة هذه الآيات . فالله - سبحانه - أرسلها بقدره ، في وقت معين ، ابتلاء لقوم معينين ؛ وفق سنته في أخذ المكذبين بالضراء لعلهم يتضرعون .
ولقد كان قوم فرعون على وثنيتهم وجاهليتهم ؛ وعلى استخفاف فرعون بهم لفسقهم ، يلجأون إلى موسى - عليه السلام - ليدعو ربه بما عهد عنده ، ليكشف عنهم البلاء . . وإن كانت السلطات الحاكمة بعد ذلك تنكث ولا تستجيب . لأنها تقوم على ربوبية فرعون للبشر ؛ وتفزع من ربوبية الله لهم . إذ أن ذلك معناه هدم نظام الحكم الذي يقوم على حاكمية فرعون لا حاكمية الله ! . . أما أهل الجاهلية الحديثة فإن الله يسلطالآفات على زروعهم ، فلا يريدون أن يرجعوا إلى الله البتة ! وإذا أحس أصحاب الزروع من الفلاحين بيد الله في هذه الآفات ، - وهو الشعور الفطري حتى في النفوس الكافرة في ساعات الخطر والشدة ! - واتجهوا إلى الله بالدعاء أن يكشف عنهم البلاء ، قال لهم أصحاب " العلمية ! " الكاذبة : هذا الاتجاه خرافة " غيبية ! " وتندروا عليهم وسخروا منهم ! ليردوهم إلى كفر أشد وأشنع من كفر الوثنيين !
جملة { فلما كشفنا عنهم الرجز } دالة على أن موسى دعا الله برفع الطاعون فارتقع وقد جاء ذلك صريحاً في التوراة ، وحُذف هنا للإيجاز .
وقوله : { إلى أجل هم بالغوه } متعلق ب { كشفنا } باعتبار كون كشف الرجز إزالة للموتان الذي سببه الطاعون ، فإزالة الموتان مغياة إلى أجل هم بالغون إليه وهو الأجل الذي قدره الله لهلاكهم فالغاية منظور فيها إلى فعل الكشف لا إلى مفعوله ، وهو الرجْز .
وجملة : { إذا هم ينكثون } جواب ( لما ) ، و ( إذا ) رابطة للجواب لوقوع جواب الشرط جملة أسمية ، فلما كان ( إذا ) حرفاً يدل على معنى المفاجأة كان فيه معنى الفعل كأنه قيل فاجأوا بالنكث ، أي : بادروا به ولم يؤخروه . وهذا وصف لهم بإضمار الكفر بموسى وإضمار النكث لليمين .
والنكث حقيقته نقض المفتول من حبل أو غَزْل ، قال تعالى : { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً } [ النحل : 92 ] واستعير النكث لعدم الوفاء بالعهد ، كما استعير الحبل للعهد في قوله تعالى : { إلاّ بحبل من الله وحبل من الناس } [ آل عمران : 112 ] ففي قوله : { ينكثون } استعارة تبعية .
وهذا النكث هو أن فرعون بعد أن أذن لبني إسرائيل بالخروج وخرجوا من أرض ( جاسان ) ليلاً قال لفرعون بعضُ خاصته : مَاذا فعلنا حتى أطلقنا إسرائيل من خدمتنا فندم فرعون وجهز جيشاً للالتحاق ببني إسرائيل ليردوهم إلى منازلهم كما هو في الإصحاح الربع عشر من سفر الخروج .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فدعا موسى ربه، فأجابه، فلما رفع الله عنهم العذاب الذي أنزله بهم "إلى أجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ "ليستوفوا عذاب أيامهم التي جعلها الله لهم من الحياة أجلاً إلى وقت هلاكهم، "إذَا هُمْ يَنْكُثُونَ" يقول: إذا هم ينقضون عهودهم التي عاهدوا ربهم وموسى، ويقيمون على كفرهم وضلالهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إلى أَجَلٍ هُم بالغوه} إلى حدّ من الزمن هم بالغوه لا محالة فمعذبون فيه لا ينفعهم ما تقدم لهم من الإمهال وكشف العذاب إلى حلوله {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} جواب لما، يعني: فلما كشفناه عنهم فاجأوا النكث وبادروا لم يؤخروه ولكن كما كشف عنهم نكثوا...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
{إذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} أي ينقضون العهد، وأصل النكث فل طاقات الصوف المغزول ليغزل ثانياً فاستعير لنقض العهد بعد إبرامه.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فلمّا كشفنا عنهم الرّجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون} أي فلما كشفنا عنهم العذاب مرة بعد مرة إلى أجل هم بالغوه ومنتهون إليه في كل مرة منها – وهو عود الحال إلى ما كانت عليه- أو في مجموعها وهو الغرق الذي هلكوا فيه- إذا هم ينكثون عهدهم ويحنثون في قسمهم في كل مرة. أي فاجأوا بالنكث، وبادروا إلى الحنث، بلا روية ولا ريث...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ العهد الذي عاهدوا عليه موسى، ووعدوه بالإيمان به، وإرسال بني إسرائيل، فلا آمنوا به ولا أرسلوا معه بني إسرائيل، بل استمروا على كفرهم يعمهون، وعلى تعذيب بني إسرائيل دائبين.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {فلما كشفنا عنهم الرجز} دالة على أن موسى دعا الله برفع الطاعون فارتقع وقد جاء ذلك صريحاً في التوراة، وحُذف هنا للإيجاز.
وقوله: {إلى أجل هم بالغوه} متعلق ب {كشفنا} باعتبار كون كشف الرجز إزالة للموتان الذي سببه الطاعون، فإزالة الموتان مغياة إلى أجل هم بالغون إليه وهو الأجل الذي قدره الله لهلاكهم فالغاية منظور فيها إلى فعل الكشف لا إلى مفعوله، وهو الرجْز.
وجملة: {إذا هم ينكثون} جواب (لما)، و (إذا) رابطة للجواب لوقوع جواب الشرط جملة أسمية، فلما كان (إذا) حرفاً يدل على معنى المفاجأة كان فيه معنى الفعل كأنه قيل فاجأوا بالنكث، أي: بادروا به ولم يؤخروه. وهذا وصف لهم بإضمار الكفر بموسى وإضمار النكث لليمين.