الله نزَّل أحسن الحديث كتاباً تشابهت معانيه وألفاظه في بلوغ الغاية في الإعجاز والإحكام ، تتردد فيه المواعظ والأحكام ، كما يكرر في التلاوة ، تنقبض عند تلاوته وسماع وعيده جلود الذين يخافون ربهم ، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ، ذلك الكتاب الذي اشتمل على هذه الصفات نور الله يهدى به من يشاء ، فيوفقه إلى الإيمان به ، ومن يضله الله - لعلمه أنه سيُعرِض عن الحق - فليس له من مرشد ينقذه من الضلال .
يخبر تعالى عن كتابه الذي نزله أنه { أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } على الإطلاق ، فأحسن الحديث كلام اللّه ، وأحسن الكتب المنزلة من كلام اللّه هذا القرآن ، وإذا كان هو الأحسن ، علم أن ألفاظه أفصح الألفاظ وأوضحها ، وأن معانيه ، أجل المعاني ، لأنه أحسن الحديث في لفظه ومعناه ، متشابها في الحسن والائتلاف وعدم الاختلاف ، بوجه من الوجوه . حتى إنه كلما تدبره المتدبر ، وتفكر فيه المتفكر ، رأى من اتفاقه ، حتى في معانيه الغامضة ، ما يبهر الناظرين ، ويجزم بأنه لا يصدر إلا من حكيم عليم ، هذا المراد بالتشابه في هذا الموضع .
وأما في قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } فالمراد بها ، التي تشتبه على فهوم كثير من الناس ، ولا يزول هذا الاشتباه إلا بردها إلى المحكم ، ولهذا قال : { مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } فجعل التشابه لبعضه ، وهنا جعله كله متشابها ، أي : في حسنه ، لأنه قال : { أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } وهو سور وآيات ، والجميع يشبه بعضه بعضا كما ذكرنا .
{ مَثَانِيَ } أي : تثنى فيه القصص والأحكام ، والوعد والوعيد ، وصفات أهل الخير ، وصفات أهل الشر ، وتثنى فيه أسماء اللّه وصفاته ، وهذا من جلالته ، وحسنه ، فإنه تعالى ، لما علم احتياج الخلق إلى معانيه المزكية للقلوب ، المكملة للأخلاق ، وأن تلك المعاني للقلوب ، بمنزلة الماء لسقي الأشجار ، فكما أن الأشجار كلما بعد عهدها بسقي الماء نقصت ، بل ربما تلفت ، وكلما تكرر سقيها حسنت وأثمرت أنواع الثمار النافعة ، فكذلك القلب يحتاج دائما إلى تكرر معاني كلام اللّه تعالى عليه ، وأنه لو تكرر عليه المعنى مرة واحدة في جميع القرآن ، لم يقع منه موقعا ، ولم تحصل النتيجة منه ، ولهذا سلكت في هذا التفسير هذا المسلك الكريم ، اقتداء بما هو تفسير له ، فلا تجد فيه الحوالة على موضع من المواضع ، بل كل موضع تجد تفسيره كامل المعنى ، غير مراع لما مضى مما يشبهه ، وإن كان بعض المواضع يكون أبسط من بعض وأكثر فائدة ، وهكذا ينبغي للقارئ للقرآن ، المتدبر لمعانيه ، أن لا يدع التدبر في جميع المواضع منه ، فإنه يحصل له بسبب ذلك خير كثير ، ونفع غزير .
ولما كان القرآن العظيم بهذه الجلالة والعظمة ، أثَّر في قلوب أولي الألباب المهتدين ، فلهذا قال تعالى : { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } لما فيه من التخويف والترهيب المزعج ، { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } أي : عند ذكر الرجاء والترغيب ، فهو تارة يرغبهم لعمل الخير ، وتارة يرهبهم من عمل الشر .
{ ذَلِكَ } الذي ذكره اللّه من تأثير القرآن فيهم { هُدَى اللَّهِ } أي : هداية منه لعباده ، وهو من جملة فضله وإحسانه عليهم ، { يَهْدِي بِهِ } أي : بسبب ذلك { مَنْ يَشَاءُ } من عباده . ويحتمل أن المراد بقوله : { ذَلِكَ } أي : القرآن الذي وصفناه لكم .
{ هُدَى اللَّهِ } الذي لا طريق يوصل إلى اللّه إلا منه { يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } ممن حسن قصده ، كما قال تعالى { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ }
{ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } لأنه لا طريق يوصل إليه إلا توفيقه والتوفيق للإقبال على كتابه ، فإذا لم يحصل هذا ، فلا سبيل إلى الهدى ، وما هو إلا الضلال المبين والشقاء .
مدح - سبحانه - كتابه مدحا يليق به ، وبين حال المؤمنين الصادقين عند سماعه ، وسلى نبيه صلى الله عليه وسلم عما أصابه من أعدائه . فقال - تعالى - : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً . . . } .
قوله - تعالى - : " مثانى " جمع مثنى من التثنية بمعنى التكرار والإِعادة ولذا سميت سورة الفاتحة بالسبع المثانى ، لأنها تكرر وتعاد مع كل صلاة .
أى : الله - تعالى - نزل بفضله ورحمته عليك - يا محمد - أحسن الحديث { كِتَاباً مُّتَشَابِهاً } أى : يشبه بعضه بعضا فى فصاحته وبلاغته ، وفى نظمه وإعجازه ، وفى صحة معانيه وأحكامه ، وفى صدقه وهداياته وإرشاداته إلى ما يسعد الناس فى دنياهم وآخرتهم . . .
" مثانى " أى : تثنى وتكرر فيه القصص والمواعظ ، والأمثال والأحكام والوعد والوعيد ، كما تثنى وتكرر قراءاته فلا تمل على كثرة الترداد ، وإنما يزداد المؤمنون حبا وتعلقا بتلاوته كلما أكثروا من هذه التلاوة .
وسمى - سبحانه - كتابه حديثا ، لأن النبى صلى الله عليه وسلم كان يحدث به قومه ، ويخبرهم بما كان ينزل عليه منه . فلفظ الحديث هنا بمعنى المحدث به لا بمعنى كونه مقابلا للقديم .
ولفظ { كتابا } بدل من قوله { أَحْسَنَ الحديث } وقوله : { مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ } صفتان للكتاب .
ووصف بهما وهو مفرد وكلمة { مثانى } جمع ، باعتبار اشتماله على الكثير من السور والآيات والقصص والمواعظ والأحكام .
أى : الله - تعالى - أنزل أحسن الحديث كتابا مشتملا على السور والآيات والمواعظ . . . التى يشبه بعضها فى الإِعجاز . . والتى تثنى وتكرر فلا تمل على كثرة التكرار . .
ورحم الله صاحب الكشاف فقد أجاد عند تفسيره لهذه الآية فقال له ما ملخصه : " وإيقاع اسم مبتدأ ، وبناء { نزل } عليه ، فيه تفخيم لأحسن الحديث ورفع منه ، واستشهاد على حسنه ، وتأكيد لاستناده إلى الله ، وأنه من عنده ، وأن مثله لا يجوز أن يصدر إلا عنه ، وتنبيه على أنه وحى معجز مباين لسائر الأحاديث .
فإن قلت : كيف وصف الواحد بالجمع ؟ قلت : إنما صح ذلك لأن الكتاب جملة ذات تفاصيل ، وتفاصيل الشئ هى جملته لا غير ، ألا تراك تقول : القرآن سور وآيات . . . كما تقول الإِنسان عظام وعروق ، فإن قلت : ما فائدة التثنية والتكرير ؟ قلت : النفوس أنفر شئ عن حديث الوعظ والنصيحة ، فما لم يكرر عليها عودا عن بدء لم يرسخ فيها ، ولم يعمل عمله ، ومن ثم كانت عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكرر عليهم ما كان يعظ به وينصح ثلاث مرات ، ليركزه فى قلوبهم ، كى يغرسه فى صدورهم . . .
وقوله - تعالى - : { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله . . . } .
استئناف مسوق لبيان آثار هذا القرآن الكريم فى نفوس قارئيه وسامعيه بعد بيان أوصافه فى ذاته .
وقوله " تقشعر " من الاقشعرار ، وهو الانقياض الشديد للبدن . يقال : اقشعر جسد فلان ، إذا انقبض جلده واهتز . . . وهو هنا كناية عن الخوف الشديد من الله - تعالى - .
أى : أن هذا الكتاب العظيم عندما يقرؤه أو يسمعه المؤمنون الصادقون الذين يخشون ربهم تقشعر جلودهم من شدة ما اشتمل عليه من زواجر ونذر . ثم تلين جلودهم وقلوبهم إذا ما قرأوا أو استمعوا إلى آيات الرحمة والمغفرة .
قال الجمل : " فإن قلت : لم ذكرت الجلود وحدها أولا ثم قرنت القلوب بها ثانيا ؟ .
قلت : ذكر الخشية التى تحملها القلوب مستلزم لذكر القلوب ، فكأنه قيل : تقشعر جلودهم وتخشى قلوبهم فى أول الأمر ، فإذا ذكروا الله - تعالى - وذكروا رحمته وسعتها ، استبدلوا بالخشية رجاء فى قلوبهم ، وبالقشعريرة لينا فى جلودهم . .
والخلاصة أن من صفات هؤلاء المؤمنين الصادقين ، أنهم يجمعون عند قراءتهم أو سماعهم للقرآن الكريم بين الخوف والرجاء ، الخوف من عذاب الله - تعالى - والرجاء فى رحمته ومغفرته ، إذ أن إقشعرار الجلود كناية عن الخوف الشديد ، ولين الجلود والقلوب كناية عن السرور والارتياح ، وعدى الفعل " تلين " بإلى لتضمينه معنى تسكن وتطمئن .
ومفعول { ذِكْرِ الله } محذوف للعلم به ، أى : ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله رحمته وثوابه وجنته .
قال ابن كثير ما ملخصه : هؤلاء المؤمنون يخالفون غيرهم من وجوه :
أحدها : أن سماع هؤلاء تلاوة الآيات ، وسماع أولئك نغمات الأبيات .
الثانى : أنهم إذا تليت عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ، بأدب وخشية ورجاء ومحبة وفهم وعلم ، ولم يكونوا - كغيرهم - متشاغلين لاهين عنها .
الثالث : أنهم يلزمون الأدب عند سماعها . . . . ولم يكونوا يتصارخون ويتكلفون ما ليس فيهم .
قال قتادة عند قراءة لهذه الآية : هذا نعت أولياء الله ، نعتهم الله بأنهم تقشعر جلودهم وتبكى أعينهم ، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله ، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم ، والغشيان عليهم ، إنما هذا فى أهل البدع ، وهذا من الشيطان . . .
واسم الإِشارة فى قوله - تعالى - : { ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } يعود إلى الكتاب الذى مرت أوصافه ، وأوصاف القارئين له والمستمعين إليه .
أى : ذلك الكتاب العظيم المشتمل على أحسن الإرشادات وأحكمها ، هدى الله الذى يهدى بسببه من يشاء من عباده إلى الصراط المستقيم ، ومن يضلله - سبحانه - عن طريق الحق ، فماله من هاد يهديه إلى هذا الطريق القويم .
كذلك تصور الآية الثانية هيئة تلقي المؤمنين لهذا القرآن . هذا الكتاب المتناسق الذي لا اختلاف في طبيعته ولا في اتجاهاته ، ولا في روحه ، ولا في خصائصه . فهو( متشابه )وهو( مثاني )تكرر مقاطعه وقصصه وتوجيهاته ومشاهده . ولكنها لا تختلف ولا تتعارض ، إنما تعاد في مواضع متعددة وفق حكمة تتحقق في الإعادة والتكرار . في تناسق وفي استقرار على أصول ثابتة متشابهة . لا تعارض فيها ولا اصطدام .
والذين يخشون ربهم ويتقونه ، ويعيشون في حذر وخشية ، وفي تطلع ورجاء ، يتلقون هذا الذكر في وجل وارتعاش ، وفي تأثر شديد تقشعر منه الجلود ؛ ثم تهدأ نفوسهم ، وتأنس قلوبهم بهذا الذكر فتلين جلودهم وقلوبهم وتطمئن إلى ذكر الله . .
وهي صورة حية حساسة ترسمها الكلمات ، فتكاد تشخص فيها الحركات .
( ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ) . .
فما ترتعش القلوب هكذا إلا حين تحركها أصبع الرحمن إلى الهدى والاستجابة والإشراق . والله يعلم من حقيقة القلوب ما يجازيها عليه بالهدى أو بالضلال :
( ومن يضلل الله فما له من هاد ) . .
فهو يضله بما يعلمه من حقيقته المستقرة على الضلال ، التي لا تقبل الهدى ولا تجنح إليه بحال .
وقوله تعالى : { الله نزل أحسن الحديث } يريد به القرآن ، وروي عن ابن عباس أن سبب هذه الآية أن قوماً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله حدثنا بأحاديث حسان وأخبرنا بأخبار الدهر ، فنزلت الآية في ذلك .
وقوله : { متشابهاً } معناه : مستوياً لا تناقض فيه ولا تدافع ، بل يشبه بعضه بعضاً في وصف اللفظ ووثاقة البراهين وشرف المعاني ، إذ هي اليقين في العقائد في الله تعالى وصفاته وأفعاله وشرعه .
وقوله : { مثاني } معناه : موضع تثنية للقصص والأقضية ، والمواعظ شتى فيه ولا تمل مع ذلك ولا يعرضها ما يعرض الحديث المعاد . قال ابن عباس : ثنى فيه الأمر مراراً . ولا ينصرف { مثاني } لأنه جمع لا نظير له في الواحد .
وقوله تعالى : { تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم } عبارة عن قفّ شعر الإنسان عندما يداخله خوف ولين قلب عن سماع موعظة أو زجر قرآن ونحوه ، وهذه علامة وفزع المعنى المخشع في قلب السامع ، وفي الحديث أن أبي بن كعب قرأ عند النبي صلى الله عليه وسلم فرقت القلوب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة » وقال العباس بن عبد المطلب : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من اقشعر جلده من خشية الله تحاتت عنه ذنوبه كما يتحاتُّ عن الشجرة اليابسة ورقها » وقالت أسماء بنت أبي بكر : كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم عند سماع القرآن ، قيل لها : إن أقواماً اليوم إذا سمع أحدهم القرآن خر مغشياً عليه ، فقالت : أعوذ بالله من الشيطان ، وقال ابن عمر : وقد رئي ساقطاً عند سماع القرآن فقال : إنا لنخشى الله وما نسقط ، هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم . وقال ابن سيرين : بيننا وبين هؤلاء الذي يصرعون عند قراءة القرآن أن يجعل أحدهم على حائط باسطاً رجليه ثم يقرأ القرآن كله ، فإن رمى بنفسه فهو صادق .
وقوله : { ذلك هدى الله } يحتمل أن يشير إلى القرآن ، أي ذلك الذي هذه صفته هدى الله ، ويحتمل أن يشير إلى الخشية واقشعرار الجلود ، أي ذلك أمارة هدى الله ، ومن جعل { تقشعر } في موضع الصفة لم يقف على { مثاني } ، ومن جعله مستأنفاً وإخباراً منقطعاً وقف على { مثاني } وباقي الآية بين .