ثم بين - سبحانه - بعد ذلك بعض مظاهر رحمته بالمؤمنين : { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
والمراد بالكتابه هنا : الحكم ، وأطلق عليه كتاب لأن هذا الحكم مكتوب في اللوح المحفوظ .
وللمفسرين أقوال في تفسير هذا الحكم السابق في علم الله - تعالى - : فمنهم من يرى أن المراد به أنه - سبحانه - لا يعذب المخطئ في اجتهاده .
وقد صرد صاحب الكشاف تفسيره لهذه الآية بهذا الرأى فقال قوله : { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ } . اى : لولا حكم منه سبق إثباته في اللوح المحفوظ ، وهو أنه - سبحانه - لا يعاقب أحداً بخطأ ، وكان هذا خطأ في الاجتهاد ، لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سبباً في إسلامهم وتوبتهم وأن فداءهم يتقوى بهم على الجهاد في سبيل الله ، وخفى عليهم أن قتلهم أعز للإِسلام وأهيب لمن وراءهم ، وأقل لشوكتهم . .
ومنهم من يرى أن المراد به أنه - سبحانه - لا يعذب قوماً إلا بعد تقديم النهى عن الفعل ولم يتقدم نهى عن أخذ الفداء .
ومنهم من يرى أن المراد به أنه - سبحانه - لا يعذبهم ما دام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم .
أو أنه - سبحانه - لا يعذب أحداً ممن شهد بدراً .
وقد ساق الإِمام الرازى هذه الأقوال وناقشها ثم اختار أن المراد بالكتاب الذي سبق : هو حكمه - سبحانه - في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة ، لأنه كتب على نفسه الرحمة . وسبقت رحمته غضبه .
أما الإِمام ابن جرير فهو يرى : أن الاية خبر عام محصور على معنى دون معنى ، وأنه لا وجه لأن يخص من ذلك معنى دون معنى . . فقال : يقول الهل - تعالى - لأهل بدر الذين أخذوا من الأسرى الفداء { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ } .
أى : لولا قضاء من الله سبق لكم أهل بدر في اللوح المحفوظ أن الله يحل لكم الغنيمة ، وأن الهل قضى أنه لا يضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون ، وأنه لا يعذب أحداً شهد هذا المشهد الذي شهدتموه ببدر . . لولا كل ذلك لنالكم من الله بأخذكم الفداء عذاب عظيم .
ويبدو لنا أن ما ذهب إليه ابن جرير - من أن الآية خبر عام يشمل كل هذه المعانى - أولى بالقبول ، لأنه لم يوجد نص صحيح عن النبى - صلى الله عليه وسلم - يحدد تفسيره المراد من هذا الكتاب السابق في علمه - تعالى - .
ولعل الحكمة في هذا الإبهام لتذهب الأفهام فيه إلى كل ما يحتمله اللفظ ، ويدل عليه المقام ، ولكى يعرفوا أن أهذهم الفداء كان ذنباً يستحقون العقوبة عليه لولا أن الله - تعالى - قدر في الأزل العقو عنهم بسبب وجود النبى - صلى الله عليه وسلم - فيهم ، ولأنهم قد أخطأوا في اجتهادهم ، ولأنهم لم يتقدم لهم نهى عن ذلك ، ولأنهم قد شهدوا هذه الغزوة التي قال الرسول في شأن من حضرها على لسان ربه - عز وجل - : " اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " .
فقد روى الشيخان وغيرهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعرم في قصة حاطب بن أبى بلتعة عند ما أخبر المشركين بأن الرسول سيغزوهم قبل فتح مكة وكان حاطب قد شهد بدراً : " وما يدريك لعل الله - تعالى - اطلع على أهل بدر وقال : " اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " .
والمعنى الإجمالى للآية الكريمة : { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ } أى : لولا حكم من الله - تعالى - سبق منه في الأزل ألا يعذب المخطئ على اجتهاده أو ألا يعذب قوماً قبل تقديم البيان إليهم . . . ولولا كل ذلك { لَمَسَّكُمْ } أي لأصابكم { فِيمَآ أَخَذْتُمْ } أي بسبب ما أخذتم من الفداء قبل أن تؤمروا به { عَذَابٌ عَظِيمٌ } لا يقادر قدره في شدته وألمه .
قال ابن جرير : قال ابن زيد : لم يكن من المؤمنين أحد ممن نصر إلا أحب الغنائم إلا عمر بن الخطاب ، جعل لا يلقى أسيراً إلا ضرب عنقه وقال : يا رسول الله مالنا وللغنائم ؟ نحن قوم نجاهد في دين الله حتى يعبد الله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لو عذبنا في هذا الأمر يا عمر ما نجا غيرك " .
وقال ابن اسحاق : لما نزلت { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ } الآية . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لو نزل عذاب من السماء لم ينج منه إلا سعد بن معاذ لقوله : يا نبى الله ، كان الإِثخان في القتل أحب إلى من استبقاء الرجال " .
وقال بعض العلماء : قال القاضى ، وفى الآية دليل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجتهدون ، وأنه قد يكون خطأ ولكن لا يقرون عليه .
قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عاصم ، عن حميد ، عن أنس ، رضي الله عنه ، قال : استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في الأسارى يوم بدر ، فقال : " إن الله قد أمكنكم منهم " فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله ، اضرب أعناقهم . فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا أيها الناس ، إن الله قد أمكنكم منهم ، وإنما هم إخوانكم بالأمس " . فقام عمر فقال : يا رسول الله ، اضرب أعناقهم . فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم عاد النبي صلى الله عليه وسلم فقال للناس مثل ذلك ، فقام أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه ، فقال : يا رسول الله ، نرى أن تعفو عنهم ، وأن تقبل منهم الفداء . قال : فذهب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم ، فعفا عنهم ، وقبل منهم الفداء . قال : وأنزل الله ، عز وجل : { لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ } الآية{[13149]}
وقد سبق في أول السورة حديث ابن عباس في صحيح مسلم بنحو ذلك .
وقال الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تقولون في هؤلاء{[13150]} الأسارى ؟ " قال : فقال أبو بكر : يا رسول الله ، قومك وأهلك ، استبقهم واستتبهم ، لعل الله أن يتوب عليهم . قال : وقال عمر : يا رسول الله ، أخرجوك ، وكذبوك ، فقدمهم فاضرب أعناقهم . قال : وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله ، أنت في واد كثير الحطب ، فأضرم الوادي عليهم نارًا ، ثم ألقهم فيه . [ قال : فقال العباس : قطعت رحمك ]{[13151]} قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئًا ، ثم قام فدخل فقال ناس : يأخذ بقول أبي بكر . وقال ناس : يأخذ بقول عمر . وقال ناس : يأخذ بقول عبد الله بن رواحة . ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم ، عليه السلام ، قال : { فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ إبراهيم : 36 ] ، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى ، عليه السلام ، قال : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ المائدة : 118 ] ، وإن مثلك يا عمر مثل موسى عليه السلام ، قال : { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 88 ] ، وإن مثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام ، قال : { رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } [ نوح : 26 ] ، أنتم عالة فلا ينفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق " . قال ابن مسعود : قلت : يا رسول الله ، إلا سهيل بن بيضاء ، فإنه يذكر الإسلام ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع عليّ حجارة من السماء مني في ذلك اليوم ، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إلا سهيل بن بيضاء " فأنزل الله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى } إلى آخر الآية .
رواه الإمام أحمد والترمذي ، من حديث أبي معاوية ، عن الأعمش ، والحاكم في مستدركه ، وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه{[13152]} وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه ، عن عبد الله بن عمر ، وأبي هريرة ، رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه{[13153]} وفي الباب عن أبي أيوب الأنصاري .
وروى ابن مردويه أيضا - واللفظ له - والحاكم في مستدركه ، من حديث عبيد الله بن موسى : حدثنا إسرائيل ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : لما أسر الأسارى يوم بدر ، أسر العباس فيمن أسر ، أسره رجل من الأنصار ، قال : وقد أوعدته الأنصار أن يقتلوه . فبلغ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس ، وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه " فقال له عمر : فآتهم ؟ قال : " نعم " فأتى عمر الأنصار فقال لهم : أرسلوا العباس فقالوا : لا والله لا نرسله . فقال لهم عمر : فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضى ؟ قالوا : فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضى فخذه . فأخذه عمر فلما صار في يده قال له : يا عباس ، أسلم ، فوالله لأن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب ، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه إسلامك ، قال : فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر ، فقال أبو بكر : عشيرتك . فأرسلهم ، فاستشار عمر ، فقال : اقتلهم ، ففاداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ }{[13154]} الآية .
قال الحاكم : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه{[13155]}
وقال سفيان الثوري ، عن هشام - هو ابن حسان - عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال : خَيِّر أصحابك في الأسارى : إن شاءوا الفداء ، وإن شاؤوا القتل على أن يقتل منهم مقبلا مثلهم . قالوا : الفداء ويقتل منا .
رواه الترمذي ، والنسائي ، وابن حبان في صحيحه من حديث الثوري ، به{[13156]} وهذا حديث غريب جدا .
وقال ابن عون [ عن محمد بن سيرين ]{[13157]} عن عبيدة ، عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى يوم بدر : " إن شئتم قتلتموهم ، وإن شئتم فاديتموهم واستمتعتم بالفداء ، واستشهد منكم بعدتهم " . قال : فكان آخر السبعين ثابت بن قيس ، قتل يوم اليمامة ، رضي الله عنه{[13158]}
ومنهم من روى هذا الحديث عن عبيدة مرسلا{[13159]} فالله أعلم .
وقال محمد بن إسحاق ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، عن ابن عباس : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى } فقرأ حتى بلغ : { عَذَابٌ عَظِيمٌ } قال : غنائم بدر ، قبل أن يحلها لهم ، يقول : لولا أني لا أعذب من عصاني حتى أتقدم إليه ، لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم .
وكذا روى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد .
وقال الأعمش : سبق منه ألا يعذب أحدا شهد بدرا . وروى نحوه عن سعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن جبير ، وعطاء .
وقال شعبة ، عن أبي هاشم{[13160]} عن مجاهد : { لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ } أي : لهم بالمغفرة ونحوه عن سفيان الثوري ، رحمه الله .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ } يعني : في أم الكتاب الأول أن المغانم والأسارى حلال لكم ، { لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ } من الأسارى { عَذَابٌ عَظِيمٌ } قال الله تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ } الآية . وكذا روى العوفي ، عن ابن عباس . وروي مثله عن أبي هريرة ، وابن مسعود ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والحسن البصري ، وقتادة والأعمش أيضا : أن المراد { لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ } لهذه الأمة بإحلال الغنائم وهو اختيار ابن جرير ، رحمه الله .
ويستشهد لهذا القول بما أخرجاه في الصحيحين ، عن جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت خمسا ، لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة " {[13161]}
وقال الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم تحل الغنائم لسود الرؤوس غيرنا " {[13162]}
ولهذا قال الله تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فعند ذلك أخذوا من الأسارى الفداء .
وقد روى الإمام أبو داود في سننه : حدثنا عبد الرحمن بن المبارك العيشي ، حدثنا سفيان بن حبيب ، حدثنا شعبة ، عن أبي العنبس ، عن أبي الشعثاء ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة{[13163]}
وقد استقر الحكم في الأسرى{[13164]} عند جمهور العلماء : أن الإمام مخير فيهم : إن شاء قتل - كما فعل ببني قريظة - وإن شاء فادى بمال - كما فعل بأسرى بدر - أو بمن أسر من المسلمين - كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الجارية وابنتها اللتين كانتا في سبي سلمة بن الأكوع ، حيث ردهما وأخذ في مقابلتهما من المسلمين الذين كانوا عند المشركين ، وإن شاء استرق من أسر . هذا مذهب الإمام الشافعي وطائفة من العلماء ، وفي المسألة خلاف آخر بين الأئمة مقرر في موضعه من كتب الفقه .
وقوله تعالى : { لولا كتاب من الله سبق } الآية ، قالت فرقة : الكتاب السابق هو القرآن ، والمعنى لولا الكتاب الذي سبق فآمنتم به وصدقتم لمسكم العذاب لأخذكم هذه المفاداة ، وقال سعيد بن جبير ومجاهد والحسن أيضاً وابن زيد : الكتاب السابق هو مغفرة الله لأهل بدر ما تقدم من ذنوبهم أو تأخر ، وقال الحسن وابن عباس وأبو هريرة وغيرهم : الكتاب هو ما كان الله قضاه في الأزل من إحلال الغنائم والفداء لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته وكانت في سائر الأمم محرمة ، وقالت فرقة : الكتاب السابق هو عفو الله عنهم في هذا الذنب معيناً ، وقالت فرقة : الكتاب هو أن الله عز وجل قضى أن لا يعاقب أحداً بذنب أتاه بجهالة ، وهذا قول ضعيف تعارضه مواضع من الشريعة ، وذكر الطبري عن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب أن الكتاب السابق هو أن لا يعذب أحداً بذنب إلا بعد النهي عنه ولم يكونوا نهو بعد ، وقالت فرقة : الكتاب السابق هو ما قضاه الله من محو الصغائر باجتناب الكبائر ، وذهب الطبري إلى دخول هذه المعاني كلها تحت اللفظ وأنه يعمها ، ونكب{[5481]} عن تخصيص معنى دون معنى ، واللام في { لمسكم } جواب { لولا } ، و { كتاب } رفع بالابتداء والخبر محذوف ، وهكذا حال الاسم الذي بعد لولا ، وتقديره عند سيبويه لولا كتاب سابق من الله تدارككم ، وما من قوله { فيما } يراد بها إما الأسرى وإما الفداء ، وهي موصولة ، وفي { أخذتم } ضمير عائد عليها ، ويحتمل أن تكون مصدرية فلا تحتاج إلى العائد ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو نزل في هذا الأمر عذاب لنجا منه عمر بن الخطاب{[5482]} ، وفي حديث آخر وسعد بن معاذ ، وذلك أن رأيهما كان أن يقتل الأسرى{[5483]} .
جملة : { لولا كتاب من الله سبق } إلخ مستأنفة استئنافاً بيانياً ، لأنّ الكلام السابق يؤذن بأنّ مفاداة الأسرى أمر مرهوب تخشى عواقبه ، فيستثير سؤالاً في نفوسهم عمّا يترقّب من ذلك ، فبيّنه قوله : { لولا كتاب من الله سبق } الآية .
والمراد بالكتاب المكتوب ، وهو من الكتابة التي هي التعيين والتقدير ، وقد نكر الكتاب تنكير نوعية وإبهام ، أي : لولا وجود سنّة تشريع سبق عن الله .
وذلك الكتاب هو عذر المستشار وعذر المجتهد في اجتهاده إذا أخطأ ، فقد استشارهم النبي صلى الله عليه وسلم فأشاروا بما فيه مصلحة رأوها وأخذ بما أشاروا به ولولا ذلك لكانت مخالفتهم لما يحبّه الله اجتراء على الله يوجب أن يمسّهم عذاب عظيم .
وهذه الآية تدل على أن لله حكماً في كل حادثة ، وأنه نَصَب على حكمه أمارة هي دليل المجتهد وأن مخطئه من المجتهدين لا يأثم بل يؤجر .
و« في » للتعليل ، والعذاب يجوز أن يكون عذاب الآخرة .
ويجوز أن يكون العذاب المنفي عذاباً في الدنيا ، أي : لولا قدر من الله سبق من لطفه بكم فصرف بلطفه وعنايته عن المؤمنين عذاباً كان من شأن أخذهم الفداء أن يسبّبه لهم ويوقعهم فيه . وهذا العذاب عذاب دنيوي ، لأنّ عذاب الآخرة لا يترتّب إلاّ على مخالفة شرع سابق ، ولم يسبق من الشرع ما يحرّم عليهم أخذ الفداء ، كيف وقد خيّروا فيه لمّا استشيروا ، وهو أيضاً عذاب من شأنه أن يجرّه عملهم جرّ الأسباب لمسبباتها ، وليس عذابَ غضب من الله ، لأنّ ذلك لا يترتّب إلاّ على معاص عظيمة ، فالمراد بالعذاب أنّ أولئك الأسرى الذين فادَوهم كانوا صناديد المشركين وقد تخلّصوا من القتل والأسر يحملون في صدورهم حنقاً فكان من معتاد أمثالهم في مثل ذلك أن يسعَوا في قومهم إلى أخذ ثار قتلاهم واسترداد أموالهم فلو فعلوا لكانت دائرة عظيمة على المسلمين ، ولكنّ الله سَلَّم المسلمين من ذلك فصرف المشركين عن محبّة أخذ الثأر ، وألهاهم بما شغلهم عن معاودة قتال المسلمين ، فذلك الصرف هو من الكتاب الذي سبق عند الله تعالى .
وقد حصل من هذه الآية تحذير المسلمين من العودة للفداء في مثل هذه الحالة ، وبذلك كانت تشريعاً للمستقبل كما ذكرناه آنفاً .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
... {لولا كتاب من الله سبق} في تحليل الغنائم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في علمه في اللوح المحفوظ، ثم خالفتم المؤمنين من قبلكم، {لمسكم}، يعني لأصابكم {فيما أخذتم} من الغنيمة {عذاب عظيم}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لأهل بدر الذين غنموا وأخذوا من الأسرى الفداء:"لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَط يقول: لولا قضاء من الله سبق لكم أهل بدر في اللوح المحفوظ بأن الله محلّ لكم الغنيمة، وأن الله قضى فيما قضى أنه لا يضلّ قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون، وأنه لا يعذّب أحدا شهد المشهد الذي شهدتموه ببدر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصرا دين الله لنالكم من الله بأخذكم الغنيمة والفداء" عذاب عظيم".
... عن الحسن، في قول اللّه: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ... "وذلك يوم بدر، أخذ أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم المغانم والأسارى قبل أن يؤمروا به، وكان الله تبارك وتعالى قد كتب في أمّ الكتاب المغانم والأسارى حلال لمحمد وأمته، ولم يكن أحله لأمة قبلهم. وأخذوا المغانم، وأسروا الأسارى قبل أن ينزل إليهم في ذلك، قال الله: "لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ "يعني في الكتاب الأوّل أن المغانم والأسارى حلال لكم "لمسّكُمْ فِيما أخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ"...
وقال آخرون: معنى ذلك: لولا كتاب من الله سبق لأهل بدر أن لا يعذبهم لمسهم عذاب عظيم...
وقال آخرون: معنى ذلك: لولا كتاب من الله سبق أن لا يؤاخذ أحدا بفعل أتاه على جهالة، لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم... حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد، قال: ثني أبو جعفر محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نُصِرْتُ بالرّعْبِ وَجُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِدا وَطَهُورا، وأُعْطِيتُ جَوَامِعَ الكَلِمِ، وأُحِلّتْ لِيَ المَغانِمُ ولَمْ تَحِلّ لِنَبِيَ كانَ قَبْلِي، وأُعْطِيتُ الشّفاعَةَ، خَمْسٌ لَمْ يُؤتَهُنّ نَبِيّ كانَ قَبْلِي»... وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما قد بيناه قبل، وذلك أن قوله: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللّهِ سَبَقَ خبر عام غير محصور على معنى دون معنى. وكل هذه المعاني التي ذكرتها عمن ذكرت مما قد سبق في كتاب الله أنه لا يؤاخذ بشيء منها هذه الأمة، وذلك ما عملوا من عمل بجهالة، وإحلال الغنيمة والمغفرة لأهل بدر، وكل ذلك مما كتب لهم. وإذ كان ذلك كذلك فلا وجه لأن يخصّ من ذلك معنى دون معنى، وقد عمّ الله الخبر بكل ذلك بغير دلالة توجب صحة القول بخصوصه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَّوْلاَ كتاب مّنَ الله سَبَقَ} لولا حكم منه سبق إثباته في اللوح وهو أنه لا يعاقب أحد بخطأ، وكان هذا خطأ في الاجتهاد؛ لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سبباً في إسلامهم وتوبتهم، وأن فداءهم يتقوى به على الجهاد في سبيل الله، وخفي عليهم أن قتلهم أعز للإسلام وأهيب لمن وراءهم وأفل لشوكتهم.
...، ولم يتقدم نهي عن ذلك {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ} روي: أنهم أمسكوا عن الغنائم ولم يمدّوا أيديهم إليها، فنزلت. وقيل: هو إباحة للفداء، لأنه من جملة الغنائم {واتقوا الله} فلا تقدموا على شيء لم يعهد إليكم فيه
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي كِتَابِ اللَّهِ السَّابِقِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: سَبَقَ من اللَّهِ أَلَّا يُعَذِّبَ قَوْمًا حَتَّى يَتَقَدَّمَ إلَيْهِمْ.
الثَّانِي: سَبَقَ مِنْهُ أَلَّا يُعَذِّبَهُمْ وَمُحَمَّدٌ فِيهِمْ.
الثَّالِثُ: سَبَقَ مِنْهُ إحْلَالُ الْغَنَائِمِ لَهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ اسْتَعْجَلُوا قَبْلَ الْإِحْلَالِ، وَهَذَا كُلُّهُ مُمْكِنٌ صَحِيحٌ، لَكِنَّ أَقْوَاهُ مَا سَبَقَ من إحْلَالِ الْغَنِيمَةِ...
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
وحاصل المعنى: أن ما فعلتم أمر عظيم في نفسه مستوجب للعذاب العظيم لكن الذي تسبب العفو عنه ومنع ترتب العذاب عليه أني سأحله قريباً لكم، ومثل ذلك نظراً إلى رحمتي التي سبقت غضبي يصير سبباً للعفو ومانعاً عن العذاب...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
... ومعنى الآية: لولا كتاب من الله سبق في علمه الأزلي أو في أم الكتاب أو في القرآن الكريم يقتضي أن لا يعذبهم في هذا الذنب، أو أن لا يعذبكم عذابا عاما، والرسول فيكم، وأنتم تستغفرونه من ذنوبكم، لمسكم فيما أخذتم من الفداء عذاب عظيم، أي بسببه... وورد في معنى الآية والكتاب الذي سبق روايات وآراء تدل على أنه مما أبهم لتذهب الأفهام إلى كل ما يحتمله اللفظ ويدل عليه المقام منها.
أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه من طريق نافع عن ابن عمر قال اختلف الناس في أسارى بدر فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أبار بكر وعمر فقال أبو بكر فادهم وقال عمر اقتلهم قال قائل أرادوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهدم الإسلام ويأمره أبو بكر بالفداء، وقال قائل لو كان فيهم أبو عمر أو أخوه ما أمر بقتلهم فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر ففاداهم فأنزل الله {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} فقال رسول صلى الله عليه وسلم: (إن كاد ليمسنا في خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت إلا عمر).
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال لم يكن من المؤمنين أحد ممن نصر إلا أحب الغنائم إلا عمر بن الخطاب جعل لا يلقى أسيرا إلا ضرب عنقه وقال يا رسول الله ما لنا وللغنائم نحن قوم نجاهد في دين الله حتى يعبد الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لو عذبنا في الأمر يا عمر ما نجا غيرك قال الله لا تعودوا تستحلون قبل أن أحل لكم) وأخرج عن ابن إسحاق لما نزلت {لولا كتاب من الله سبق} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لو نزل عذاب من السماء لم ينج منه إلا سعد بن معاذ لقوله: يا نبي الله كان الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال).
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى} قال ذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله في الأسارى {فإما منا بعد وإما فداء} [محمد:4] فجعل الله النبي والمؤمنين في أمر الأسرى بالخيار: إن شاؤوا قتلوهم وإن شاؤوا استعبدوهم وإن شاؤوا فادوهم (أقول ولم يذكر الثالثة وهي المن عليهم بإعتاقهم وإطلاق سراح أسرهم) وفي قوله: {لولا كتاب من الله سبق} يعني في الكتاب الأول أن المغانم والأسارى حلال لكم {لمسكم فيما أخذتم} من الأسارى {عذاب عظيم * فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا} قال وكان الله قد كتب في أم الكتاب المغانم والأسارى حلال لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته ولم يكن أحله لأمة قبلهم، وأخذوا المغانم وأسروا الأسارى قبل أن ينزل إليهم في ذلك.
وروى ابن المنذر وأبو الشيخ عنه {لولا كتاب من الله سبق} قال: سبقت لهم من الله الرحمة قبل أن يعملوا بالمعصية، اه. والظاهر أن المراد بذلك أهل بدر خاصة فقد ورد في الصحيحين وغيرهما ما يثبت أن الله تعالى قد غفر لأهل بدر كقوله صلى الله عليه وسلم لعمر حين استأذنه بقتل حاطب بن أبي بلتعة (أليس من أهل بدر؟ لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة أو فقد غفرت لكم) وفي رواية« وما يدريك؟ لعل الله اطلع على أهل بدر» الخ وهذا تمثيل وتصوير لمغفرة الله وليس أمرا إباحيا أمر الله رسوله أن يبلغهم إياه بل هو أشبه بأمر التكوين والتقدير منه بأمر التكليف، وقال بعض العلماء إنه للتشريف والتكريم، واتفقوا على أن البشارة المذكورة خاصة بأحكام الآخرة لا بأحكام الدنيا من إقامة الحدود ونحوها وقد ورد أن واحدا منهم شرب الخمر فحده عمر رضي الله عنه.
وروى ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: {لولا كتاب من الله سبق} قال في أنه لا يعذب أحدا حتى يبين له ويتقدم إليه.
وقال ابن جرير في الآية: لولا قضاء من الله سبق لكم أهل بدر في اللوح المحفوظ بأنه محل لكم الغنيمة وأن الله قضى فيما قضى أنه لا يضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون وأنه لا يعذب أحدا شهد المشهد الذي شهدتموه ببدر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصرا دين الله لنالكم من الله بأخذكم الغنيمة والفداء عذاب عظيم. اه ثم ذكر رواياته في هذه الوجوه وصوب إرادتها كلها.
وهذا خلط بين الغنائم وفداء الأسرى وإشراك بين تفسير هذه الآية وتفسير الآية التي بعدها. واختار ابن كثير الجمع بينهما وفاقا لابن جرير والأظهر المختار أن مسألة الفداء غير مسألة الغنائم فإن الغنائم أحلت في أول هذه السورة وفي أول هذا الجزء منها.
وقال بعض العلماء إن الذي سبق في كتاب الله أي في حكمه أوفي علمه هو أن المجتهد إذا أخطأ لا يعاقب بل يثاب على اجتهاده وإذا كان نبيا لا يقره الله على خطئه بل يبينه له ويبين له ما كان من شأنه أن يترتب عليه من العقاب لولا الاجتهاد وحسن النية...
وقد أشرنا آنفا إلى احتمال تفسير الكتاب الذي سبق بقوله تعالى في هذه السورة {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} [الأنفال: 33] وقد تقدم تفسيره وهو وإن كان قد نزل في المشركين أولى أن يكون للمؤمنين أو هم أحق به وأولى، وهل يصح أن يمتنع نزول العذاب بالمشركين وفيهم نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم وهم يؤذونه ويصدون عنه، ولا يمتنع نزوله بالمؤمنين به الناصرين له وهو فيهم وهم يستغفرونه تعالى حق الاستغفار لتوحيدهم إياه وعدم إشراكهم أحدا ولا شيئا في عبادته؟ ولا أذكر أنني رأيته لأحد على شدة ظهوره، وتألق نوره، ولكنه خاص بعذاب الاستئصال، ومن البعيد جدا أن يكون هو المراد أو يشمل كل عذاب عام كما يشير إليه روايات استثناء عمر وسعد رضي الله عنها، ويصح تسمية هذا كتابا بمعنى كونه قضاء سبق وكتب في أم الكتاب، أو بمعنى أنه تعالى كتبه على نفسه كما قال {كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم} [الأنعام:54]. وقد فسر بعضهم الكتاب الذي سبق بهذه الرحمة بناء على أنهم يتوبون مما ذكر بعد إنكاره عليهم، ويلحون عملهم بما يذهب بتأثيره من أنفسهم، وكذلك كان.
ويجوز أن يكون المراد بالكتاب الذي سبق ما قضاه الله تعالى وقدره من أعمال هؤلاء الأسرى وإيمان أكثرهم. والمختار عندنا وفاقا لما ذهب إليه ابن جرير هو جواز إرادة كل ما يحتمله اللفظ من المعاني التي ذكر بعضها في رواياته وأن هذا سبب تنكيره وإبهامه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والمراد بالكتاب المكتوب، وهو من الكتابة التي هي التعيين والتقدير، وقد نكر الكتاب تنكير نوعية وإبهام، أي: لولا وجود سنّة تشريع سبق عن الله.
وذلك الكتاب هو عذر المستشار وعذر المجتهد في اجتهاده إذا أخطأ، فقد استشارهم النبي صلى الله عليه وسلم فأشاروا بما فيه مصلحة رأوها وأخذ بما أشاروا به ولولا ذلك لكانت مخالفتهم لما يحبّه الله اجتراء على الله يوجب أن يمسّهم عذاب عظيم. وهذه الآية تدل على أن لله حكماً في كل حادثة، وأنه نَصَب على حكمه أمارة هي دليل المجتهد وأن مخطئه من المجتهدين لا يأثم بل يؤجر. وقد حصل من هذه الآية تحذير المسلمين من العودة للفداء في مثل هذه الحالة، وبذلك كانت تشريعاً للمستقبل كما ذكرناه آنفاً.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وقوله تعالى: {فيما أخذتم} من المال يوهم أن أخذ المال وحده هو السبب في هذا العقاب، والحقيقة أن ذلك جزء من السبب وإن لم يكن جوهر السبب؛ لأن السبب الأصلي هو أخذ الأسرى، وتبع هذا الأخذ إن اختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ الفداء تيسيرا عليهم، واستبقاء لهم عسى أن يتوبوا، وقد دخل في الإسلام أكثرهم واستمر على الكفر أقلهم، والتيسير في الدعوة مطلوب لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمجاهدين: (يسروا ولا تعسروا ولا تنفروا).