63- وجمع بينهم على المحبة بعد التفرق والتعادي ، فأصبحوا ملتقين حولك ، باذلين أرواحهم وأموالهم في سبيل دعوتك ، وإنك لو أنفقت جميع ما في الأرض من الأموال والمنافع - في سبيل هذا التأليف - لما أمكنك أن تصل إليه ، لأن القلوب بيد اللَّه ، ولكن اللَّه ألفَّ بينهم ، بهدايتهم إلى الإيمان والمحبة والإخاء ، وإنه تعالى قوى غالب ، يدبر أمر العباد على مقتضى ما ينفعهم .
{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ْ } فاجتمعوا وائتلفوا ، وازدادت قوتهم بسبب اجتماعهم ، ولم يكن هذا بسعي أحد ، ولا بقوة غير قوة اللّه ، فلو أنفقت ما في الأرض جميعا من ذهب وفضة وغيرهما لتأليفهم بعد تلك النفرة والفرقة الشديدة { مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ْ } لأنه لا يقدر على تقليب القلوب إلا اللّه تعالى .
{ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ْ } ومن عزته أن ألف بين قلوبهم ، وجمعها بعد الفرقة كما قال تعالى : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ْ }
ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر فضله في كيفية تأييده لرسوله بالمؤمنين فقال - تعالى - : { وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } .
أى : أن من مظاهر فضل الله عليك يا محمد أن أيدك - سبحانه - بنصره وأن أيدك بالمؤمنين ، بأن حبب إليهم الإِيمان وزينه في قلوبهم ، وجعل منهم قوة موحدة ، فصاروا بفضله - تعالى - كالنفس الواحدة ، بعد أن كانوا متنازعين متفرقين وأنت يا محمد { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً } من الذهب والفضة وغيرهما ما استطعت أن تؤلف بين قلوبهم المتنافرة المتنازعة { ولكن الله } بفضله وقدرته هو وحده الذي { أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } فصاروا إخواناً متحابين متصافين { إِنَّهُ } - سبحانه - { عَزِيزٌ } أى : غالب في ملكه وسلطانه على كل ظاهر وباطن { حَكِيمٌ } في كل أفعاله وأحكامه .
وهذه الآية الكريمة يؤديها التاريخ ، ويشهد بصدقها أحداثه ، فنحن نعلم أن العرب - وخصوصاً الأوس والخزرج - كانوا قبل الإِسلام في حالة شديدة من التفرق والتخاصم والتنزاع والتحارب . . فلما دخلوا في الإِسلام تحول بغضهم إلى حب ، وتخاصمهم إلى مودة ، وتفرقهم إلى اتحاد . . وصاروا في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ، إلى مستوى لم يعرفه التاريخ من قبل . .
ولقد أجاد صاحب الكشاف - رحمه الله - في تصويره لهذه المعانى حيث قال : " التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الآيات الباهرة ، لأن العرب - لما فيهم من الحمية والعصبية ، والانطواء على الضغينة . . لا يكاد يأتلف منهم قلبان ، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واتحدوا ، وأنشأوا يرمون عن قوس واحدة ، وذلك لما نظم الله من ألفتهم ، وجمع من كلمتهم ، وأحدث بينهم من التحاب والتواد ، وأماط عنهم من التباغض والتماقت ، وكلفهم من الحب ، في الله والبغض في الله ، ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب ، فهو يقلبها كيف يشاء ، ويصنع فيها ما يريد .
قيل : هم الأوس والخزرج ، كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم ، ودق جماجمهم . ولم يكن لبغضائهم أمد ومنتهى . وبينهم الثأر الذي يهيج الضغائن ، ويديم التحاسد والتنافس . وعادة كل طائفتين كانتا بهذه الماثبة أن تتجنب هذه ما ىثرته أختها ، وتكرهه وتنفر منه .
فأنساهم الله - تعالى - ذلك كله ، حتى اتفقوا على الطاعة ، وتصافوا وصاروا أنصاراً ، وعادوا أعواناً ، وما ذاك إلا بلطيف صنعه ، وبليغ قدرته " . هذا ، وفى الصحيحين " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خطب الأنصار في شأن غنائم " حنين " قال لهم : يا معشر الأنصار ! ! ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بى ؛ وعالة فأغناكم الله بى ؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بى ؟ فكانوا يقولون كلما قال شيئا : الله ورسوله أعلم " .
وروى الحاكم أن ابن عباس كان يقول : إن الرحم لقتطع ، وإن النعمة لتنكر ، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شئ . ثم يقرأ قوله - تعالى - : { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } .
( وألف بين قلوبهم ، لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ، ولكن الله ألف بينهم ، إنه عزيز حكيم )
ولقد وقعت المعجزة التي لا يقدر عليها إلا الله ، والتي لا تصنعها إلا هذه العقيدة ؛ فاستحالت هذه القلوب النافرة ، وهذه الطباع الشموس ، إلى هذه الكتلة المتراصة المتآخية الذلول بعضها لبعض ، المحب بعضها لبعض ، المتآلف بعضها مع بعض ، بهذا المستوى الذي لم يعرفه التاريخ ؛ والذي تتمثل فيه حياة الجنة وسمتها البارزة - أو يمهد لحياة الجنة وسمتها البارزة - : ونزعنا ما في قلوبهم من غل إخواناً على سرر متقابلين .
إن هذه العقيدة عجيبة فعلاً . إنها حين تخالط القلوب ، تستحيل إلى مزاج من الحب والألفة ومودات القلوب ، التي تلين جاسيها ، وترقق حواشيها ، وتندي جفافها ، وتربط بينها برباط وثيق عميق رفيق . فإذا نظرة العين . ولمسة اليد ، ونطق الجارحة ، وخفقة القلب ، ترانيم من التعارف والتعاطف ، والولاء والتناصر ، والسماحة والهوادة ، لا يعرف سرها إلا من ألف بين هذه القلوب ؛ ولا تعرف مذاقها إلا هذه القلوب !
وهذه العقيدة تهتف للبشرية بنداء الحب في الله ؛ وتوقع على أوتارها ألحان الخلوص له والالتقاء عليه ، فإذا استجابت وقعت تلك المعجزة التي لا يدري سرها إلا الله ولا يقدر عليها إلا الله .
يقول رسول الله [ ص ] : " إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى " قالوا : يا رسول الله تخبرنا من هم . قال : " هم قوم تحابوا بروح الله بينهم ، على غير أرحام بينهم ، ولا أموال يتعاطونها ، والله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور . لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس " . . [ أخرجه أبو داود ] .
ويقول [ ص ] : " إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم ، فأخذ بيده تحاتت عنهما ذنوبهما كما تتحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحار " . . [ رواه الطبراني ] .
وتتوارد أقوال الرسول تترى في هذا الباب ؛ وتشهد أعماله بأصالة هذا العنصر في رسالته [ ص ] ؛ كما تشهد الأمة التي بناها على الحب أنها لم تكن مجرد كلمات مجنحة ، ولا مجرد أعمال مثالية فردية ؛ إنما كانت واقعاً شامخاً قام على هذا الأساس الثابت ، بإذن الله ، الذي لا يقدر على تأليف القلوب هكذا سواه .
ولو كانوا يريدون بالصلح خديعة ليتقووا ويستعدوا ، { فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ } أي : كافيك وحده .
ثم ذكر نعمته عليه بما أيده به من المؤمنين المهاجرين والأنصار ؛ فقال : { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } أي : جمعها على الإيمان بك ، وعلى طاعتك ومناصرتك وموازرتك { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } أي : لما كان بينهم من العداوة والبغضاء فإن الأنصار كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية ، بين الأوس والخزرج ، وأمور يلزم منها التسلسل في الشر ، حتى قطع الله ذلك بنور الإيمان ، كما قال تعالى : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } [ آل عمران : 103 ] .
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب الأنصار في شأن غنائم حنين قال لهم : " يا معشر الأنصار ، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ، وعالة فأغناكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي " كلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أَمَنَّ . {[13127]}
ولهذا قال تعالى : { وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : عزيز الجناب ، فلا يخيب رجاء من توكل عليه ، حكيم في أفعاله وأحكامه .
قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أنبأنا علي بن بشر الصيرفي القزويني في منزلنا ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن الحسن{[13128]} القنديلي الإستراباذي ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن النعمان الصفار ، حدثنا ميمون بن الحكم ، حدثنا بكر بن الشرود ، عن محمد بن مسلم الطائفي ، عن إبراهيم بن ميسرة ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : قرابة الرحم تقطع ، ومنة النعمة تكفر ، ولم ير مثل تقارب القلوب ؛ يقول الله تعالى : { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } وذلك موجود في الشعر : إذا مَتَّ ذو القربى إليك برحمه فَغَشَّك واستَغْنى فليس بذي رحم
ولكن ذا القربى الذي إن دعوته أجاب ومن يرمي العدو الذي ترمي
ولقد صحبت الناس ثم سبرتهم *** وبلوت ما وصلوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تُقَرّب قاطعا *** وإذا المودة أَقْرَبُ الأسْبَاب
قال البيهقي : لا أدري هذا موصول بكلام ابن عباس ، أو هو من قول من دونه من الرواة ؟{[13129]}
وقال أبو إسحاق السبيعي ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، سمعته يقول : { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } الآية ، قال : هم المتحابون في الله ، وفي رواية : نزلت في المتحابين في الله .
رواه النسائي والحاكم في مستدركه ، وقال : صحيح{[13130]}
وقال عبد الرازق : أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : إن الرحم لتقطع ، وإن النعمة لتكفر ، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء ، ثم قرأ : { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ }
وقال أبو عمرو الأوزاعي : حدثني عبدة بن أبي لُبَابة ، عن مجاهد - ولقيته فأخذ بيدي فقال : إذا تراءى المتحابان في الله ، فأخذ أحدهما بيد صاحبه ، وضحك إليه ، تحاتت خطاياهما كما يتحات ورق الشجر . قال عبدة : فقلت له : إن هذا ليسير ! فقال : لا تقل ذلك ؛ فإن الله تعالى يقول : { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } ! . قال عبدة : فعرفت أنه أفقه مني{[13131]}
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن يمان{[13132]} عن إبراهيم الخوزي{[13133]} عن الوليد بن أبي مغيث ، عن مجاهد قال : إذا التقى المسلمان فتصافحا غفر لهما ، قال : قلت لمجاهد : بمصافحة يغفر لهما ؟ فقال مجاهد : أما سمعته يقول : { لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } ؟ فقال الوليد لمجاهد : أنت أعلم مني .
وكذا روى طلحة بن مُصَرِّف ، عن مجاهد .
وقال ابن عون ، عن عمير بن إسحاق قال : كنا نحدث{[13134]} أن أول ما يرفع من الناس - [ أو قال : عن الناس ]{[13135]} - الألفة .
وقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني ، رحمه الله : حدثنا الحسين بن إسحاق التستري ، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا سالم بن غيلان ، سمعت جعدا أبا عثمان ، حدثني أبو عثمان النهدي ، عن سلمان الفارسي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم ، فأخذ بيده ، تحاتت عنهما ذنوبهما ، كما يتحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف ، وإلا غفر لهما ولو كانت ذنوبهما مثل زبد البحار{[13136]} {[13137]}
الضمير في قوله { وإن يريدوا } عائد على الكفار الذين قيل فيهم ، { وإن جنحوا } [ الأنفال : 61 ] وقوله : { وإن يريدوا أن يخدعوك } يريد بأن يظهروا له السلم ويبطنوا الغدر والخيانة ، أي فاجنح وما عليك من نياتهم الفاسدة ، { فإن حسبك الله } أي كافيك ومعطيك نصرة وإظهاراً ، وهذا وعد محض ، و { أيدك } معناه قواك ، { وبالمؤمنين } يريد بالأنصار بقرينة قوله { وألف بين قلوبهم } الآية ، وهذه إشارة إلى العداوة التي كانت بين الأوس والخزرج في حروب بعاث فألف الله تعالى قلوبهم على الإسلام وردهم متحابين في الله ، وعددت هذه النعمة تأنيساً لمحمد صلى الله عليه وسلم ، أي كما لطف بك ربك أولاً فكذلك يفعل آخراً ، وقال ابن مسعود : نزلت هذه الآية في المتحابين في الله إذا تراءى المتحابان فتصافحا وتضاحكا تحاتت خطاياهما ، فقال له َعْبَدة بن أبي لبابة إن هذا ليسير ، فقال له لا تقل ذلك فإن الله يقول { لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم } قال عبدة : فعرفت أنه أفقه مني .
قال القاضي أبو محمد : وهذا كله تمثل حسن بالآية لا أن الآية نزلت في ذلك بل تظاهرت أقوال المفسرين أنها في الأوس والخزرج كما ذكرنا ، ولو ذهب إلى عموم المؤمنين في المهاجرين والأنصار وجعل التأليف ما كان من جميعهم من التحاب حتى تكون ألفة الأوس والخزرج جزءاً من ذلك لساغ ذلك ، وكل تآلف في الله فتابع لذلك التآلف الكائن في صدر الإسلام ، وقد روى سهل بن سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : «المؤمن مألفة ، لا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف »{[5458]} .
قال القاضي أبو محمد : والتشابه هو سبب الألفة فمن كان من أهل الخير ألف أشباهه وألفوه .
التأليف بين قلوب المؤمنين مِنّة أخرى على الرسول ، إذ جعَل أتباعه متحابّين وذلك أعون له على سياستهم ، وأرجى لاجتناء النفع بهم ، إذ يكونون على قلب رجل واحد ، وقد كان العرب يفضلون الجيش المؤلف من قبيلة واحدة ، لأنّ ذلك أبعد عن حصول التنازع بينهم .
وهو أيضاً منة على المؤمنين إذ نزع من قلوبهم الأحقاد والإحن ، التي كانت دأب الناس في الجاهلية ، فكانت سبب التقاتل بين القبائل ، بعضها مع بعض ، وبين بطون القبيلة الواحدة . وأقوالهم في ذلك كثيرة . ومنها قول الفضل بن العبّاس اللهَبي :
مَهْلاً بني عمّنا مهلاً موالينا *** لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
اللَّه يعلم أنّا لا نحبكمـــو *** ولا نلومكمو أنْ لا تحبونـا
فلمّا آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم انقلبت البغضاء بينهم مودّة ، كما قال تعالى : { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا } [ آل عمران : 103 ] ، وما كان ذلك التآلف والتحابّ إلاّ بتقدير الله تعالى فإنّه لم يحصل من قبل بوشائِج الأنساب ، ولا بدعوات ذوي الألباب .
ولذلك استأنف بعدَ قوله : { وألف بين قلوبهم } قوله : { لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم } استئنافا ناشئاً عن مساق الامتنان بهذا الائتلاف ، فهو بياني ، أي : لو حاولت تأليفهم ببذل المال العظيم ما حصل التآلف بينهم .
فقوله : { ما في الأرض جميعاً } مبالغة حسنة لوقوعها مع حرف ( لو ) الدالّ على عدم الوقوع . وأمّا ترتّب الجزاء على الشرط فلا مبالغة فيه ، فكان التأليف بينهم من آيات هذا الدين ، لما نظّم الله من ألفتهم ، وأماط عنهم من التباغض . ومن أعظم مشاهد ذلك ما حدث بين الأوس والخزرج من الإحن قبل الإسلام ممّا نشأت عنه حرب بُعاث بينهم ، ثم أصبحوا بعد حين إخواناً أنصاراً لله تعالى ، وأزال الله من قلوبهم البغضاءِ بينهم .
و { جميعاً } منصوباً على الحال من { ما في الأرض } وهو اسم على وزن فعيل بمعنى مجتمع ، وسيأتي بيانه عند قوله تعالى : { فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون } في سورة [ هود : 55 ] .
وموقع الاستدراك في قوله : { ولكن الله ألف بينهم } لأجل ما يتوهّم من تعذّر التأليف بينهم في قوله : { لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم } أي ولكن تكوين الله يلين به الصلب ويحصل به المتعذر .
والخطاب في { أنفقت } و { ألَّفت } للرسول صلى الله عليه وسلم باعتبار أنّه أول من دعا إلى الله . وإذْ كان هذا التكوين صنعاً عجيباً ذَيّل الله الخبر عنه بقوله : { إنه عزيز حكيم } أي قوي القدرة فلا يعجزه شيء ، محكم التكوين فهو يكوّن المتعذر ، ويجعله كالأمر المسنون المألوف .
والتأكيد ب« إنَّ » لمجرّد الاهتمام بالخبر باعتبار جعله دليلاً على بديع صنع الله تعالى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر الأنصار، فقال: {وألف بين قلوبهم} بعد العداوة التي كانت بينهم، فقال: {لو أنفقت} يا محمد على أن تؤلف بين قلوبهم {ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم}... بالإسلام، {إنه عزيز}، يعنى منيع في ملكه، {حكيم} في أمره، حكم الألفة بين الأنصار بعد العداوة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يريد جلّ ثناؤه بقوله:"وألّفَ بينَ قُلُوِبهِمْ" وجمع بين قلوب المؤمنين من الأوس والخزرج بعد التفرّق والتشتت على دينه الحقّ، فصيرهم به جميعا بعد أن كانوا أشتاتا، وإخوانا بعد أن كانوا أعداء.
وقوله: "لَوْ أنْفَقْتَ ما فِي الأرْضِ جَمِيعا ما ألّفْتَ بينَ قُلُوِبهِمْ "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لو أنفقت يا محمد ما في الأرض جميعا من ذهب وورق وعرض، ما جمعت أنت بين قلوبهم بحيلك، ولكن الله جمعها على الهدى، فائتلفت واجتمعت تقوية من الله لك وتأييدا منه ومعونة على عدوّك. يقول جلّ ثناؤه: والذي فعل ذلك وسببه لك حتى صاروا لك أعوانا وأنصارا ويدا واحدة على من بغاك سوءا هو الذي إن رام عدوّ منك مراما يكفيك كيده وينصرك عليه، فثق به وامض لأمره وتوكل عليه...
وقوله: "إنّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" يقول: إن الله الذي ألف بين قلوب الأوس والخزرج بعد تشتت كلمتهما وتعاديهما وجعلهم لك أنصارا "عزيز" لا يقهره شيء ولا يردّ قضاءه رادّ، ولكنه ينفذ في خلقه حكمه. يقول: فعليه فتوكل، وبه فثق، "حَكِيمٌ" في تدبير خلقه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أخبر أنهم كانوا أعداء ما داموا في الكفر، فلما أسلموا صاروا إخوانا. فإن كان الخلاف والعداوة بينهم بسبب الدين فإنه إذا وجد الوفاق ارتفع الخلاف والعداوة، وإذا كان للأطماع فهو يرتفع باللطف من الله...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات الباهرة، لأنّ العرب -لما فيهم من الحمية والعصبية، والانطواء على الضغينة في أدنى شيء وإلقائه بين أعينهم إلى أن ينتقموا- لا يكاد يأتلف منهم قلبان، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتحدوا، وأنشأوا يرمون عن قوس واحدة، وذلك لما نظم الله من ألفتهم وجمع من كلمتهم، وأحدث بينهم من التحاب والتوادّ، وأماط عنهم من التباغض والتماقت، وكلفهم من الحب في الله والبغض في الله، ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب، فهو يقلبها كما شاء، ويصنع فيها ما أراد، وقيل: هم الأوس والخزرج، كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤسائهم ودق جماجمهم، ولم يكن لبغضائهم أمد ومنتهى، وبينهما التجاور الذي يهيج الضغائن ويديم التحاسد والتنافس، وعادة كل طائفتين كانتا بهذه المثابة أن تتجنب هذه ما آثرته أختها وتكرهه وتنفر عنه، فأنساهم الله تعالى ذلك كله حتى اتفقوا على الطاعة وتصافوا وصاروا أنصاراً وعادوا أعواناً، وما ذاك إلا بلطيف صنعه وبليغ قدرته.
لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :
{إنه عزيز حكيم} يعني أنه تعالى قادر قاهر يمكنه التصرف في القلوب فيقلبها من العداوة إلى المحبة ومن النفرة إلى الألفة وكل ذلك على وجه الحكمة والصواب.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
"وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ" أي: جمعها على الإيمان بك، وعلى طاعتك ومناصرتك وموازرتك {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أي: لما كان بينهم من العداوة والبغضاء فإن الأنصار كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية، بين الأوس والخزرج، وأمور يلزم منها التسلسل في الشر، حتى قطع الله ذلك بنور الإيمان.
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب الأنصار في شأن غنائم حنين قال لهم: "يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي" كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أَمَنَّ. ولهذا قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي: عزيز الجناب، فلا يخيب رجاء من توكل عليه، حكيم في أفعاله وأحكامه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
والذي أمدك بهذه الألطاف حي لا يموت باق على ما كان عليه من القدرة والقوة، فهو الكفيل بحراستك ممن يريد خداعك، فإذا أمركم بأمر فامتثلوه غير مفكرين في عاقبته، فإنه قد بينه بعزته وأتقنه بحكمته وستعلمون.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم} يعني أنه لولا نعمة الله عليهم بالإيمان، وأخوته التي هي أقوى عاطفة ومودة من أخوة الأنساب والأوطان، لما أمكنك يا محمد أن تؤلف بين قلوبهم بالمنافع الدنيوية، ولو أنفقت جميع ما في الأرض من الأموال والمنافع في سبيل هذا التأليف، أما الأنصار فلأن الأضغان الموروثة، وأوتار الدماء المسفوكة، وحمية الجاهلية الراسخة، لا تزول بالأعراض الدنيوية العارضة، وإنما تزول بالإيمان الصادق الذي هو مناط سعادة الدنيا والآخرة، وأما المهاجرون فلأن التأليف بين غنيهم وفقيرهم وسادتهم ومواليهم وأشرافهم ودهمائهم على ما كان فيهم من كبرياء الجاهلية وجمع كلمتهم على احتمال عداوة بيوتهم وعشائرهم وحلفائهم في سبيل الله لم يكن كله مما يمكن نيله بالمال وآمال الدنيا... وقد ختم الله تعالى هذه الآية بقوله: {إنه عزيز حكيم} لأنه تعليل لكفاية الله لرسوله شر خداع الأعداء، وتأييده بنصره وبالمؤمنين، لا للتأليف بين المؤمنين، فإن العمدة في الكلام هو الكفاية والتأييد، وهو المناسب لكونه تعالى هو العزيز أي الغالب على أمره الذي لا يغلبه خداع الخادعين، ولا كيد الماكرين، الحكيم في أفعاله كنصره الحق على الباطل، وفي أحكامه كتفضيله الجنوح للسلم إذا جنح إليها العدو على الحرب كما تقدم ولو كان تعليلا للتأليف بين المؤمنين وحده لكان الأنسب أن يعلل بقوله «إنه رؤوف رحيم» على أن هذا التأليف في هذا المقام ما كان إلا بعزة الله وحكمته في إقامة هذا الدين...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
وفي الآية إيماء إلى أن النصر يُنال بالأسباب التي من أهمها التآلف والاتحاد بفضل مقَدر الأسباب ورحمته بالعباد.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وألف بين قلوبهم، لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم، إنه عزيز حكيم)
ولقد وقعت المعجزة التي لا يقدر عليها إلا الله، والتي لا تصنعها إلا هذه العقيدة؛ فاستحالت هذه القلوب النافرة، وهذه الطباع الشموس، إلى هذه الكتلة المتراصة المتآخية الذلول بعضها لبعض، المحب بعضها لبعض، المتآلف بعضها مع بعض، بهذا المستوى الذي لم يعرفه التاريخ؛ والذي تتمثل فيه حياة الجنة وسمتها البارزة -أو يمهد لحياة الجنة وسمتها البارزة -: ونزعنا ما في قلوبهم من غل إخواناً على سرر متقابلين.
إن هذه العقيدة عجيبة فعلاً. إنها حين تخالط القلوب، تستحيل إلى مزاج من الحب والألفة ومودات القلوب، التي تلين جاسيها، وترقق حواشيها، وتندي جفافها، وتربط بينها برباط وثيق عميق رفيق. فإذا نظرة العين. ولمسة اليد، ونطق الجارحة، وخفقة القلب، ترانيم من التعارف والتعاطف، والولاء والتناصر، والسماحة والهوادة، لا يعرف سرها إلا من ألف بين هذه القلوب؛ ولا تعرف مذاقها إلا هذه القلوب!
وهذه العقيدة تهتف للبشرية بنداء الحب في الله؛ وتوقع على أوتارها ألحان الخلوص له والالتقاء عليه، فإذا استجابت وقعت تلك المعجزة التي لا يدري سرها إلا الله ولا يقدر عليها إلا الله.
يقول رسول الله [صلى الله عليه وسلم]:"إن من عباد الله لأناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى" قالوا: يا رسول الله تخبرنا من هم. قال: "هم قوم تحابوا بروح الله بينهم، على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، والله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور. لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس".. [أخرجه أبو داود].
ويقول [صلى الله عليه وسلم]:"إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم، فأخذ بيده تحاتت عنهما ذنوبهما كما تتحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحار".. [رواه الطبراني].
وتتوارد أقوال الرسول تترى في هذا الباب؛ وتشهد أعماله بأصالة هذا العنصر في رسالته [صلى الله عليه وسلم]؛ كما تشهد الأمة التي بناها على الحب أنها لم تكن مجرد كلمات مجنحة، ولا مجرد أعمال مثالية فردية؛ إنما كانت واقعاً شامخاً قام على هذا الأساس الثابت، بإذن الله، الذي لا يقدر على تأليف القلوب هكذا سواه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
التأليف بين قلوب المؤمنين مِنّة أخرى على الرسول، إذ جعَل أتباعه متحابّين وذلك أعون له على سياستهم، وأرجى لاجتناء النفع بهم، إذ يكونون على قلب رجل واحد، وقد كان العرب يفضلون الجيش المؤلف من قبيلة واحدة، لأنّ ذلك أبعد عن حصول التنازع بينهم.
وهو أيضاً منة على المؤمنين إذ نزع من قلوبهم الأحقاد والإحن، التي كانت دأب الناس في الجاهلية، فكانت سبب التقاتل بين القبائل، بعضها مع بعض، وبين بطون القبيلة الواحدة. وأقوالهم في ذلك كثيرة...
... فلمّا آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم انقلبت البغضاء بينهم مودّة، كما قال تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا} [آل عمران: 103]، وما كان ذلك التآلف والتحابّ إلاّ بتقدير الله تعالى فإنّه لم يحصل من قبل بوشائِج الأنساب، ولا بدعوات ذوي الألباب.
ولذلك استأنف بعدَ قوله: {وألف بين قلوبهم} قوله: {لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم} استئنافا ناشئاً عن مساق الامتنان بهذا الائتلاف، فهو بياني، أي: لو حاولت تأليفهم ببذل المال العظيم ما حصل التآلف بينهم.
فقوله: {ما في الأرض جميعاً} مبالغة حسنة لوقوعها مع حرف (لو) الدالّ على عدم الوقوع. وأمّا ترتّب الجزاء على الشرط فلا مبالغة فيه، فكان التأليف بينهم من آيات هذا الدين، لما نظّم الله من ألفتهم، وأماط عنهم من التباغض. ومن أعظم مشاهد ذلك ما حدث بين الأوس والخزرج من الإحن قبل الإسلام ممّا نشأت عنه حرب بُعاث بينهم، ثم أصبحوا بعد حين إخواناً أنصاراً لله تعالى، وأزال الله من قلوبهم البغضاءِ بينهم.
و {جميعاً} منصوباً على الحال من {ما في الأرض} وهو اسم على وزن فعيل بمعنى مجتمع، وسيأتي بيانه عند قوله تعالى: {فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون} في سورة [هود: 55].
وموقع الاستدراك في قوله: {ولكن الله ألف بينهم} لأجل ما يتوهّم من تعذّر التأليف بينهم في قوله: {لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم} أي ولكن تكوين الله يلين به الصلب ويحصل به المتعذر.
والخطاب في {أنفقت} و {ألَّفت} للرسول صلى الله عليه وسلم باعتبار أنّه أول من دعا إلى الله. وإذْ كان هذا التكوين صنعاً عجيباً ذَيّل الله الخبر عنه بقوله: {إنه عزيز حكيم} أي قوي القدرة فلا يعجزه شيء، محكم التكوين فهو يكوّن المتعذر، ويجعله كالأمر المسنون المألوف.
والتأكيد ب« إنَّ» لمجرّد الاهتمام بالخبر باعتبار جعله دليلاً على بديع صنع الله تعالى.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
التأليف: إيجاد ألفة بين الجماعات، بحيث تألف كل واحد من الجماعة صاحبه، كالألفة التي أنشأتها المؤاخذة بين المؤمنين، وهو غير الاتحاد؛ لأن الاتحاد الاجتماع على أمر بالرأي والنظر، وقد لا يتألف واحد صاحبه، وذلك قد يكون يجتمع على فكرة أو حزب، ولا يشترط فيه تلاقي قلوب الاجتماع، وائتلاف النفوس، وإن ذلك لا يستطيعه إلا الله، وفيه إشارة إلى أمرين: أولهما – أن ائتلاف القلوب والتحاب والتواد والبعد عن التباغض والتنابز هما عماد العزة والتدبير الحكيم. وثانيهما – إنه لا غلب ولا سلطان إلا بالتآلف، وأن يصير المجتمع كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ}، لأن بيده أسرار القلوب، وخفايا النفوس، وأعماق الأرواح، يقلِّبها كيف يشاء ويحوِّلها كما يريد. {إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، فلا يغلب في عزته، ولا يُعارض في حكمته، فمن إرادته تكون الأشياء، ومن حكمته تأخذ طريقها إلى مواقع الهدى والنجاح.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
أضف إِلى ذلك أنّ المؤمنين المخلصين قد أحاطوا بك من كل جانب ولم يدخروا وسعاً في الدفاع عنك، فقد كانوا قبل ذلك متشتتين متعادين، ولكنَّ الله شرح صدورهم بأنوار الهداية (وألف بين قلوبهم).
... إنّ الذين يعرفون حالة نفوس المتعصبين والحاقدين، كأُولئك الذين كانوا في العصر الجاهلي، يعرفون كذلك أن تلك الأحقاد والضغائن لم يكن بالإِمكان إزالتها، لا بالمال ولا بالجاه والمقام، لأنّها كانت لا تزول عندهم إلاّ بالانتقام الذي يتكرر بصورة متسلسلة فيما بينهم، وفي كل مرّة يكون في صورة أبشع وأكثر وحشية وإجراماً، والأمر الوحيد الذي أمكن بسببه قلع تلك الجذور الفاسدة من أصولها، هو إحداث ثورة عارمة وتغيير شامل في الأفكار والأرواح والعقائد، ثورة تصنع تحوّلاً في شخصياتهم وتبدل أساليب تفكيرهم، وترفعهم عن الحضيض الذي كانوا فيه، لتتجلى لهم أعمالهم السابقة في وجهها الكالح القبيح، فيطهروا بذلك أنفسهم، ويدرأوا عنها الأحقاد والأوساخ والعصبية القبلية العمياء.
وهذه أُمور لا يمكن إيجادها بالثروة ولا بالمال، بل في ظلال الإِيمان والتوحيد الخالص فحسب.
وتضيف الآية معقبة في الختام (إنّه عزيز حكيم).
فعزته تقتضي عجز الآخرين من الوقوف في مواجهته، وحكمته تقتضي أن تكون كل أُموره جاريةً وفق حساب دقيق ونظام صحيح، ولهذا فإنّ الخطة الدقيقة وحدت القلوب المتنافرة المتفرقة وجعلتها تنصاع للنّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لينشروا أنوار الهداية في كل أرجاء العالم.
قال بعض المفسّرين: إنّ الآية محل البحث تشير إِلى الخلافات بين الأوس والخزرج، الذين هم من الأنصار فحسب، ولكن نظراً إِلى أنّ المهاجرين والأنصار نهضوا جميعاً لنصرة النّبيّ فيتّضح اتساع مفهوم الآية.
ولعل أُولئك كانوا يتصورون أنّ الخلافات كانت قائمة بين الأوس والخزرج دون غيرهم، مع أنّه كانت اختلافات كثيرة في المستويات الطبقية والاجتماعية بين الفقراء والأغنياء، والكبار والصغار، بين هذه القبيلة وتلك، تلك الخلافات و«الانشقاقات» أذهبها الإِسلام ومحا آثارها، كما يقول القرآن الكريم في مكان آخر: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً).
إنّ هذا القانون لا يختص بالمسلمين الأوائل فحسب، فاليوم حيث يبسط الإِسلام ظلاله على ثمانمائة مليون مسلم في أنحاء العالم، وهم من مختلف العناصر والأقوام المتباعدة والمجتمعات المتنوعة. إذ لا يمكن إيجاد أية حلقة اتصال بين كل هؤلاء سوى حلقة الإِيمان والتوحيد، فإنّ الأموال والثروات والمؤتمرات لا يمكنها أن تفعل شيئاً مهماً في هذا المجال، بل ما يمكن أن يوحدهم هو إيقاد شعلة الإِيمان أكثر في قلوب هؤلاء كما حصل عند المسلمين الأوائل، لأنّ النصر لا يتحقق إلاّ عن هذا الطريق، وهو طريق الأخوة الإِسلامية بين جميع الناس.