{ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا ْ } وهذا من لطفه تعالى بهذه الأمة ، أن أحل لها الغنائم ولم يحلها لأمة قبلها .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ ْ } في جميع أموركم ولازموها ، شكرا لنعم اللّه عليكم ، . { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ْ } يغفر لمن تاب إليه جميع الذنوب ، . ويغفر لمن لم يشرك به شيئا جميع المعاصي .
{ رَحِيمٌ ْ } بكم ، حيث أباح لكم الغنائم وجعلها حلالا طيبا .
ثم زاد - سبحانه - المؤمنين فضلا ومنة فقال : { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً واتقوا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
قال الآلوسى روى أنه لما نزلت الآية الأولى { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى . . . } كف الصحابة أيديهم عما أخوا من الفداء فنزلت هذه الآية .
فالمراد بقوله { مِمَّا غَنِمْتُمْ } إما الفدية وإما مطلق الغنائم ، والمراد بيان حكم ما اندرج فيها من الفدية ، وإلا فحل الغنيمة مما عداها علم سابقاً من قوله :
{ واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ } وقيل المراد بقوله : { مِمَّا غَنِمْتُمْ } الغنائم من غير اندراج الفدية فيها ، لأن القوم لما نزلت الآية الأولى امتنعوا عن الأكل والتصرف فيها تزهداً منهم ، لا ظناً لحرمتها . . والفاء للعطف على سبب مقدر ، أي قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم .
والمعنى : لقد عفوت عنكم - أيها المؤمنون - فيما وقعتم فيه من تفضيلكم أخذ الفداء من الأسرى على قتلهم ، وأبحث لكم الانتفاع بالغنائم فكلوا مما غنمتم من أعدائكم حلالا طيباً ، أي لذيذاً هينئاً لا شبهة في أكله ولا ضرر { واتقوا الله } في كل أحوالكم بأن تخشوه وتراقبوه { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ولذا غفر لكم ما فرط منكم وأباح إليه توبة صادقة .
وقوله { حَلاَلاً } حال من " ما " الموصولة في قوله : { مِمَّا غَنِمْتُمْ } أو صفة لمصدر محذوف ، أى : أكلاً حلالا .
ووصف هذا المأمور بأكله بأنه حلال طيب ، تأكيداً للإِباحة حتى يقبلوا على الأكل منه بدون تحرج أو تردد ، فإن معاتبتهم على أخذ الفداء قبل ذلك جعلتهم يترددون في الانتفاع به وبما غنموه من أعدائهم .
ثم زادهم الله فضلاً ومنة ؛ فجعل غنائم الحرب حلالاً لهم - ومنها هذه الفدية التي عوتبوا فيها - وكانت محرمة في الديانات قبلهم على أتباع الرسل - مذكراً إياهم بتقوى الله ، وهو يذكر لهم رحمته ومغفرته ، لتتوازن مشاعرهم تجاه ربهم ، فلا تغرهم المغفرة والرحمة ، ولا تنسيهم التقوى والتحرج والمخافة :
( فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً ، واتقوا الله ، إن الله غفور رحيم ) . .
قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عاصم ، عن حميد ، عن أنس ، رضي الله عنه ، قال : استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في الأسارى يوم بدر ، فقال : " إن الله قد أمكنكم منهم " فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله ، اضرب أعناقهم . فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا أيها الناس ، إن الله قد أمكنكم منهم ، وإنما هم إخوانكم بالأمس " . فقام عمر فقال : يا رسول الله ، اضرب أعناقهم . فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم عاد النبي صلى الله عليه وسلم فقال للناس مثل ذلك ، فقام أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه ، فقال : يا رسول الله ، نرى أن تعفو عنهم ، وأن تقبل منهم الفداء . قال : فذهب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من الغم ، فعفا عنهم ، وقبل منهم الفداء . قال : وأنزل الله ، عز وجل : { لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ } الآية{[13149]}
وقد سبق في أول السورة حديث ابن عباس في صحيح مسلم بنحو ذلك .
وقال الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما تقولون في هؤلاء{[13150]} الأسارى ؟ " قال : فقال أبو بكر : يا رسول الله ، قومك وأهلك ، استبقهم واستتبهم ، لعل الله أن يتوب عليهم . قال : وقال عمر : يا رسول الله ، أخرجوك ، وكذبوك ، فقدمهم فاضرب أعناقهم . قال : وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله ، أنت في واد كثير الحطب ، فأضرم الوادي عليهم نارًا ، ثم ألقهم فيه . [ قال : فقال العباس : قطعت رحمك ]{[13151]} قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئًا ، ثم قام فدخل فقال ناس : يأخذ بقول أبي بكر . وقال ناس : يأخذ بقول عمر . وقال ناس : يأخذ بقول عبد الله بن رواحة . ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم ، عليه السلام ، قال : { فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ إبراهيم : 36 ] ، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى ، عليه السلام ، قال : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [ المائدة : 118 ] ، وإن مثلك يا عمر مثل موسى عليه السلام ، قال : { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [ يونس : 88 ] ، وإن مثلك يا عمر كمثل نوح عليه السلام ، قال : { رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } [ نوح : 26 ] ، أنتم عالة فلا ينفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق " . قال ابن مسعود : قلت : يا رسول الله ، إلا سهيل بن بيضاء ، فإنه يذكر الإسلام ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع عليّ حجارة من السماء مني في ذلك اليوم ، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إلا سهيل بن بيضاء " فأنزل الله تعالى : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى } إلى آخر الآية .
رواه الإمام أحمد والترمذي ، من حديث أبي معاوية ، عن الأعمش ، والحاكم في مستدركه ، وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه{[13152]} وروى الحافظ أبو بكر بن مردويه ، عن عبد الله بن عمر ، وأبي هريرة ، رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه{[13153]} وفي الباب عن أبي أيوب الأنصاري .
وروى ابن مردويه أيضا - واللفظ له - والحاكم في مستدركه ، من حديث عبيد الله بن موسى : حدثنا إسرائيل ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : لما أسر الأسارى يوم بدر ، أسر العباس فيمن أسر ، أسره رجل من الأنصار ، قال : وقد أوعدته الأنصار أن يقتلوه . فبلغ ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس ، وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه " فقال له عمر : فآتهم ؟ قال : " نعم " فأتى عمر الأنصار فقال لهم : أرسلوا العباس فقالوا : لا والله لا نرسله . فقال لهم عمر : فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضى ؟ قالوا : فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضى فخذه . فأخذه عمر فلما صار في يده قال له : يا عباس ، أسلم ، فوالله لأن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب ، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه إسلامك ، قال : فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر ، فقال أبو بكر : عشيرتك . فأرسلهم ، فاستشار عمر ، فقال : اقتلهم ، ففاداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ }{[13154]} الآية .
قال الحاكم : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه{[13155]}
وقال سفيان الثوري ، عن هشام - هو ابن حسان - عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال : خَيِّر أصحابك في الأسارى : إن شاءوا الفداء ، وإن شاؤوا القتل على أن يقتل منهم مقبلا مثلهم . قالوا : الفداء ويقتل منا .
رواه الترمذي ، والنسائي ، وابن حبان في صحيحه من حديث الثوري ، به{[13156]} وهذا حديث غريب جدا .
وقال ابن عون [ عن محمد بن سيرين ]{[13157]} عن عبيدة ، عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى يوم بدر : " إن شئتم قتلتموهم ، وإن شئتم فاديتموهم واستمتعتم بالفداء ، واستشهد منكم بعدتهم " . قال : فكان آخر السبعين ثابت بن قيس ، قتل يوم اليمامة ، رضي الله عنه{[13158]}
ومنهم من روى هذا الحديث عن عبيدة مرسلا{[13159]} فالله أعلم .
وقال محمد بن إسحاق ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، عن ابن عباس : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى } فقرأ حتى بلغ : { عَذَابٌ عَظِيمٌ } قال : غنائم بدر ، قبل أن يحلها لهم ، يقول : لولا أني لا أعذب من عصاني حتى أتقدم إليه ، لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم .
وكذا روى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد .
وقال الأعمش : سبق منه ألا يعذب أحدا شهد بدرا . وروى نحوه عن سعد بن أبي وقاص ، وسعيد بن جبير ، وعطاء .
وقال شعبة ، عن أبي هاشم{[13160]} عن مجاهد : { لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ } أي : لهم بالمغفرة ونحوه عن سفيان الثوري ، رحمه الله .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ } يعني : في أم الكتاب الأول أن المغانم والأسارى حلال لكم ، { لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ } من الأسارى { عَذَابٌ عَظِيمٌ } قال الله تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ } الآية . وكذا روى العوفي ، عن ابن عباس . وروي مثله عن أبي هريرة ، وابن مسعود ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والحسن البصري ، وقتادة والأعمش أيضا : أن المراد { لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ } لهذه الأمة بإحلال الغنائم وهو اختيار ابن جرير ، رحمه الله .
ويستشهد لهذا القول بما أخرجاه في الصحيحين ، عن جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت خمسا ، لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة " {[13161]}
وقال الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لم تحل الغنائم لسود الرؤوس غيرنا " {[13162]}
ولهذا قال الله تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } فعند ذلك أخذوا من الأسارى الفداء .
وقد روى الإمام أبو داود في سننه : حدثنا عبد الرحمن بن المبارك العيشي ، حدثنا سفيان بن حبيب ، حدثنا شعبة ، عن أبي العنبس ، عن أبي الشعثاء ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة{[13163]}
وقد استقر الحكم في الأسرى{[13164]} عند جمهور العلماء : أن الإمام مخير فيهم : إن شاء قتل - كما فعل ببني قريظة - وإن شاء فادى بمال - كما فعل بأسرى بدر - أو بمن أسر من المسلمين - كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الجارية وابنتها اللتين كانتا في سبي سلمة بن الأكوع ، حيث ردهما وأخذ في مقابلتهما من المسلمين الذين كانوا عند المشركين ، وإن شاء استرق من أسر . هذا مذهب الإمام الشافعي وطائفة من العلماء ، وفي المسألة خلاف آخر بين الأئمة مقرر في موضعه من كتب الفقه .
وقوله تعالى : { فكلوا مما غنمتم } الآية ، نص على إباحة المال الذي أخذ من الأسرى وإلحاق له بالغنيمة التي كان تقدم تحليلها ، قوله { حلالاً طيباً } حال في قوله ، ويصح أن يكونا من الضمير الذي في { غنمتم } ويحتمل أن يكون { حلالاً } مفعولاً ب «كلوا » ، { واتقوا الله } معناه في التشرع حسب إرادة البشر وشهوته في نازلة ، أخرى ، وجاء قوله { واتقوا الله } اعتراضاً فصيحاً في أثناء الكلام ، لأن قوله { إن الله غفور رحيم } هو متصل بالمعنى بقوله { فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً } .
الفاء تؤذن بتفريع هذا الكلام على ما قبله . وفي هذا التفريع وجهان :
أحدهما : الذي جرى عليه كلام المفسّرين أنّه تفريع على قوله : { لولا كتاب من الله سبق } [ الأنفال : 68 ] إلخ . . . أي لولا ما سبق من حلّ الغنائم لكم لمسّكم عذاب عظيم ، وإذ قد سبق الحلّ فلا تبعة عليكم في الانتفاع بمال الفداء . وقد روي أنّه لمّا نزل قوله تعالى : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى } [ الأنفال : 67 ] الآية ، أمسكوا عن الانتفاع بمال الفداء ، فنزل قوله تعالى : { فكلوا مما غنمتم حلالاً طيبا } وعلى هذا الوجه قد سمّي مال الفداء غنيمة تسمية بالاسم اللغوي دون الاسم الشرعي ؛ لأنّ الغنيمة في اصطلاح الشرع هي ما افتكّه المسلمون من مال العدوّ بالإيجاف عليهم .
والوجه الثاني : يظهر لي أنّ التفريع ناشىء على التحذير من العود إلى مثل ذلك في المستقبل ، وأنّ المعنى : فاكتفوا بما تغنمونه ولا تفادوا الأسرى إلى أن تثخنوا في الأرض . وهذا هو المناسب لإطلاق اسم الغنيمة هنا إذ لا ينبغي صرفه عن معناه الشرعي .
ولمّا تضمّن قوله : { لولا كتاب من الله سبق } [ الأنفال : 68 ] امتناناً عليهم بأنّه صرف عنهم بأس العدوّ ، فرّع على الامتنان الإذن لهم بأن ينتفعوا بمال الفداء في مصالحهم ، ويتوسّعوا به في نفقاتهم ، دون نكد ولا غصّة ، فإنّهم استغنوا به مع الأمن من ضرّ العدوّ بفضل الله . فتلك نعمة لم يشُبها أذى .
وعبّر عن الانتفاع الهنيء بالأكل : لأنّ الأكل أقوى كيفيّات الانتفاع بالشيء ، فإنّ الآكِل ينعم بلذاذة المأكول وبدَفْع ألم الجوع عن نفسه ودفع الألم لذاذة ويكسبه الأكلُ قوة وصحّة والصحة مع القوّة لذاذة أيضاً .
والأمر في { كلوا } مستعمل في المنّة ولا يحمل على الإباحة هنا : لأنّ إباحة المغانم مقرّرة من قبله يوم بدر ، وليكون قوله : { حلالاً } حالاً مؤسسّة لا مؤكّدة لمعنى الإباحة .
و { غنمتم } بمعنى فاديتم لأنّ الفداء عوض عن الأسرى والأسرى من المغانم .
والطيب : النفيس في نوعه ، أي حلالاً من خير الحلال .
وذُيّل ذلك بالأمر بالتقوى : لأنّ التقوى شكر الله على ما أنعم من دفع العذاب عنهم .
وجملة : { إن الله غفور رحيم } تعليل للأمر بالتقوى ، وتنبيه على أنّ التقوى شكر على النعمة ، فحرف التأكيد للاهتمام ، وهو مغن غَناء فاء التفريع ، كقول بشار :
وهذه القضية إحدى قضايا جاء فيها القرآن مؤيّداً لرأي عمر بن الخطاب . فقد روى مسلمٌ عن عمر ، قال : « وافقتُ ربّي في ثلاث : في مقام إبراهيم ، وفي الحجاب ، وفي أسارى بدر » .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم طيبها لهم وأحلها، فقال: {فكلوا مما غنمتم}... {حلالا طيبا واتقوا الله} ولا تعصوه، {إن الله غفور} ذو تجاوز لما أخذتم من الغنيمة قبل حلها، {رحيم} بكم إذ أحلها لكم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره للمؤمنين من أهل بدر: فكلوا أيها المؤمنون مما غنمتم من أموال المشركين حلالاً بإحلاله لكم طيبا. "وَاتّقُوا اللّهَ "يقول: وخافوا الله أن تعودوا أن تفعلوا في دينكم شيئا بعد هذه من قبل أن يعهد فيه إليكم، كما فعلتم في أخذ الفداء وأكل الغنيمة وأخذتموهما من قبل أن يحلا لكم. "إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم، وتأويل الكلام: فكلوا مما غنمتم حلالاً طيبا، إن الله غفور رحيم، واتقوا الله. ويعني بقوله: "إنّ اللّهَ غَفُورٌ" لذنوب أهل الإيمان من عباده، "رَحِيمٌ" بهم أن يعاقبهم بعد توبتهم منها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: (واتقوا الله) في ما أمركم به، ونهاكم عنه، فلا تعصوه (إن الله غفور رحيم) لمن تاب، ورجع عما فعل.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الحلال ما كان مأذوناً فيه، والحلالُ الطيِّبُ أنْ تعلم أن ذلك مِنْ قبلِ الله فضلاً، وليس لَكَ مِنْ قبلِكَ استحقاقاً. ويقال الحلال الصافي ما لم يَنْسَ صاحبُه فيه معبوده. ويقال هو الذي لا يكون صاحبُه عن شهود ربِّه -عند أخذه- غافلاً.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {فكلوا مما غنمتم...}، نص على إباحة المال الذي أخذ من الأسرى وإلحاق له بالغنيمة التي كان تقدم تحليلها...
{واتقوا الله} معناه في التشرع حسب إرادة البشر وشهوته في نازلة، أخرى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ساق سبحانه هذه البشارة في النذارة، سبب عنها قوله: {فكلوا مما غنمتم} أي من الفدية وغيرها حال كونه {حلالاً} أي لا درك ولا تبعة فيه من جهتي {طيباً} أي شهياً لكم ملائماً لطباعكم، وهذا إذا كان مع الشروط التي أقمتها لكم من عدم الغلول والخيانة بوجه من الوجوه والاستئثار وشديد الرغبة السائقة إلى ما لا يليق من التنازع وغيره، ذلك فيما تقدمت فيه إليكم {واتقوا الله} أي الذي له جميع صفات الكمال في جميع ذلك فلا تغلوا ولا تنازعوا ولا تقدموا إلا على ما يبيحه لكم الرسول صلى الله عليه وسلم {إن الله} أي المتصف بالجلال والإكرام {غفور} أي لمن يعلم من قبله أنه من أهل التقوى {رحيم} أي له، فلأجل ما علم في قلوبكم من الخير غفر لكم فلم يعذبكم بتسرعكم إلى إسار من لم يأمركم به الرسول صلى الله عليه وسلم للمفاداة دون توقف على إذنه، ورحمكم فأحسن إليكم فأحل لكم الغنائم، انظر إلى قوله تعالى {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم} تعرف حسن تعليل الأمر بالتقوى بالمغفرة والرحمة، ويجوز أن يكون علة للأكل، أي كلوا فإن الله قد غفر لكم ما عاتبكم عليه، وفائدة الأمر بالتقوى التحذير من العود اعتماداً على سعة الحلم، وايضاً فقد تقدم تهديد ومغفرة فناسب أن يدلهم على أن علة المغفرة التقوى، فكان ترجمة ذلك انه لما رهبهم بمس العذاب عند أخذ الفداء لولا سبق الكتاب، رغبهم بأنه كلما صدهم عن جنابه صارف ذنب فردهم إليه عاطف تقوى، أسبل عليهم ذيل المغفرة والرحمة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم إنه تعالى أباح لهم أكل ما أخذوه من الفداء وعده من جملة الغنائم التي أباحها لهم في أول هذه السورة وفي قوله في أول هذا الجزء {واعلموا أن ما غنمتم من شيء} [الأنفال: 41] الخ فقال: {فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا} [الأنفال: 69] أي وإذا كان الله تعالى قد سبق منه كتاب في أنه لا يعذبكم أو يقتضي أن لا يعذبكم بهذا الذنب الذي خالفتم به سنته وهدي أنبيائه فكلوا مما غنمتم من الفدية حالة كونه حلالا بإحلاله لكم الآن، طيبا في نفسه لا خبث فيه مما حرم لذاته كالميتة ولحم الخنزير واجعلوا باقيه في المصالح التي بينت لكم في قسمة الغنائم {واتقوا الله} في العود إلى أكل شيء من أموال الناس كفارا كانوا أو مؤمنين من قبل أن يحله الله لكم...
{إن الله غفور رحيم}... وفسر بعضهم الاسمين الكريمين هنا بما يقتضيه المقام من مغفرته تعالى لذنبهم بأخذ الفداء وإيثار جمهورهم لعرض الدنيا على ما يقتضيه إيثار الآخرة من طلب الإثخان في الأرض أولا، لإعزاز الحق وأهله، بإذلال الشرك وكبت حزبه ومن رحمته بهم بإباحة ما أخذوا والانتفاع به. والأقرب تفسيره بأنه غفور للمتقين رحيم بهم.
وجملة القول في تفسير الآيات أنه ليس من سنة الأنبياء ولا مما ينبغي لأحد منهم أن يكون له أسرى يفاديهم أو يمن عليهم إلا بعد أن يكون له الغلب والسلطان على أعدائه وأعداء الله الكافرين، لئلا يفضي أخذه الأسرى إلى ضعف المؤمنين وقوة أعداءهم وجرأتهم وعدوانهم عليهم ـ وأن ما فعله المؤمنون من مفاداة أسرى بدر بالمال كان ذنبا سببه إرادة جمهورهم عرض الحياة الدنيا على ما كان من ذنب أخذهم لهم قبل الإثخان الذي تقتضيه الحكمة بإعلاء كلمة الله تعالى وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، ولولا ذلك لسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، كما سألوه عن الأنفال من قبله، -وأنه لولا كتاب من الله سبق مقتضاه عدم عقابهم على ذنب أخذ الفداء قبل إذنه تعالى وعلى خلاف سنته وبالغ حكمته لمسهم بعذاب عظيم في أخذه ذلك ـ وأنه تعالى أحل لهم ما أخذوا وغفر لهم ذنبهم بأخذه قبل إحلاله لهم والله غفور رحيم.
فإن قيل: تبين بعد نزول هذه الآيات أن ما حصل من أخذ الفداء لم يكن مضعفا للمؤمنين، ولا مزيدا في شوكة المشركين، بل كان خيرا ترتب عليه فوائد كثيرة بينها المحقق ابن القيم من بضعة وجوه ـ وسيأتي سردها.
قلنا: ما يدرينا ما كان يكون لو عمل المسلمون بما دلت الآية الأولى من قتل أولئك الأسرى أو من عدم أخذ الأسرى يومئذ؟ على أنه هو الذي تقتضيه الحكمة، وسنة أنبياء الرحمة، أليس من المعقول أن يكون ذلك مرهبا للمشركين، وصادا لهم عن الزحف بعد سنة على المؤمنين، وأخذ الثأر منهم في أحد ثم اعتداؤهم في غيرها من الغزوات؟
فإن قيل: وما رحمة الله تعالى في ترجيح رسوله لرأي الجمهور المرجوح بحسب القاعدة أو السنة الإلهية التي كان عليها الأنبياء قبله وهو أرجحهم ميزانا، وأقواهم برهانا، ثم إنكاره تعالى ذلك عليهم؟ قلت: إن لله تعالى في ذلك لحكما أذكر ما ظهر لي منها:
الحكمة الأولى: عمل الرسول صلى الله عليه وسلم برأي الجمهور الأعظم فيما لا نص فيه من الله تعالى وهو ركن من أركان الإصلاح السياسي والمدني الذي عليه أكثر أمم البشر في دولها القوية في هذا العصر، كما عمل صلى الله عليه وسلم برأيهم الذي صرح به الحباب بن المنذر في منزل المسلمين يوم بدر وتقدم (في ج 9) وقد كان هذا من فضائله صلى الله عليه وسلم ثم فرضه الله عليه في غزوة أحد بقوله: {وشاورهم في الأمر} [آل عمران: 159] (ج 4).
الحكمة الثانية: بيان أن الجمهور قد يخطئون ولا سيما في الأمر الذي لهم فيه هوى ومنفعة. ومنه يعلم أن ما شرعه تعالى في العمل برأي الأكثرين فسببه أنه هو الأمثل في الأمور العامة لا أنهم معصومون فيها.
الحكمة الثالثة: أن النبي نفسه قد يخطئ في اجتهاده ولكن الله تعالى يبين له ذلك ولا يقره عليه كما صرح به العلماء، فهو معصوم من الخطأ في التبليغ عن الله تعالى لا في الرأي والاجتهاد. ومنه ما سبق من اجتهاده صلوات الله وسلامه عليه بمكة في الإعراض عن الأعمى الفقير الضعيف عبد الله ابن أم مكتوم رضي الله عنه حين جاءه يسأله وهو يدعو كبراء أغنياء المشركين المتكبرين إلى الإسلام لئلا يعرضوا عن سماع دعوته فعاتبه الله تعالى على ذلك بقوله: {عبس وتولى أن جاءه الأعمى} [عبس:1،2] إلى قوله تعالى: {كلا} [عبس:10].
الحكمة الرابعة: أن الله تعالى يعاتب رسوله على الخطأ في الاجتهاد مع حسن نيته فيه ويعده ذنبا له ويمنّ عليه بعفوه عنه ومغفرته له، على كون الخطأ في الاجتهاد معفوا عنه في شريعته، لأنه في علو مقامه وسعة عرفانه يعد عليه من مخالفة الأولى والأفضل والأكمل ما لا يعد على من دونه من المؤمنين، على قاعدة: حسنات الأبرار سيئات المقربين. ومثال ذلك قوله تعالى له لما أذن بالتخلف عن غزوة تبوك لبعض المنافقين {عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين} [التوبة:43] فهذه أمثلة ذنوبه صلى الله عليه وسلم تسليما، المغفورة بنص قوله تعالى: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما} [الفتح:2] والذنب ما له عاقبة ضارة أو مخالفة للمصلحة تكون وراءه كذنب الدابة وإن لم يكن معصية.
الحكمة الخامسة: بيان مؤاخذة الله تعالى الناس على الأعمال النفسية وإرادة السوء بعد تنفيذها بالعمل بقوله تعالى: {تريدون عرض الدنيا} وإنما كانت إرادة هذا ذنبا لأنه باستشراف أشد من استشرافهم أولا لإيثار عير أبي سفيان على الجهاد، ولذلك لم يسألوا عن حكمه كما سألوا من قبل عن الأنفال، ولم يبالوا في سبيله بأن يقتل المشركون منهم بعد عام مثل عدد من قتلوا هم ببدر كما ورد في بعض الروايات، وما قاله بعض المفسرين من أن سبب هذا حبهم للشهادة فلا دليل عليه من نص ولا قرينة حال ويرده أنه ليس للمؤمنين أن يحبوا أو يختاروا قتل المشركين لكثير منهم ولا قليل، ويكفي من حب الشهادة الإقدام على القتال وعدم الفرار من الزحف خوفا من القتل.
الحكمة السادسة: الإيذان بأنهم استحقوا العذاب على أخذ الفداء ولم يذكر معه مخالفة المصلحة المذكورة لأنها لم تكن قد بينت لهم، وإنما كان من شأن النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلم هذه المصلحة ويعمل بمقتضاها والظاهر أنه علمها ولكنه رجح عليها العمل بالمشاورة والأخذ برأي الجمهور الذي فرضه الله تعالى عليه فرضا في غزوة أحد، بعد أن ألهمه إياه إلهاما في غزوة بدر، ولهذا لم يمن عليه هنا بالعفو عنه خاصة كما منَّ عليه بعد ذلك في الإذن للمنافقين بالتخلف عن غزوة تبوك الذي هو مخالف للمصلحة أيضا.
الحكمة السابعة: بيان منَّة الله تعالى على أهل بدر أنه لم يعذبهم فيما أخذوا بسوء الإرادة أو بغير حق وتقدم وجهه، وفي هذه المنة بعد الإنذار الشديد خير تربية لأمثالهم من الكاملين تربأ بأنفسهم عن مثل ذلك الاستشراف، لا أنها تجرئهم عليه كما توهم بعض الناس.
الحكمة الثامنة: علمه تعالى بأن أولئك الأسرى ممن كتب لهم طول العمر وتوفيق أكثرهم للإيمان.
الحكمة التاسعة: أن يكون من قواعد التشريع أن ما نفذه الإمام من الأعمال السياسية والحربية بعد الشورى لا ينقض وإن ظهر أنه خطأ. ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما شرع في تنفيذ رأي الجمهور في الخروج إلى أحد على خلاف رأيه ثم راجعوه فيه وفوضوا إليه الأمر في الرجوع فلم يرجع وقال في ذلك كلمته العظيمة التي تعمل بها دول السياسة الكبرى إلى هذا العصر لحسنها لا لاتباعه صلى الله عليه وسلم فتراجع في (ص 96-98، ج 4).
هذا ما فتح الله تعالى به وهو مخالف لما ذهب إليه العلامة ابن القيم في الهدي، وأشار إليه الحافظ في الفتح، وتارة معزوا إليه وتارة بغير عزو...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وعلى أية حال، فإنّ الآية محل البحث أجازت للمسلمين التصرف في غنائم المعركة، والمبلغ الذي يأخذونه فداءً من الأسير (واتقوا الله). وهذا إشارة إِلى أنّ جواز أخذ مثل هذه الغنائم لا ينبغي أن يجعل هدف المجاهدين في المعركة هو جمع الغنائم وأن يأسروا العدوّ حتى يأخذوا فداءه. وإذا كان في القلوب مثل هذه النيّات السيئة فعليهم أن يطهروا قلوبهم منها، ويعدهم الله بالعفو عمّا مضى فتقول الآية: (إنّ الله غفور رحيم).