اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَّوۡلَا كِتَٰبٞ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمۡ فِيمَآ أَخَذۡتُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (68)

قوله : { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .

قال ابنُ عباسٍ : كانت الغنائمُ حراماً على الأنبياء ؛ فكانُوا إذَا أصابوا مَغْنَماً جعلوه للقربان فكانت تتنزل نار من السماءِ فتأكله ، فلمَّا كان يوم بدر أٍسرع المؤمنون في الغنائم ، وأخذ الفداء ، فأنزل اللَّهُ تعالى : { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ }{[17511]} .

يعني : لولا قضاء من الله سبق في اللوح المحفوظ بأنَّهُ تحلُّ لكم الغنائم لمَسَّكُم العذاب .

وهذا مشكل ؛ لأنَّ تحليل الغنائم والفداء ، هل كان حاصلاً في ذلك الوقت ، أو ما كان حاصلاً فيه ؟ فإن كان ذلك التَّحليل والإذن حاصلاً في ذلك الوقت امتنع إنزال العذاب عليهم ؛ لأنَّ ما كان مأذوناً فيه من قبل الشرع لم يحصل العقابُ على فعله .

وإن قلنا : إنَّ الإذن ما كان حاصلاً في ذلك الوقت كان ذلك الفعل حراماً في ذلك الوقت ، أقصى ما في الباب أنَّهُ سيحكم بحله بعد ذلك ، إلاَّ أنَّ هذا لا يقدح في كونه حراماً في ذلك الوقت .

فإن قالوا : إنَّ كونه بحيثُ يصير بعد ذلك حلالاً ، يوجبُ تخفيف العقابِ .

قلنا : فإذا كان الأمر كذلك امتنع إنزال العقاب بسببه ، وذلك يمنع من التخويف بسبب ذلك العقاب .

قال ابنُ العربيِّ : " في هذه الآية دليلٌ على أنَّ العبد إذا اقتحم ما يعتقده حراماً ممَّا هو في علم اللَّه حلال له لا عقوبة عليه ، كالصَّائم إذا قال : هذا يوم نَوْبي فأفطر الآن ، وتقولُ المرأة : هذا يوم حيضتي فأفطر ، ففعلا ذلك ، وكان النوب والحيضُ الموجبان للفطر ، فمشهور المذهب أن فيه الكفارة ، وهو قول الشافعيِّ .

وقال أبُو حنيفة : لا كفارة عليه . وجه الأوَّل أنَّ طريق الإباحة لا يثبت عذراً غير عقوبة التَّحْريمِ عند الهتكِ ، كما لَوْ وطئ امرأة ثمَّ نكحها .

ووجه قول أبي حنيفةَ : أنَّ حرمة اليوم ساقطة عند الله - عزَّ وجلَّ - ، فصادق الهَتْكَ محلاًّ لا حرمةَ له في عِلْمِ اللَّه تعالى ، كما لو قصد وطء امرأة زُفَّت إليه ، وهو يعتقدُ أنَّها ليست بزوجةٍ له فإذا هي زوجته " .

قال القرطبيُّ : " وهذا أصحُّ " .

وقال ابن جريح : " لولا كتابٌ من اللَّهِ سبقَ " أنَّهُ لا يضلُّ قوماً بعد إذْ هداهم حتَّى يبين لهم ما يتقون{[17512]} ، وأنَّهُ لا يأخذ قوماً فعلوا شيئاً بجهالة ، وأنَّهُ لا يعذب إلا بعد النهي ، لعذبكم فيما صنعتم ، وأنَّهُ تعالى ما نهاهم عن أخْذِ الفداءِ . وهذا أيضاً ضعيفٌ ؛ لأنَّا نقول حاصل هذا القول أنه ما وجد دليل شرعي يوجب حرمة ذلك الفداء . فهل حصل دليل عقليّ يقتضي حرمته أم لا ؟

فإن قلنا : حصل ، فيكون اللَّهُ تعالى قد بيَّن تحريمه بواسطة ذلك الدَّليل العقلي ، فلا يمكن أن يقال : إنَّهُ تعالى لم يُبيَِّن تلك الحرمة ، وإن قلنا : إنه ليس في العقل ولا في الشَّرع ما يقتضي المنع ؛ فحينئذ امتنع أن يكون المنع حاصلاً وإذا كان الإذن حاصلاً فكيف يمكن ترتيب العقاب على فعله ؟

وقال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير : { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ } أنَّهُ لا يعذِّب أحداً شهد بدراً مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم{[17513]} ، وهذا أيضاً مشكلٌ ؛ لأنَّهُ يقتضي أن يقال : إنهم ما منعُوا عن الكُفْرِ والمعاصي والزِّنا والخمر ، وما هددوا بترتيب العذابِ على هذه القبائح ، وذلك يوجبُ سقوط التَّكاليف عنهم ، ولا يقوله عاقل ، وأيضاً فلو كان كذلك ، فكيف أخذهم اللَّهُ في ذلك الموضع بِعَيْنه في تلك الواقعةِ بعينها ؟

قال ابنُ الخطيب : " واعلمْ أنَّ النَّاس أكثروا فيه ، والمعتمد في هذا الباب أن نقول :

أمَّا على قول أهل السنة : فيجوز أن يعفُو اللَّهُ عن الكبائر .

فقوله { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ } لولا أنه تعالى حكم في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة لمَسَّهُم عذاب عظيم ، وهذا هو المراد من قوله { كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة } [ الأنعام : 54 ] وقوله " سبقت رحمتي غضبي " .

وأمَّا على قول المعتزلة : فهم لا يجوزون العفو عن الكبائر ، فكان معناه { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ } في أنَّ من احترزَ عن الكبائر صارت صغائره مغفورة ، وإلاَّ لمسَّهُم عذابٌ عظيمٌ ، وهذا الحكمُ وإن كان ثابتاً في حقِّ جميع المسلمين ، إلاَّ أنَّ طاعات أهل بدر كانت عظيمة ، وهو قبولهم الإسلام ، وانقيادهم لمحمَّدٍ ، وإقدامهم على مقاتلة الكفار من غير سلاح وأهبة فلا يبعد أن يقال : إنَّ الثَّواب الذي استحقُّوهُ على هذه الطاعات كان أزيدَ من العقاب الذي استحقوه على هذا الذنب ، لا جرمٍ صار هذا الذنب مغفوراً ، ولو قدّرْنا صدور هذا الذنب من المسلمين ، لما صار مغفوراً ، فبسبب هذا القدر من التفاوت ، حصل لأهْلِ بدر هذا الاختصاص " .

قال ابن إسحاق : لم يكن من المؤمنين أحدٌ ممَّن حضر إلاَّ أحبَّ الفداء ، إلاَّ عمر بن الخطاب فإنه أشار على رسُول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الأسرى ، وسعد بن معاذ قال : يا نَبِيَّ الله الإثْخَان في القَتْلِ أحب إليَّ من استبقاءِ الرِّجالِ ، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم " لو نزل من السَّماءِ عذابٌ لما نَجَا منه غير عمر بن الخطاب ، وسعد بن معاذ "


[17511]:ذكره البغوي في "معالم التنزيل" (2/262).
[17512]:ذكره البغوي في "معالم التنزيل" (2/262).
[17513]:ذكره البغوي في "معالم التنزيل" (2/262).