20- أولئك الكافرون ، لم تكن لهم قوة تُعجز الله عن أخذهم بالعذاب في الدنيا ، ولم يكن لهم نُصراء يمنعون عنهم عذابه لو شاء أن يعجل لهم العذاب ، وإن العذاب سيقع عليهم في الآخرة أضعاف ما كان سيقع عليهم في الدنيا ، لو أراد الله أن يقع ، لأنهم كرهوا أن يسمعوا القرآن ، ويبصروا آيات الله في الكون ، كأنهم لم يكونوا يستطيعون أن يسمعوا أو يبصروا .
{ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ } أي : ليسوا فائتين الله ، لأنهم تحت قبضته وفي سلطانه .
{ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ } فيدفعون عنهم المكروه ، أو يحصلون لهم ما ينفعهم ، بل تقطعت بهم الأسباب .
{ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ } أي : يغلظ ويزداد ، لأنهم ضلوا بأنفسهم وأضلوا غيرهم .
{ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ } أي : من بغضهم للحق ونفورهم عنه ، ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا آيات الله سماعا ينتفعون به { فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } { وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ } أي : ينظرون نظر عبرة وتفكر ، فيما ينفعهم ، وإنما هم كالصم البكم الذين لا يعقلون .
ثم بين - سبحانه - أنه كان قادرا على تعذيبهم فى الدنيا قبل الآخرة ولكنه أخر عذابهم إملاء لهم فقال : { أولئك لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب . . . } .
وقوله : معجزين من الإِعجاز بمعنى عدم المقدرة على الشئ .
أى : أولئك الذين افتروا على الله الكذب لم يكن - سبحانه - عاجزا عن إنزال العذاب الشديد بهم فى الدنيا . وما كان لهم من غيره من نصراء ينصرونهم من بأسه لو أراد إهلاكهم .
قال الإِمام الرازى : قال الواحدى : معنى الإِعجاز المنع من تحصيل المراد ، يقال أعجزنى فلان . أى : منعنى عن مرادى . .
والمقصود أن قوله { أولئك لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض } دل على أنه لا قدرة لهم على الفرار .
وقوله : { وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ } دل على أن أحدا لا يقدر على تخليصهم من عذابه .
فجمع - سبحانه - بين ما يرجع إليهم وبين ما يرجع إلى غيرهم ، ووضح بذلك انقطاع حيلهم فى الخلاص من عذاب الدنيا والآخرة .
وقوله : { يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب } جملة مستأنفة لبيان أن من حكمة تأخير العذاب عنهم فى الدنيا مضاعفة العذاب لهم فى الآخرة .
وقوله : { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } تصوير بليغ لاستحواذ الشيطان عليهم .
أى أن هؤلاء المجرمين بلغ بهم الجهل والعناد والجحود أنهم ما كانوا يستطيعون السماع للحق الذى جاءهم من ربهم لثقله على نفوسهم الفاسدة ، وما كانوا يبصرون المعجزات الدالة على صدق نبيهم - صلى الله عليه وسلم - .
فليس المراد نفى السماع والإِبصار الحسيين عنهم وإنما المراد أنهم لا نطماس بصائرهم صاروا كمن لا يسمع ولا يرى .
( لم يكونوا معجزين في الأرض ) . .
فلم يكن أمرهم معجزا لله ، ولو شاء لأخذهم بالعذاب في الدنيا . .
( وما كان لهم من دون الله من أولياء ) . .
ينصرونهم أو يمنعونهم من الله . إنما تركهم لعذاب الآخرة ، ليستوفوا عذاب الدنيا وعذاب الآخرة :
فقد عاشوا معطلي المدارك مغلقي البصائر ؛ كأن لم يكن لهم سمع ولا بصر :
{ أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ } أي : بل كانوا تحت قهره وغلبته ، وفي قبضته وسلطانه ، وهو قادر على الانتقام منهم في الدار الدنيا قبل الآخرة ، ولكن { يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ } [ إبراهيم : 42 ] ، وفي الصحيحين : " إن الله ليُملي للظالم ، حتى إذا أخذَه لم يُفْلته " ؛{[14547]} ولهذا قال تعالى : { يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ } أي : يضاعف عليهم العذاب ، وذلك لأن الله تعالى جعل لهم سمعا وأبصارا وأفئدة ، فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم [ من شيء ]{[14548]} ، بل كانوا صُمَّا عن سماع الحق ، عُميا عن اتباعه ، كما أخبر تعالى عنهم حين دخولهم النار : { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [ الملك : 10 ] ، وقال تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ } [ النحل : 88 ] ؛ ولهذا يعذبون على كل أمر تركوه ، وعلى كل نهي ارتكبوه ؛ ولهذا كان أصحَّ الأقوال أنهم مكلفون بفروع الشرائع أمرها ونهيها بالنسبة إلى الدار الآخرة .
{ أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض } أي ما كانوا معجزين الله في الدنيا أن يعاقبهم . { وما كان لهم من دون الله من أولياء } يمنعونهم من العقاب ولكنه أخر عقابهم إلى هذا اليوم ليكون اشد وأدوم . { يُضاعف لهم العذاب } استئناف وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب " يُضَّعْفَ " بالتشديد . { ما كانوا يستطيعون السّمع } لتصامهم عن الحق وبغضهم له . { وما كانوا يُبصِرون } لتعاميهم عن آيات الله ، وكأنه العلة لمضاعفة العذاب . وقيل هو بيان ما نفاه من ولاية الآلهة بقوله : { وما كان لهم من دون الله من أولياء } فإن ما لا يسمع ولا يبصر لا يصلح للولاية وقوله : { يضاعف لهم العذاب } اعتراض .
و { معجزين } معناه : مفلتين لا يقدر عليهم . وخص ذكر { الأرض } لأن تصرف ابن آدم وتمتعه إنما هو فيها وهي قصاراه ، لا يستطيع النفوذ منها . وقوله : { وما كان لهم من دون الله من أولياء } يحتمل معنيين :
أحدهما : أن نفي أن يكون لهم ولي أو ناصر كائناً من كان .
والثاني : أن يقصد وصف الأصنام والآلهة بأنهم لم يكونوا أولياء حقيقة ، وإن كانوا هم يعتقدون أنهم أولياء .
ثم أخبر أنهم يضاعف لهم العذاب يوم القيامة ، أي يشدد حتى يكون ضعفي ما كان . و { يضاعف } فعل مستأنف وليس بصفة .
وقوله : { وما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون } يحتمل خمسة أوجه :
أحدها : أن يصف هؤلاء الكفار بهذه الصفة على معنى أن الله ختم عليهم بذلك ، فهم لا يسمعون سماعاً ينتفعون به ولا يبصرون كذلك .
والثاني : أن يكون وصفهم بذلك من أجل بغضتهم في النبي صلى الله عليه وسلم فهم لا يستطيعون أن يحملوا أنفسهم على السمع منه والنظر إليه وينظر إلى هذا حشو الطفيل بن عمرو أذنيه بالكرسف{[6294]} ، وإباية قريش وقت الحديبية أن يسمعوا ما نقل إليهم من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ردهم عن ذلك مشيختهم .
والثالث : أن يكون وصف بذلك الأصنام والآلهة التي نفى عنها - على التأويل المقدم - أن تكون أولياء .
و { ما } في هذه الوجوه نافية .
والرابع : أن يكون التقدير : يضاعف لهم العذاب بما كانوا : بحذف الجار{[6295]} ، وتكون { ما } مصدرية ، وهذا قول فيه تحامل . قاله الفراء ، وقرنه بقوله : أجازيك ما صنعت بي .
والخامس : أن تكون { ما } ظرفية ، يضاعف لهم مدة استطاعتهم السمع والبصر ، وقد أعلمت الشريعة أنهم لا يموتون فيها أبداً فالعذاب ، - إذن - متماد أبداً .
وقدم { السمع } في هذه الآية على «البصر » لأن حاسته أشرف من حاسة البصر ، إذ عليه تبنى في الأطفال معرفة دلالات الأسماء ، وإذ هو كاف في أكثر المعقولات دون البصر إلى غير ذلك .