{ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ } أي : يطلبون وتتعلق بهم أمانيهم ومشيئتهم ، من المطاعم والمشارب اللذيذة والملابس الفاخرة والنساء الجميلات والقصور العاليات والجنات والحدائق المرجحنة والفواكه التي تسر ناظريها وآكليها ، من حسنها وتنوعها وكثرة أصنافها والأنهار التي تجري في رياض الجنة وبساتينها ، حيث شاءوا يصرفونها ويفجرونها أنهارا من ماء غير آسن وأنهارا من لبن لم يتغير طعمه وأنهارا من خمر لذة للشاربين وأنهارا من عسل مصفى وروائح طيبة ، ومساكن مزخرفة ، وأصوات شجية تأخذ من حسنها بالقلوب ومزاورة الإخوان ، والتمتع بلقاء الأحباب ، وأعلى من ذلك كله التمتع بالنظر إلى وجه الرب الرحيم وسماع كلامه ، والحظوة بقربه والسعادة برضاه والأمن من سخطه واستمرار هذا النعيم ودوامه وزيادته على ممر الأوقات وتعاقب الآنات { كَانَ } دخولها والوصول إليها { عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا } يسأله إياها ، عباده المتقون بلسان حالهم ولسان مقالهم ، فأي الدارين المذكورتين خير وأولى بالإيثار ؟ وأي : العاملين عمال دار الشقاء أو عمال دار السعادة أولى بالفضل والعقل والفخر يا أولي الألباب ؟
لقد وضح الحق واستنار السبيل فلم يبق للمفرط عذر في تركه الدليل ، فنرجوك يا من قضيت على أقوام بالشقاء وأقوام بالسعادة أن تجعلنا ممن كتبت لهم الحسنى وزيادة ، ونستغيث بك اللهم من حالة الأشقياء ونسألك المعافاة منها .
{ لَّهُمْ فِيهَا } فى تلك الجنة { مَا يَشَآءُونَ } أى : ما يشاءونه من خيرات وملذات حالمة كونهم { خَالِدِينَ } فيها خلودا أبديا .
{ كَانَ على رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً } أى : كان ذلك العطاء الكريم الذى تفضلنا به على عبادنا المتقين ووعدناهم به ، من حقهم أن يسألونا تحقيقه لعظمه وسمو منزلته ، كما قال - تعالى - حكاية عنهم فى آية أخرى { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد } وعلى هذا المعنى يكون قولا { مَّسْئُولاً } بمعنى جديرا أن يسأل عنه المؤمنون لعظم شأنه .
ويجوز أن يكون السائلون عنه الملائكة ، كما فى قوله - تعالى - : { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ . . } ويرى بعضهم أن المعنى ، كان ذلك العطاء للمؤمنين وعدا منا لهم ، ونحن بفضلنا وكرمنا سننفذ هذا الوعد ، قال - تعالى - : { وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ . . . } هذا ، وقد تكلم العلماء هنا عن المراد بلفظ " خير " فى قوله - تعالى - { قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد } وقالوا : إن هذا اللفظ صيغة تفضيل ، والمفضل عليه هنا وهو العذاب لا خير فيه البته ، فكيف عبر - سبحانه - بلفظ خير ؟
وقد أجابوا عن ذلك بأن المفاضلة هنا غير مقصودة ، وإنما المقصود هو التهكم بهؤلاء الكافرين الذين آثروا الضلالة على الهداية ، واستحبوا الكفر على الإيمان .
قال أبو حيان - رحمه الله - : و " خير " هنا ليست تدل على الأفضلية ، بل هى على ما جرت به عادة العرب فى بيان فضل الشىء ، وخصوصيته بالفضل دون مقابلة . كقول الشاعر : فشر كما لخير كما الفداء . . . وكقول العرب : الشقاء أحب إليك أم السعادو . وكقوله - تعالى - حكاية عن يوسف - عليه السلام - : { رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ }
وفي هذا الموقف المكروب الرعيب يعرض ما أعد للمتقين ، الذين يخشون ربهم ويرجون لقاءه ، ويؤمنون بالساعة . يعرض في أسلوب متهكم كذلك ساخر
قل : أذلك خير ? أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاءا ومصيرا ، لهم فيها ما يشاءون خالدين . كان على ربك وعدا مسؤولا ? .
أذلك الكرب الفظيع خير ? أم جنة الخلد التي وعدها الله المتقين ، وخولهم حق سؤاله عنها ، وطلب تحقيق وعده الذي لا يخلف ، ومنحهم أن يطلبوا فيها ما يشاءون ? وهل هناك وجه للموازنة ? ولكنها السخرية المريرة بالساخرين الذين يتطاولون على الرسول الكريم .
{ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ } [ أي ]{[21429]} : من الملاذ : من مآكل ومشارب ، وملابس ومساكن ، ومراكب ومناظر ، وغير ذلك ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خَطَر على قلب أحد{[21430]} . وهم في ذلك خالدون أبدا دائما{[21431]} سرمدا بلا انقطاع ولا زوا ، ولا انقضاء ، لا يبغون عنها حوَلا . وهذا من وَعْد الله الذي تفضل به عليهم ، وأحسن به إليهم ، ولهذا قال : { كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا } أي لا بد أن يقع وأن يكون ، كما حكاه أبو جعفر بن جرير ، عن بعض علماء العربية أن معنى قوله : { وَعْدًا مَسْئُولا } أي : وعدا واجبا .
وقال ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن ابن عباس { كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا } يقول : سلوا الذي واعدتكم - أو قال : واعدناكم - نُنْجِزْ .
وقال محمد بن كعب القُرَظي في قوله : { كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولا } : إن الملائكة تسأل لهم ذلك : { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ } [ غافر : 8 ] .
وقال أبو حازم : إذا كان يوم القيامة قال المؤمنون : ربنا عملنا لك بالذي أمرتنا ، فأنجز لنا ما وعدتنا . فذلك قوله : { وَعْدًا مَسْئُولا } .
وهذا المقام في هذه السورة من ذكر النار ، ثم التنبيه على حال أهل الجنة ، كما ذكر تعالى في سورة " الصافات " حال أهل الجنة ، وما فيها من النضرة والحبور ، ثم قال : { أَذَلِكَ خَيْرٌ نزلا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } [ الصافات : 62 - 70 ] .
{ لهم فيها ما يشاءون } ما يشاؤونه من النعيم ، ولعله تقصر همم كل طائفة على ما يليق برتبته إذ الظاهر أن الناقص لا يدرك شأو الكامل بالتشهي ، وفيه تنبيه على أن كل المرادات لا تحصل إلا في الجنة . { خالدين } حال من أحد ضمائرهم . { كان على ربك وعدا مسئولا } الضمير في { كان } ل { ما يشاؤون } والوعد الموعود أي : كان ذلك موعدا حقيقيا بأن يسأل ويطلب ، أو مسؤولا سأله الناس في دعائهم { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } . أو الملائكة بقولهم { ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم } ، وما في { على } من معنى الوجوب لامتناع الخلف في وعده تعالى ولا يلزم منه الإلجاء إلى الإنجاز ، فإن تعلق الإرادة بالوعود مقدم على الوعد الموجب للإنجاز .
ثم تختلف المنازل في الوعد بحسب تقوي المعاصي{[8792]} ، وقوله { وعداً مسؤولاً } يحتمل معنيين وهو قول ابن عباس رضي الله عنه وابن زيد إنه مسؤول لأن المؤمنين سألوه أو يسألونه ، وروي أن الملائكة سألت الله نعيم المتقين فوعدهم بذلك ، قال محمد بن كعب هو قول الملائكة ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم{[8793]} ، والمعنى الثاني ذكره الطبري عن بعض أهل العربية أن يريد وعداً واجباً قد حتمه فهو لذلك معد أن يسأل ويقتضي{[8794]} وليس يتضمن هذا التأويل أن أحداً سأل الوعد المذكور .