مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لَّهُمۡ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَٰلِدِينَۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ وَعۡدٗا مَّسۡـُٔولٗا} (16)

أما قوله تعالى : { لهم فيها ما يشاءون خالدين } فهو نظير قوله : { ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : لقائل أن يقول أهل الدرجات النازلة إذا شاهدوا الدرجات العالية لابد وأن يريدوها ، فإذا سألوها ربهم ، فإن أعطاهم إياها لم يبق بين الناقص والكامل تفاوت في الدرجة ، وإن لم يعطها قدح ذلك في قوله : { لهم فيها ما يشاءون } وأيضا فالأب إذا كان ولده في درجات النيران وأشد العذاب إذا اشتهى أن يخلصه الله تعالى من ذلك العذاب فلابد وأن يسأل ربه أن يخلصه منه ، فإن فعل الله تعالى ذلك قدح في أن عذاب الكافر مخلد ، وإن لم يفعل قدح ذلك في قوله : { ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم } وفي قوله : { لهم فيها ما يشاءون } وجوابه : أن الله تعالى يزيل ذلك الخاطر عن قلوب أهل الجنة بل يكون اشتغال كل واحد منهم بما فيه من اللذات شاغلا عن الالتفات إلى حال غيره .

المسألة الثانية : شرط نعيم الجنة أن يكون دائما ، إذ لو انقطع لكان مشوبا بضرب من الغم ولذلك قال المتنبي :

أشد الغم عندي في سرور *** تيقن عنه صاحبه انتقالا

ولذلك اعتبر الخلود فيه فقال : { لهم فيها ما يشاءون خالدين } .

المسألة الثالثة : قوله تعالى : { لهم فيها ما يشاءون } كالتنبيه على أن حصول المرادات بأسرها لا يكون إلا في الجنة فأما في غيرها فلا يحصل ذلك ، بل لابد في الدنيا من أن تكون راحاتها مشوبة بالجراحات ، ولذلك قال عليه السلام : «من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق ، فقيل وما هو يا رسول الله ؟ فقال سرور يوم » .

أما قوله : { كان على ربك وعدا مسئولا } ففيه مسائل :

المسألة الأولى : كلمة ( على ) للوجوب قال عليه السلام : «من نذر وسمى فعليه الوفاء بما سمى » فقوله : { كان على ربك } يفيد أن ذلك واجب على الله تعالى ، والواجب هو الذي لو لم يفعل لاستحق تاركه بفعله الذم ، أو أنه الذي يكون عدمه ممتنعا ، فإن كان الوجوب على التفسير الأول كان تركه محالا ، لأن تركه لما استلزم استحقاق الذم واستحقاق الله تعالى الذم محال ، ومستلزم المحال محال كان ذلك الترك محالا والمحال غير مقدور ، فلم يكن الله تعالى قادرا على أن لا يفعل فيلزم أن يكون ملجأ إلى الفعل ، وإن كان الوجوب على التفسير الثاني وهو أن يقال الواجب ما يكون عدمه ممتنعا يكون القول بالإلجاء لازما ، فلم يكن الله قادرا ، فإن قيل إنه ثبت بحكم الوعد ، فنقول لو لم يفعل لانقلب خبره الصدق كذبا وعلمه جهلا وذلك محال ، والمؤدي إلى المحال محال فالترك محال فيلزم أن يكون ملجأ إلى الفعل والملجأ إلى الفعل لا يكون قادرا ، ولا يكون مستحقا للثناء والمدح ، تمام السؤال وجوابه : أن فعل الشيء متقدم على الإخبار عن فعله وعن العلم بفعله ، فيكون ذلك الفعل فعلا لا على سبيل الإلجاء ، فكان قادرا ومستحقا للثناء والمدح .

المسألة الثانية : قوله : { وعدا } يدل على أن الجنة حصلت بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق وقد تقدم تقريره .

المسألة الثالثة : قوله : { مسئولا } ذكروا فيه وجوها . أحدها : أن المكلفين سألوه بقولهم : { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك } ، وثانيها : أن المكلفين سألوه بلسان الحال لأنهم لما تحملوا المشقة الشديدة في طاعته كان ذلك قائما مقام السؤال ، قال المتنبي :

وفي النفس حاجات وفيك فطانة *** سكوتي كلام عندها وخطاب

وثالثها : الملائكة سألوا الله تعالى ذلك بقولهم : { ربنا وأدخلهم جنات عدن } . ورابعها : { وعدا مسئولا } أي واجبا ، يقال لأعطينك ألفا وعدا مسئولا أي واجبا وإن لم تسأل ، قال الفراء . وسائر الوجوه أقرب من هذا لأن سائر الوجوه أقرب إلى الحقيقة ، وما قاله الفراء مجاز . وخامسها : مسئولا أي من حقه أن يكون مسئولا لأنه حق واجب ، إما بحكم الاستحقاق على قول المعتزلة ، أو بحكم الوعد على قول أهل السنة .