اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَّهُمۡ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَٰلِدِينَۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ وَعۡدٗا مَّسۡـُٔولٗا} (16)

قوله : { لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ } هو نظير قوله : { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تشتهي أَنفُسُكُمْ } [ فصلت : 31 ] ، { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس }{[35505]} [ الزخرف : 71 ] . فإن قيل : أهل الدرجات النازلة إذا شاهدوا الدرجات العالية لا بد وأن يريدوها ، فإذا سألوها ربهم ، فإن أعطاها لم يبق بين الناقص والكامل تفاوت في الدرجة ، وإن لم يعطها قدح ذلك في قوله { لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ } ، وأيضاً فالأب إذا كان ولده في دركات النيران وأشد العذاب فلو اشتهى أن يخلصه الله تعالى{[35506]} من ذلك العذاب ، ( فلا بد وأن يسأل ربه أن يخلصه منه ) {[35507]} ، فإن فعل قدح ذلك في أن عذاب الكافر مخلد ، وإن لم يفعل قدح ذلك في قوله : { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تشتهي أَنفُسُكُمْ } [ فصلت : 31 ] ، وفي قوله : ( { لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ } ){[35508]} .

والجواب أن الله تعالى يزيل{[35509]} هذا الخاطر عن قلوب أهل الجنة ويشتغلون{[35510]} بما هم فيه من اللذات عن الالتفات إلى حال غيرهم{[35511]} .

قوله : «خَالِدينَ » منصوب على الحال ، إما من فاعل «يَشَاءونَ » وإما من فاعل «لَهُمْ »{[35512]} ، لوقوعه خبراً ، والعائد على «ما » محذوف ، أي : لهم فيها الذي يشاءونه حال كونهم خالدين .

قوله : { كَانَ على رَبِّكَ } في اسم «كَانَ » وجهان :

أحدهما : أنه ضمير «ما يشاءون » ذكره أبو البقاء{[35513]} .

والثاني : أن{[35514]} يعود على الوعد المفهوم من قوله «وُعِدَ المُتَّقُونَ »{[35515]} . و «مَسْؤولاً » على المجاز ، يسأل هل وفى لك أم لا ، أو يسأله من وعد به .

فصل

قوله : { كَانَ على رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً } يدل على أن الجنة حصلت بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق كما تقدم{[35516]} . وقوله : «مَسْؤولاً » أي : مطلوباً ، قيل : إن المتقين سألوا ربهم في الدنيا فقالوا : { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ }{[35517]} [ آل عمران : 194 ] وقال محمد بن كعب القرظي : الملائكة سألوا ربهم للمؤمنين بقولهم{[35518]} : { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ }{[35519]} [ غافر : 8 ] .

وقيل : إن المكلفين سألوه{[35520]} بلسان الحال ؛ لأنهم لما تحملوا المشقة الشديدة في طاعة الله كان ذلك قائماً مقام السؤال ، قال المتنبي{[35521]} :

وَفِي النَّفْسِ حَاجَاتٌ وَفِيكَ فَطَانَةٌ *** سُكُوتِي كَلاَمٌ عَنْدَهَا وَخِطَابُ{[35522]}

وقيل : «وَعْداً مَسؤولاً » أي : واجباً وإن لم يسأل . قاله الفراء{[35523]} وقيل : «مَسْؤولاً » أي : من حقه أن يكون مسؤولاً ، لأنه حق واجب إما بحكم الاستحقاق على قول المعتزلة ، أو بحكم الوعد على قول أهل السنة{[35524]} .


[35505]:[الزخرف: 71] و "تشتهي" بغير هاء بعد الياء قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر، والباقون "تشتهيه" بهاء بعد الياء. السبعة (588-589).
[35506]:تعالى: سقط من ب.
[35507]:ما بين القوسين تكملة من الفخر الرازي.
[35508]:ما بين القوسين في ب: ما لهم ما يشاءون.
[35509]:في ب: يزيد. وهو تحريف.
[35510]:في ب: ويشغلون.
[35511]:انظر الفخر الرازي 24/59.
[35512]:انظر البيان 2/203. التبيان 2/981.
[35513]:قال أبو البقاء: (الضمير في "كان" يعود على "ما") التبيان 2/982. وانظر أيضا الكشاف 3/9.
[35514]:في ب: أنه.
[35515]:من الآية "السابقة (15). التبيان 2/982.
[35516]:انظر الفخر الرازي 24/60.
[35517]:[آل عمران: 194]. انظر الفخر الرازي 24/60.
[35518]:بقولهم: سقط من ب.
[35519]:[غافر: 8]. انظر القرطبي 13/ 9 – 10.
[35520]:في ب: سألوا.
[35521]:هو أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الكوفي الكندي، أبو الطيب المتنبي الشاعر الحكيم، وأحد مفاخر الأدب العربي، له الأمثال السائرة، والحكم البالغة والمعاني المبتكرة مات سنة 354 هـ. الأعلام 1/110 – 111.
[35522]:ينظر الفخر الرازي 24/60. البيت من بحر الطويل قاله المتنبي من قصيدة في مدح كافور، وهو في ديوانه 1/324، يقول: إن في نفسي حاجات لا ينبعث بها لساني وأنت من الفطانة بحيث تدركها دون أن أذكرها، فسكوتي عنها يقوم مقام الإفصاح عنها.
[35523]:معاني القرآن 2/263.
[35524]:انظر الفخر الرازي 24/60.