وأما { وَالَّذِينَ آمَنُوا } بما أنزل الله على رسله عموما ، وعلى محمد صلى الله عليه وسلم خصوصا ، { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } بأن قاموا بما عليهم من حقوق الله ، وحقوق العباد الواجبة والمستحبة .
{ كَفَّرَ } الله { عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } صغارها وكبارها ، وإذا كفرت سيئاتهم ، نجوا من عذاب الدنيا والآخرة . { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } أي : أصلح دينهم ودنياهم ، وقلوبهم وأعمالهم ، وأصلح ثوابهم ، بتنميته وتزكيته ، وأصلح جميع أحوالهم ، والسبب في ذلك أنهم :
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما أعده للمؤمنين من ثواب فقال : { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ } الأعمال { الصالحات } التى توافر فيها الإِخلاص والاتباع لهدى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقوله : { وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ } من باب عطف الخاص على العام ، فقد أفرده بالذكر مع أنه داخل فى الإِيمان والعمل الصالح ، للإِشارة إلى أنه شرط فى صحة الإِيمان ، وللإِشعار بسمو مكانه هذا المنزل عليه - صلى الله عليه وسلم - وبعلو قدره .
وقوله : { وَهُوَ الحق مِن رَّبِّهِمْ } جملة معترضة ، لتأكيد حقية هذا المنزل على النبى - صلى الله عليه وسلم - وتقرير كماله وصدقه . أى : وهذا المنزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو الحق الكائن من عند الله - تعالى - رب العالمين ، لا من عند أحد سواه .
وقوله : { كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } خبر الموصول ، أى : والذين آمنا وعملوا الأعمال الصالحة ، محا عنهم - سبحانه - ما عملوه من أعمال سيئة ، ولم يعاقبهم عليها ، فضلا منه وكرما .
فقوله : { كَفَّرَ } من الكَفْرِ بمعنى الستر والتغطية ، يقال : كفر الزراع زرعه إذا غطاه ، وستره حماية له مما يضره . به هنا : المحو والإِزالة على سبيل المجاز .
وقوله : { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } معطوف على ما قبله . أى : محا عنهم بسبب إيمانهم وعملهم الصالح ، ما اقترفوه من سيئات ، كما قال - تعالى - : { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } ولم يكتف - سبحانه - بذلك ، بل وأصلح أحوالهم وأمورهم وشئونهم ، بأن وفقهم للتوبة الصادقة فى الدنيا ، وبأن منحهم الثواب الجزيل فى الآخرة .
فالمراد بالبال هنا : الحال والأمر والشأن .
قال القرطبى : والبال كالمصدر ، ولا يعرف منه فعل ، ولا تجمعه العرب إلا فى ضرورة الشعر ، فيقولون فيه بالات . .
وهذه الجملة الكريمة وهى قوله : { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } نعمة عظمى لا يحس بها إلا من وهبه الله - تعالى - إياها ، فإن خزائن الأرض لا تنفع صاحبها إذا كان مشتت القلب ، ممزق النفس ، مضطرب المشاعر والأحوال . أما الذى ينفعه فهو راحة البان . وطمأنينة النفس ، ورضا القلب ، والشعور بالأمان والسلام .
وفي الجانب الآخر : ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم ) . . والإيمان الأول يشمل الإيمان بما نزل على محمد . ولكن السياق يبرزه ويظهره ليصفه بصفته : ( وهو الحق من ربهم )ويؤكد هذا المعنى ويقرره . وإلى جوار الإيمان المستكن في الضمير ، العمل الظاهر في الحياة . وهو ثمرة الإيمان الدالة على وجوده وحيويته وانبعاثه .
وهؤلاء : ( كفر عنهم سيئاتهم ) . . في مقابل إبطال أعمال الذين كفروا ولو كانت حسنات في شكلها وظاهرها . وبينما يبطل العمل ولو كان صالحا من الكافرين ، فإن السيئة تغفر للمؤمنين . وهو تقابل تام مطلق يبرز قيمة الإيمان وقدره عند الله ، وفي حقيقة الحياة . .
( وأصلح بالهم ) . . وإصلاح البال نعمة كبرى تلي نعمة الإيمان في القدر والقيمة والأثر . والتعبير يلقي ظلال الطمأنينة والراحة والثقة والرضى والسلام . ومتى صلح البال ، استقام الشعور والتفكير ، واطمأن القلب والضمير ، وارتاحت المشاعر والأعصاب ، ورضيت النفس واستمتعت بالأمن والسلام . . وماذا بعد هذا من نعمة أو متاع ? ألا إنه الأفق المشرق الوضيء الرفاف .
ثم قال : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي : آمنت قلوبهم وسرائرهم ، وانقادت جوارحهم وبواطنهم وظواهرهم ، { وَآمَنُوا بِمَا نزلَ عَلَى مُحَمَّدٍ } ، عطف خاص على عام ، وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلوات الله وسلامه عليه .
وقوله : { وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ } جملة معترضة حسنة ؛ ولهذا قال : { كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } قال ابن عباس : أي أمرهم . وقال مجاهد : شأنهم . وقال قتادة وابن زيد : حالهم . والكل متقارب . وقد جاء في حديث تشميت العاطس : " يهديكم الله ويصلح بالكم " {[26606]} .
{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات } يعم المهاجرين والأنصار والذين آمنوا من أهل الكتاب وغيرهم . { وآمنوا بما نزل على محمد } تخصيص للمنزل عليه مما يجب الإيمان به تعظيما له وإشعارا بأن الإيمان لا يتم دونه ، وأنه الأصل فيه ولذلك أكده بقوله : { وهو الحق من ربهم } اعتراضا على طريقة الحصر . وقيل حقيقته بكونه ناسخا لا ينسخ ، وقرئ " نزل " على البناء للفاعل و " أنزل " على البناءين و " نزل " بالتخفيف . { كفر عنهم سيئاتهم } سترها بالإيمان وعملهم الصالح . { وأصلح بالهم } في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد .
وقرأ الناس : «نُزّل » بضم النون وشد الزاي . وقرأ الأعمش : «أنزل » معدى بالهمزة وقوله تعالى : { وأصلح بالهم } قال قتادة معناه : وأصلح حالهم . وقرأ ابن عباس «أمرهم » . وقال مجاهد : شأنهم .
وتحرير التفسير في اللفظة أنها بمعنى الفكر والموضع الذي فيه نظر الإنسان وهو القلب ، فإذا صلح ذلك صلحت حاله ، فكأن اللفظة مشيرة إلى صلاح عقيدتهم وغير ذلك من الحال تابع ، فقولك : خطر في بالي كذا ، وقولك : أصلح الله بالك : المراد بهما واحد ، ذكره المبرد . والبال : مصدر كالحال والشأن ، ولا يستعمل منها فعل ، وكذلك عرفه أن لا يثنى ولا يجمع ، وقد جاء مجموعاً لكنه شاذ ، فإنهم قالوا بالات .