{ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } يذكرهم ما ينفعهم ويحثهم عليه وما يضرهم ، ويرهبهم منه { إِلَّا اسْتَمَعُوهُ } سماعا ، تقوم عليهم به الحجة ، { وَهُمْ يَلْعَبُونَ لَاهِيَةً* قُلُوبُهُمْ } أي : قلوبهم غافلة معرضة لاهية بمطالبها الدنيوية ، وأبدانهم لاعبة ، قد اشتغلوا بتناول الشهوات والعمل بالباطل ، والأقوال الردية ، مع أن الذي ينبغي لهم أن يكونوا بغير هذه الصفة ، تقبل قلوبهم على أمر الله ونهيه ، وتستمعه استماعا ، تفقه المراد منه ، وتسعى جوارحهم ، في عبادة ربهم ، التي خلقوا لأجلها ، ويجعلون القيامة والحساب والجزاء منهم على بال ، فبذلك يتم لهم أمرهم ، وتستقيم أحوالهم ، وتزكوا أعمالهم ، وفي معنى قوله : { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } قولان : أحدهما أن هذه الأمة هي آخر الأمم ، ورسولها آخر الرسل ، وعلى أمته تقوم الساعة ، فقد قرب الحساب منها بالنسبة لما قبلها من الأمم ، لقوله صلى الله عليه وسلم " بعثت أنا والساعة كهاتين " وقرن بين إصبعيه ، السبابة والتي تليها .
والقول الثاني : أن المراد بقرب الحساب الموت ، وأن من مات ، قامت قيامته ، ودخل في دار الجزاء على الأعمال ، وأن هذا تعجب من كل غافل معرض ، لا يدري متى يفجأه الموت ، صباحا أو مساء ، فهذه حالة الناس كلهم ، إلا من أدركته العناية الربانية ، فاستعد للموت وما بعده .
وقوله - سبحانه - : { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ استمعوه وَهُمْ يَلْعَبُونَ بيان لمواقف هؤلاء الغافلين اللاهين ممن يذكرهم بأهوال ذلك اليوم .
والمراد بالذكر : ما ينزل من آيات القرآن على النبى - صلى الله عليه وسلم - .
والمراد بالمحدث : الحديث العهد بالنزول على النبى - صلى الله عليه وسلم - وهو صفة لذكر .
أى : أن هؤلاء الغافلين المعرضين عن الاستعداد ليوم الحساب ، لا يصل إلى أسماعهم شىء من القرآن الكريم ، الذى أنزله الله - تعالى - على قلب نبيه - صلى الله عليه وسلم - آية فآية ، أو سورة بعد سورة فى أوقات متقاربة ، إلا استمعوا إلى هذا القرآن المحدث تنزيله على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهم يلعبون ، دون أن يحرك منهم عاطفة نحو الإيمان به ، فهم لانطماس بصيرتهم ، وقسوة قلوبهم ، وجحود نفوسهم للحق ، لا يتعظون ولا يعتبرون .
وقوله : { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ . . . } يشعر بأن ما نزل من قرآن قد وصل إليهم دون أن يتعبوا أنفسهم فى الحصول عليه ، بل أتاهم وهم فى أماكنهم بدون سعى إليه .
وقوله { ذِكْرٍ } فاعل و { مِّن } مزيدة للتأكيد .
وقوله { مِّن رَّبِّهِمْ } متعلق بمحذوف صفة لذكر ، و { مِّن } لابتداء الغاية أى : ما يأتيهم من ذكر كائن من ربهم وخالقهم ورازقهم ، فى حال من الأحوال ، إلا استمعوه وهم هازلون مستهترون .
ثم أخبر تعالى أنهم لا يصغون إلى الوحي الذي أنزل الله على رسوله والخطاب مع قريش ومن شابههم من الكفار ، فقال { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } أي جديد إنزاله { إلا استمعوه وهم يلعبون } كما قال ابن عباس : ما لكم تسألون أهل الكتاب عما بأيديهم وقد حرفوه وبدلوه وزادوا فيه ونقصوا منه ، وكتابكم أحدث الكتب بالله تقرؤونه محضاً لم يشب ، رواه البخاري بنحوه .
القول في تأويل قوله تعالى : { مَا يَأْتِيهِمْ مّن ذِكْرٍ مّن رّبّهِمْ مّحْدَثٍ إِلاّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ما يحدث الله من تنزيل شيء من هذا القرآن للناس ويذكرهم به ويعظهم ، إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبّهِمْ مُحْدَثٍ . . . الاَية ، يقول : ما ينزل عليهم من شيء من القرآن إلا استمعوه وهم يلعبون .
وقوله { ما يأتيهم } وما بعده مختص بالكفار ، وقوله { من ذكر من ربهم محدث } قالت فرقة المراد ما ينزل من القرآن ومعناه { محدث } نزوله وإتيانه إياهم لا هو في نفسه ، وقالت فرقة المراد ب «الذكر » أقوال النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الشريعة ووعظه وتذكيره فهو محدث على الحقيقة وجعله من ربه من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى ولا يقول إلا ما هو من عند الله ، وقالت فرقة «الذكر » الرسول نفسه واحتجت بقوله تعالى { قد أنزل الله إليكم ذكراً رسولاً يتلو عليكم آيات الله مبينات }{[8196]} [ الطلاق : 11 ] فهو محدث على الحقيقة ويكون ، قوله { استمعوه } بمعنى استمعوا إليه ، وقوله تعالى : { وهو يلعبون } جملة في موضع الحال أي أسماعهم في حال لعب غير نافع ولا واصل النفس .
جملة مبينة لجملة { وهم في غفلة معرضون } [ الأنبياء : 1 ] لبيان تمكن الغفلة منهم وإعراضهم ، بأنهم إذا سمعوا في القرآن تذكيراً لهم بالنظر والاستدلال اشتغلوا عنه باللعب واللهو فلم يفقهوا معانيه وكان حظهم منه سماع ألفاظه كقوله تعالى : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون } في سورة [ البقرة : 171 ] .
والذكر : القرآن أطلق عليه اسم الذكر الذي هو مصدر لإفادة قوة وصفه بالتذكير .
والمحدَث : الجديد . أي الجديد نزوله متكرراً ، وهو كناية عن عدم انتفاعهم بالذكر كلما جاءهم بحيث لا يزالون بحاجة إلى إعادة التذكير وإحداثه مع قطع معذرتهم لأنه لو كانوا سمعوا ذكراً واحداً فلم يعبأوا به لانتحلوا لأنفسهم عذراً كانوا ساعتئذ في غفلة ، فلما تكرر حدثان إتيانه تبين لكل منصف أنهم معرضون عنه صداً .
ونظير هذا قوله تعالى : { وما يأتيهم من ذكر من الرحمان محدث إلا كانوا عنه معرضين } في سورة [ الشعراء : 5 ] ، وليس المراد بمحدث ما قابل القديم في اصطلاح علم الكلام لعدم مناسبته لسياق النظم .
ومسألة صفة كلام الله تعالى تقدم الخوض فيها عند قوله تعالى : { وكلم الله موسى تكليماً } في سورة [ النساء : 164 ] .
وجملة { استمعوه } حال من ضمير النصب في { يأتيهم } وهذا الحال مستثنى من عموم أحوال أي ما يأتيهم ذكر في حال إلا في حال استماعهم .
وجملة { وهم يلعبون } حال لازمة من ضمير الرفع في { استمعوه } مقيّدة لجملة { استمعوه } لأن جملة { استمعوه } حال باعتبار أنها مقيّدة بحال أخرى هي المقصودة من التقييد وإلاّ لصار الكلام ثناء عليهم . وفائدة هذا الترتيب بين الجملتين الحاليتين الزيادةُ لِقطع معذرتهم المستفاد من قوله { مُحْدَث } كما علمت .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم نعتهم، فقال سبحانه: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم} يعني: من بيان من ربهم يعنى القرآن {محدث} يقول: الذي يحدث الله، عز وجل، إلى النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن لا محدث عند الله تعالى {إلا استمعوه وهم يلعبون}، يعني: لاهين عن القرآن.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ما يحدث الله من تنزيل شيء من هذا القرآن للناس ويذكرهم به ويعظهم، "إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم".
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقال بعضهم: {محدث} لأن الله أنزل هذا القرآن بالتفاريق، وأحدث إنزاله في كل وقت على قدر الحاجة. فعلى ما نزل بالتفاريق أحدثوا هم -أعني الكفرة- تكذيبه وردَّه على ما ذكر {فزادتهم رجسا إلى رجسهم} [التوبة: 125] ونحوه. فهو محدث من الوجوه التي ذكرنا؛ لأن كل موصوف بالإتيان فهو محدث...
ودل قوله: {إلا استمعوه وهم يلعبون} أن استماعهم إياه استماع استهزاء به.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} لا يعتبرون ولا يتّعظون.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
قرّر إعراضهم عن تنبيه المنبه وإيقاظ الموقظ: بأنّ الله يجدّد لهم الذكر وقتاً فوقتاً، ويحدث لهم الآية بعد الآية والسورة بعد السورة، ليكرّر على أسماعهم التنبيه والموعظة لعلهم يتعظون، فما يزيدهم استماع الآي والسور وما فيها من فنون المواعظ والبصائر -التي هي أحق الحق وأجدّ الجدّ- إلا لعباً وتلهياً واستسخاراً. والذكر: هو الطائفة النازلة من القرآن.
{إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم} ففيه مسائل: المسألة الأولى: أن ذلك ذم للكفار وزجر لغيرهم عن مثله؛ لأن الانتفاع بما يسمع لا يكون إلا بما يرجع إلى القلب من تدبر وتفكر، وإذا كانوا عند استماعه لاعبين حصلوا على مجرد الاستماع الذي قد تشارك البهيمة فيه الإنسان...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ثم أخبر تعالى أنهم لا يصغون إلى الوحي الذي أنزل الله على رسوله والخطاب مع قريش ومن شابههم من الكفار، فقال {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} أي جديد إنزاله {إلا استمعوه وهم يلعبون} كما قال ابن عباس: ما لكم تسألون أهل الكتاب عما بأيديهم وقد حرفوه وبدلوه وزادوا فيه ونقصوا منه، وكتابكم أحدث الكتب بالله تقرؤونه محضاً لم يُشَب، رواه البخاري بنحوه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أخبر سبحانه عن غفلتهم وإعراضهم، علل ذلك بقوله: {ما يأتيهم} وأعرق في النفي بقوله: من {ذكر} أي وحي يُذكِّر بما جُعل في العقول من الدلائل عليه سبحانه،ويوجبُ الشرف لمن اتَّبعه، {من ربهم} المحسن إليهم بخلْقهم وتذكيرهم، قديم لكونه صفة له {محدث} إنزاله {إلا استمعوه} أي قصدوا سماعه، وهو أجد الجد وأحق الحق {وهم} أي والحال أنهم {يلعبون} أي يفعلون فعل اللاعبين بالاستهزاء به ووضعه في غير مواضعه وجعلهم استماعهم له لإرادة الطعن فيه، فهو قريب من قوله: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغو فيه} [فصلت: 26]..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة مبينة لجملة {وهم في غفلة معرضون} لبيان تمكن الغفلة منهم وإعراضهم، بأنهم إذا سمعوا في القرآن تذكيراً لهم بالنظر والاستدلال اشتغلوا عنه باللعب واللهو فلم يفقهوا معانيه وكان حظهم منه سماع ألفاظه كقوله تعالى: {ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون} في سورة [البقرة: 171].
والذكر: القرآن أطلق عليه اسم الذكر الذي هو مصدر لإفادة قوة وصفه بالتذكير.
والمحدَث: الجديد. أي الجديد نزوله متكرراً، وهو كناية عن عدم انتفاعهم بالذكر كلما جاءهم بحيث لا يزالون بحاجة إلى إعادة التذكير وإحداثه مع قطع معذرتهم لأنه لو كانوا سمعوا ذكراً واحداً فلم يعبأوا به لانتحلوا لأنفسهم عذراً كانوا ساعتئذ في غفلة، فلما تكرر حدثان إتيانه تبين لكل منصف أنهم معرضون عنه صداً.
ونظير هذا قوله تعالى: {وما يأتيهم من ذكر من الرحمان محدث إلا كانوا عنه معرضين} في سورة [الشعراء: 5]، وليس المراد بمحدث ما قابل القديم في اصطلاح علم الكلام لعدم مناسبته لسياق النظم.
ومسألة صفة كلام الله تعالى تقدم الخوض فيها عند قوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليماً} في سورة [النساء: 164].
وجملة {استمعوه} حال من ضمير النصب في {يأتيهم} وهذا الحال مستثنى من عموم أحوال أي ما يأتيهم ذكر في حال إلا في حال استماعهم.
وجملة {وهم يلعبون} حال لازمة من ضمير الرفع في {استمعوه} مقيّدة لجملة {استمعوه} لأن جملة {استمعوه} حال باعتبار أنها مقيّدة بحال أخرى هي المقصودة من التقييد وإلاّ لصار الكلام ثناء عليهم. وفائدة هذا الترتيب بين الجملتين الحاليتين الزيادةُ لِقطع معذرتهم المستفاد من قوله {مُحْدَث} كما علمت.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وأساساً، فإنّ أحد أسباب شقاء الجهلة والمتكبّرين هو اتخاذهم النصائح ومواعظ الأخيار لهواً ولعباً دائماً، وهذا هو السبب في عدم تنبّههم من غفلتهم، في حين أنّهم لو تعاملوا بصورة جديّة مع تلك النصائح ولو مرّة واحدة، فربّما تغيّر مسير حياتهم في تلك اللحظة!... فإنّ هؤلاء يَفْرَقون من كلّ جديد، ويتمسكّون ويفرحون لكلّ الخرافات القديمة التي ورثوها من الآباء والأجداد، وكأنّهم قد تعاهدوا عهداً دائماً على أن يخالفوا كلّ حقيقة جديدة، مع أنّ أساس تكامل الإنسان مُبْتَنٍ على أن يواجه الإنسان كلّ يوم مسائل جديدة...