اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَا يَأۡتِيهِم مِّن ذِكۡرٖ مِّن رَّبِّهِم مُّحۡدَثٍ إِلَّا ٱسۡتَمَعُوهُ وَهُمۡ يَلۡعَبُونَ} (2)

قوله : { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ } ذكر الله -تعالى- ذلك بياناً لكونهم معرضين ، وذلك لأنَّ الله{[27706]} -يجدد لهم الذكر كل وقت ، ويظهر لهم الآية بعد الآية ، والسورة بعد السورة ليكرر على أسماعهم{[27707]} الموعظة لعلهم يتعظون ، فما يزيدهم ذلك إلا استسخاراً{[27708]} .

قوله : «مُحْدِثٍ » العامة على جر «مُحْدِثٍ » نعتاً ل «ذِكْرٍ » على اللفظ{[27709]} .

وقوله : «مِنْ رَبِّهِمْ » فيه أوجه :

أجودها : انْ يتعلق ب «يَأتِيهِمْ » ، وتكون «مِنْ » لابتداء الغاية مجازاً{[27710]} .

والثاني : أنْ يتعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير المستتر في «مُحْدِثٍ »{[27711]} .

الثالث : أنْ يكونَ حالاً من نفس «ذِكْرٍ » ، وإنْ كان نكرة ، لأنه قد تخصّص بالوصف ب «مُحْدَثٍ » ، وهو نظير : ما جاءني رجلٌ قائماً منطلقٌ ، ففصل بالحال بين الصفة والموصوف . وأيضاً فإنّ الكلام نفي وهو مسوغ لمجيء الحال من النكرة{[27712]} .

الرابع : أن يكون نعتاً ل «ذِكْرٍ »{[27713]} فيجوز في محله وجهان : الجر باعتبار اللفظ والرفع باعتبار المحل ، لأنه مرفوع المحل{[27714]} إذ «مَن »{[27715]} مزيده فيه ، وسيأتي . وفي جعله نعتاً ل «ذِكْرٍ » إشكال من حيث إنه تقدم غير الصريح{[27716]} ، على الصريح{[27717]} وتقدم تحريره في المائدة{[27718]} .

الخامس : أن يتعلق بمحذوف على سبيل البيان . وقرأ ابن عبلة «محدثٌ » رفعاً نعتاً{[27719]} ل «ذِكرٍ » على المحل{[27720]} ، لأن «مِنْ » مزيدة فيه لاستكمال الشرطين{[27721]} .

وقال أبو البقاء : ولو رفع على موضع «من ذكر » جاز{[27722]} . كأنه لم يطلع عليه قراءة {[27723]}وزيد بن عليّ «مُحْدَثاً » نصباً على الحال من «ذِكْرٍ »{[27724]} ، وسوغ ذلك وصفه ب «مِنْ رَبِّهِمْ » إن جعلناه صفة{[27725]} أو{[27726]} واعتماده على النفي{[27727]} .

ويجوز أن يكون من الضمير المستتر في " من ربهم " إن جعلناه صفة{[27728]} .

قوله : «إلاَّ اسْتَمَعُوهُ » هذه الجملة حال من مفعول «يأتيهم » وهو استثناء مفرغ ، و «قد » معه مضمرة{[27729]} عند قوم{[27730]} .

«وهم يلعبون » حال من فاعل «اسْتَمَعُوهُ »{[27731]} أي استمعوه لاعبين .

فصل{[27732]}

قال مقاتل : معنى «مُحْدَثٍ » يحدث الله الأمر بعد الأمر . وقيل : الذكر المحدث ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم وبينه من السنن والمواعظ سوى ما في القرآن ، وأضافه إلى الرب ، لأنه أمره بقوله إِلاَّ «اسْتَمَعُوهُ » لاعبين لا يعتبرون ولا يتعظون .

فصل

استدلت المعتزلة{[27733]} بهذه الآية على حدوث القرآن ، فقالوا : القرآن ذكر ، والذكر محدث ، فالقرآن محدث ، وبيان أن القرآن{[27734]} ذكر قوله تعالى في صفة القرآن : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ }{[27735]} { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ }{[27736]} { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر }{[27737]} { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ }{[27738]} و { وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ }{[27739]} . وبيان أن{[27740]} الذكر محدث قوله : { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ } وقوله : { مَا يَأْتِيهِم مِّن{[27741]} ذِكْرٍ مِّنَ الرحمن مُحْدَثٍ }{[27742]} فالجواب{[27743]} من وجهين :

الأول : أن قوله تعالى : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } وقوله { وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ } إشارة إلى المركب{[27744]} من الحروف والأصوات ، وذلك مما{[27745]} لا نزاع فيه بل حدوثه معلوم بالضرورة ، وإنما النزاع في قدر كلام الله تعالى بمعنى آخر .

الثاني : أن قوله : { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ } لا يدل على حدوث كل ما كان ذكراً ، كما أن قول القائل : لاَ يَدْخل هذه البلدة رجلٌ فاضلٌ إلا يبغضونه{[27746]} فإنه لا يدل على{[27747]} أن كل رجل يجب أن يكون فاضلاً بل على أن من الرجال من هو فاضل ، وإذا كان كذلك فالآية لا تدل إلا على أن بعض الذكر محدث ، فيصير نظم الكلام : القرآن ذكر ، وبعض الذكر محدث ، وهذا لا ينتج شيئاً ، فظهر أن الذي ظنوه قاطعاً لا يفيد ظناً ضعيفاً فضلاً عن القطع{[27748]} .


[27706]:في ب: وذلك أنه.
[27707]:في ب: سماعهم. وهو تحريف.
[27708]:انظر الفخر الرازي 22/140.
[27709]:لأن "مجرور لفظا مرفوع محلا، لأنه فاعل "يأتيهم" و"من" زائدة. انظر مشكل إعراب القرآن 2/81، البيان 2/157، التبيان 2/911، البحر المحيط 6/296.
[27710]:انظر التبيان 2/911، البحر المحيط 6/296.
[27711]:انظر التبيان 2/911.
[27712]:الأصل في صاحب الحال أن يكون معرفة، لأنه محكوم عليه بالحال، وحق المحكوم عليه أن يكون معرفة، ويقع نكرة بمسوغ، كأن يتقدم عليه الحال نحو في الدار جالسا رجل وقول الشاعر: لـمية مــوحشا طلل *** يـلوح كأنه خِلل أو يكون مخصوصا، إما بوصف كقول الشاعر: نجيت يا رب نوحا واستجبت له *** في فلك ماخر في اليم مشحونا أو بإضافة نحو قوله تعالى: {في أربعة أيام سواء} [فصلت: 10] أو بمعمول غير مضاف إليه نحو: عجبت من ضرب أخوك شديدا. أو مسبوقا بنفي نحو قوله تعالى: {وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم} [الحجر: 40]. وهو ما أشار إليه ابن عادل. أو نهي، كقول الشاعر: لا يركنن أحد إلى الإحجام *** يوم الوغى متخوّفا لحمام أو استفهام كقول الشاعر: يا صاح هل حُمّ عيش باقيا فترى *** لنفسك العذر في إبعادها الأملا وفي ذلك يقول ابن مالك: ولم ينكر غالبا ذو الحـــال إن *** لم يتأخر، أو يخصص، أو يـبن من بعد نفي أو مضاهيه كــلا *** يبغ امرؤ على امرىء مستسهلا انظر شرح التصريح 1/375-378.
[27713]:انظر التبيان 2/911.
[27714]:إذ هو فاعل "يأتيهم".
[27715]:في ب: وفيه. وفي الأصل: إذ هي.
[27716]:وذلك أنه إذا وصف بمفرد، وظرف أو مجرور، وجملة فالأولى والغالب ترتيبها هكذا كقوله تعالى: {وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه} [غافر: 28]. وعلة ذلك أن الأصل الوصف بالاسم فالقياس تقديمه وقدم الظرف ونحوه على الجملة لأنه من قبيل المفرد، وأوجبه ابن عصفور اختيارا وقال: لا يخالف في ذلك إلا في ضرورة أو ندور. ورد بقوله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك} [ص: 29] وقوله تعالى: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزّة على الكافرين} [المائدة: 54]. انظر المقرب 247-248. الهمع 2/120.
[27717]:(على الصريح) سقط من الأصل.
[27718]:عند الحديث عن قوله تعالى: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذله على المؤمنين أعزة على الكافرين} [المائدة: 54]. انظر اللباب 3/275-276.
[27719]:نعتا: سقط من ب.
[27720]:البحر المحيط 6/296.
[27721]:وهما أن تكون في غير الموجب، وأن يكون مجرورا نكرة، وهذا عند غير الأخفش والكوفيين. انظر شرح الكافية 2/322-323.
[27722]:التبيان 2/911.
[27723]:أي كأنه لم يطلع على قراءة الرفع، وهي قراءة ابن أبي عبلة كما تقدم.
[27724]:البيان 2/157، البحر المحيط 6/296.
[27725]:انظر الوجه الرابع من أوجه إعراب "من ربهم".
[27726]:في ب: و.
[27727]:انظر مسوغات مجيء صاحب الحال نكرة في الصفحة السابقة.
[27728]:فيكون "من ربهم" متعلقا بمحذوف.
[27729]:في ب: وقد مضمرة معه.
[27730]:نص السيوطي أن المتأخرين كابن عصفور والأبدي والجزولي جزموا بأن الماضي التالي إلا أو المتلو بأو، إذا وقع حالا وإن كان مثبتا وفيه الضمير وجبت (قد) أيضا لتقربه من الحال، وإن لم تكن ظاهرة قدرت انظر الهمع 2/247.
[27731]:انظر البيان 2/157، البحر المحيط 6/296.
[27732]:هذا الفصل نقله ابن عادل عن البغوي 5/472-473.
[27733]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/140-141.
[27734]:في ب: بيان القرآن.
[27735]:[يوسف: 104]، [ص: 87]، [التكوير: 27].
[27736]:[الزخرف: 44].
[27737]:[الحجر: 9].
[27738]:[يس: 69].
[27739]:[الأنبياء: 50].
[27740]:أن: سقط من ب.
[27741]:من: سقط من ب.
[27742]:[الشعراء: 5].
[27743]:في ب: والجواب.
[27744]:كذا في الفخر الرازي، وفي الأصل: المتركب، وفي ب: التركب.
[27745]:مما: سقط من ب.
[27746]:في ب: يبغضوه.
[27747]:في الأصل: في.
[27748]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 22/140-141.