فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{مَا يَأۡتِيهِم مِّن ذِكۡرٖ مِّن رَّبِّهِم مُّحۡدَثٍ إِلَّا ٱسۡتَمَعُوهُ وَهُمۡ يَلۡعَبُونَ} (2)

{ مَا يَأْتِيهِمْ من ذِكْرٍ من ربّهِمْ مُحْدَثٍ } : «من » لابتداء الغاية . وقد استدلّ بوصف الذكر لكونه محدثاً على أن القرآن محدث ، لأن الذكر هنا هو : القرآن . وأجيب بأنه : لا نزاع في حدوث المركب من الأصوات والحروف ، لأنه متجدد في النزول . فالمعنى محدث تنزيله ، وإنما النزاع في الكلام النفسي ، وهذه المسألة أعني قدم القرآن وحدوثه ، قد ابتلي بها كثير من أهل العلم والفضل في الدولة المأمونية والمعتصمية والواثقية ، وجرى للإمام أحمد بن حنبل ما جرى من الضرب الشديد والحبس الطويل وضرب بسببها عنق محمد بن نصر الخزاعي ، وصارت فتنة عظيمة في ذلك الوقت وما بعده . والقصة أشهر من أن تذكر ، ومن أحبّ الوقوف على حقيقتها طالع ترجمة الإمام أحمد بن حنبل في كتاب النبلاء لمؤرخ الإسلام الذهبي . ولقد أصاب أئمة السنّة بامتناعهم من الإجابة إلى القول بخلق القرآن وحدوثه وحفظ الله بهم أمة نبيه عن الابتداع ، ولكنهم رحمهم الله جاوزوا ذلك إلى الجزم بقدمه ولم يقتصروا على ذلك حتى كفروا من قال بالحدوث ، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من قال : لفظي بالقرآن مخلوق ، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من وقف ، وليتهم لم يجاوزوا حد الوقف وإرجاع العلم إلى علام الغيوب ، فإنه لم يسمع من السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى وقت قيام المحنة وظهور القول في هذه المسألة شيء من الكلام ، ولا نقل عنهم كلمة في ذلك ، فكان الامتناع من الإجابة إلى ما دعوا إليه ، والتمسك بأذيال الوقف ، وإرجاع علم ذلك إلى عالمه هو الطريقة المثلى ، وفيه السلامة والخلوص من تكفير طوائف من عباد الله ، والأمر لله سبحانه . وقوله : { إِلاَّ استمعوه } استثناء مفرغ في محل نصب على الحال .

وجملة : { وَهُمْ يَلْعَبُونَ } في محل نصب على الحال أيضاً ، من فاعل استمعوه .

/خ9