{ 119 } { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ }
وهذا حض منه لعباده على التوبة ، ودعوة لهم إلى الإنابة ، فأخبر أن من عمل سوءا بجهالة بعاقبة ما تجني عليه ، ولو كان متعمدا للذنب ، فإنه لا بد أن ينقص ما في قلبه من العلم وقت مفارقة الذنب . فإذا تاب وأصلح بأن ترك الذنب وندم عليه{[465]} وأصلح أعماله ، فإن الله يغفر له ويرحمه ، ويتقبل توبته ويعيده إلى حالته الأولى أو أعلى منها .
وقوله - سبحانه - { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السواء بِجَهَالَةٍ . . } بيان لسعة رحمته - سبحانه - بعباده ، ورأفته بهم .
والمراد بالجهالة : الجهل والسفه اللذان يحملان صاحبهما على ارتكاب ما لا يليق بالعقلاء ، وليس المراد بها عدم العلم .
قال مجاهد : كل من عصى الله - تعالى - عمدا أو خطأ فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته .
وقال ابن عطيه : الجهالة هنا بمعنى تعدي الطور ، وركوب الرأس : لا ضد العلم .
ومنه ما جاء في الخبر : " اللهم إنى أعوذ بك من أن أجهل ، أو يجهل علي " .
ثم أخبر تعالى تكرمًا وامتنانًا في حق العصاة المؤمنين : أن من تاب منهم إليه تاب عليه ، فقال : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ } ، قال بعض السلف : كل من عصى الله فهو جاهل .
{ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا } ، أي : أقلعوا عما كانوا فيه من المعاصي ، وأقبلوا على فعل الطاعات ، { إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا } ، أي : تلك الفعلة والذلة ، { لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } .
تأويل قوله تعالى : { ثُمّ إِنّ رَبّكَ لِلّذِينَ عَمِلُواْ السّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوَاْ إِنّ رَبّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رّحِيمٌ * إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الْدّنْيَا حَسَنَةً وَإِنّهُ فِي الاَخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ * ثُمّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتّبِعْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنّمَا جُعِلَ السّبْتُ عَلَىَ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنّ رَبّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ * ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصّابِرينَ * وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مّمّا يَمْكُرُونَ * إِنّ اللّهَ مَعَ الّذِينَ اتّقَواْ وّالّذِينَ هُم مّحْسِنُونَ }
القول في تأويل قوله تعالى : ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( 119 )
يقول تعالى ذكره : إن ربك للذين عصوا الله فجهلوا بركوبهم ما ركبوا من معصية الله ، وسَفُهوا بذلك ثم راجعوا طاعة الله والندم عليها ، والاستغفار والتوبة منها ، من بعد ما سلف منهم ما سلف من ركوب المعصية ، وأصلح فعمل بما يحبّ الله ويرضاه ، ( إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا ) ، يقول : إن ربك يا محمد من بعد توبتهم له ( لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) .
وقوله : { ثم إن ربك للذين عملوا السوء } ، هذه آية تأنيس لجميع العالم ، أخبر الله تعالى فيها أنه يغفر للتائب ، والآية إشارة إلى الكفار الذين افتروا على الله وفعلوا الأفاعيل المذكورة ، فهم إذا تابوا من كفرهم بالإيمان وأصلحوا من أعمال الإسلام غفر الله لهم ، وتناولت هذه الآية بعد ذلك كل واقع تحت لفظها من كافر وعاص .
وقالت فرقة : «الجهالة » العمد ، و «الجهالة » عندي في هذا الموضع ليست ضد العلم ، بل هي تعدي الطور وركوب الرأس ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «أو أجهل ، أو يجهل علي »{[7443]} وهي التي في قول الشاعر : [ الوافر ]
ألا لا يجهلنْ أحد علينا . . . فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا{[7444]}
والجهالة التي هي ضد العلم تصحب هذه الأخرى كثيراً ، ولكن يخرج منها المتعمد وهو الأكثر ، وقلما يوجد في العصاة من لم يتقدم له علم بخطر المعصية التي يواقع . والضمير في : { بعدها } ، عائد على التوبة .
موقع هذه الآية من اللواتي قبلها كموقع قوله السابق { ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا } [ سورة النحل : 110 ] . فلما ذكرت أحوال أهل الشرك وكان منها ما حرّموه على أنفسهم ، وكان المسلمون قد شاركوهم أيام الجاهلية في ذلك ، ووردت قوارع الذمّ لما صنعوا ، كان مما يتوهم علوقه بأذهان المسلمين أن يحسبوا أنهم سينالهم شيء من غمص لما اقترفوه في الجاهلية ، فطمأن الله نفوسهم بأنهم لما تابوا بالإقلاع عن ذلك بالإسلام وأصلحوا عملهم بعد أن أفسدوا فإن الله قد غفر لهم مغفرة عظيمة ورحمهم رحمة واسعة .
ووقع الإقبال بالخطاب على النبي إيماءً إلى أن تلك المغفرة من بركات الدين الذي أرسل به .
وذكر اسم الرب مضافاً إلى ضمير النبي للنكتة المتقدمة آنفاً في قوله : { ثم إن ربك للذين هاجروا } .
والجهالة : انتفاء العلم بما يجب . والمراد : جهالتهم بأدلّة الإسلام .
و { ثمّ } للترتيب الرتبي ، لأن الجملة المعطوفة ب { ثمّ } تضمّنت حكم التوبة وأن المغفرة والرحمة من آثارها ، وذلك أهم عند المخاطبين مما سبق من وعيد ، أي الذين عملوا السوء جاهلين بما يدلّ على فساد ما علموه . وذلك قبل أن يستجيبوا لدعوة الرسول فإنهم في مدّة تأخّرهم عن الدخول في الإسلام موصوفون بأنهم أهل جهالة وجاهلية ، أو جاهلين بالعقاب المنتظر على معصية الرسول وعنادهم إياه .
ويدخل في هذا الحكم من عمل حَراماً من المسلمين جاهلاً بأنه حرام وكان غير مقصّر في جهله . وقد تقدم عند قوله تعالى : { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة } في سورة النساء ( 17 ) .
وقوله : { إن ربك من بعدها } تأكيد لفظي لقوله : { ثم إن ربك } لزيادة الاهتمام بالخبر على الاهتمام الحاصل بحرف التوكيد ولام الابتداء . ويتصل خبر { إنّ } باسمها لبعد ما بينهما .
ووقع الخبر بوصف الله بصفة المبالغة في المغفرة والرحمة ، وهو كناية عن غفرانه لهم ورحمته إيّاهم في ضمن وصف الله بهاتين الصفتين العظيمتين .
والباء في { بجهالة } للملابسة ، وهي في موضع الحال من ضمير { عملوا } .