ولما ذكر الأنبياء عليهم السلام ، قال مخاطبا للناس : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي : هؤلاء الرسل المذكورون هم أمتكم وائمتكم الذين بهم تأتمون ، وبهديهم تقتدون ، كلهم على دين واحد ، وصراط واحد ، والرب أيضا واحد .
ولهذا قال : { وَأَنَا رَبُّكُمْ } الذي خلقتكم ، وربيتكم بنعمتي ، في الدين والدنيا ، فإذا كان الرب واحدا ، والنبي واحدا ، والدين واحدا ، وهو عبادة الله ، وحده لا شريك له ، بجميع أنواع العبادة كان وظيفتكم والواجب عليكم ، القيام بها ، ولهذا قال : { فَاعْبُدُونِ } فرتب العبادة على ما سبق بالفاء ، ترتيب المسبب على سببه .
وبعد هذا الحديث المتنوع عن قصص عدد كبير من الأنبياء فى سورة الأنبياء ، عقب - سبحانه - على ذلك ببيان أنهم - عليهم السلام - قد جاءوا بعقيدة واحدة ، هى إخلاص العبادة لله - تعالى - فقال : { إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ . . . } .
لفظ الأمة يطلق بإطلاق متعددة . يطلق على الجماعة كما فى قوله - تعالى - { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ . . } ويطلق على الرجل الجامع للخير ، كما فى قوله - تعالى - : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً . . . } ويطلق على الحين والزمان ، كما فى قوله - سبحانه - : { وَقَالَ الذي نَجَا مِنْهُمَا وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ . . } أى وتذكر بعد حين من الزمان .
والمراد بالأمة هنا : الدين والملّة . كما فى قوله - تعالى - : { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ . . . } أى : على دين وملة معينة .
والمعنى : إن ملة التوحيد التى جاء بها الأنبياء جميعا . هى ملتكم ودينكم أيها الناس ، فيجب عليكم أن تتبعوا هؤلاء الأنبياء ، وأن تخلصوا لله - تعالى - العبادة والطاعة ، فهو - سبحانه - ربكم ورب كل شىء ، فاعبدوه حق العبادة لتنالوا رضاه ومحبته .
وفي نهاية الاستعراض الذي شمل نماذج من الرسل ، ونماذج من الابتلاء ، ونماذج من رحمة الله - يعقب بالغرض الشامل من هذا الاستعراض :
( إن هذه أمتكم أمة واحدة ، وأنا ربكم فاعبدون ) . .
إن هذه أمتكم . أمة الأنبياء . أمة واحدة . تدين بعقيدة واحدة . وتنهج نهجا واحدا . هو الاتجاه إلى الله دون سواه .
أمة واحدة في الأرض ، ورب واحد في السماء . لا إله غيره ولا معبود إلا إياه .
أمة واحدة وفق سنة واحدة ، تشهد بالإرادة الواحدة في الأرض والسماء .
وهنا يلتقي هذا الاستعراض بالمحور الذي تدور عليه السورة كلها ؛ وتشترك في تقرير عقيدة التوحيد ، تشهد بها مع سنن الكون وناموس الوجود . .
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جُبَيْر ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { إِنَّ{[19851]} هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } يقول : دينكم دين واحد .
وقال الحسن البصري ؛ في{[19852]} هذه الآية : بين لهم ما يتقون وما يأتون ثم قال : { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي : سنتكم سنة واحدة . فقوله : { إِنَّ هَذِهِ } إنّ واسمها ، و { أُمَّتُكُمْ } خبر إن ، أي : هذه شريعتكم التي بينت لكم ووضحت لكم ، وقوله : { أُمَّةً وَاحِدَةً } نصب{[19853]} على الحال ؛ ولهذا قال : { وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } ، كَمَا قَالَ : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } [ المؤمنون : 51 ، 52 ] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نحن معشر الأنبياء أولاد عَلات ديننا واحد " ، يعني : أن المقصود هو عبادة الله وحده لا شريك له بشرائع متنوعة لرسله ، كما قال تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } [ المائدة : 48 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ هََذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبّكُمْ فَاعْبُدُونِ } .
يقول تعالى ذكره : إن هذه مِلتكم ملة واحدة ، وأنا ربكم أيها الناس فاعبدون دون الاَلهة والأوثان وسائر ما تعبدون من دوني .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً يقول : دينكم دين واحد .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : قال مجاهد ، في قوله : إنّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً قال : دينكم دين واحد .
ونصبت الأمة الثانية على القطع ، وبالنصب قرأه جماعة قرّاء الأمصار ، وهو الصواب عندنا لأن الأمة الثانية نكرة والأولى معرفة وإذ كان ذلك كذلك ، وكان الخبر قبل مجيء النكرة مستغنيا عنها كان وجه الكلام النصب ، هذا مع إجماع الحجة من القرّاء عليه ، وقد ذُكر عن عبد الله بن أبي إسحاق رفع ذلك أنه قرأه : «أُمّةٌ وَاحِدَةٌ » بنية تكرير الكلام ، كأنه أراد : إن هذه أمتكم هذه أمة واحدة .
{ إن هذه أمتكم } أي إن ملة التوحيد والإسلام ملتكم التي يجب أن تكونوا عليها فكونوا عليها . { أمة واحدة } غير مختلفة فيما بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولا مشاركة لغيرها في صحة الاتباع . وقرئ { أمتكم } بالنصب على البدل { أمة } بالرفع على الخبر وقرئتا بالرفع عن أنهما خبران . { وأنا ربكم } لا إله لكم غيري { فاعبدون } لا غير .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.