151- وإن توجيهكم إلى المسجد الحرام بإرسالنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آيات من إتمام نعمتنا عليكم كما أتممنا عليكم النعمة - القرآن - ويطهر نفوسكم عمليا من دنس الشرك وسيئ الأخلاق والعادات ويكملكم علمياً بمعارف القرآن والعلوم النافعة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ، فقد كنتم في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء .
{ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ }
يقول تعالى : إن إنعامنا عليكم باستقبال الكعبة وإتمامها بالشرائع والنعم المتممة ، ليس ذلك ببدع من إحساننا ، ولا بأوله ، بل أنعمنا عليكم بأصول النعم ومتمماتها ، فأبلغها إرسالنا إليكم هذا الرسول الكريم منكم ، تعرفون نسبه وصدقه ، وأمانته وكماله ونصحه .
{ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا } وهذا يعم الآيات القرآنية وغيرها ، فهو يتلو عليكم الآيات المبينة للحق من الباطل ، والهدى من الضلال ، التي دلتكم أولا ، على توحيد الله وكماله ، ثم على صدق رسوله ، ووجوب الإيمان به ، ثم على جميع ما أخبر به من المعاد والغيوب ، حتى حصل لكم الهداية التامة ، والعلم اليقيني .
{ وَيُزَكِّيكُمْ } أي : يطهر أخلاقكم ونفوسكم ، بتربيتها على الأخلاق الجميلة ، وتنزيهها عن الأخلاق الرذيلة ، وذلك كتزكيتكم من الشرك ، إلى التوحيد ومن الرياء إلى الإخلاص ، ومن الكذب إلى الصدق ، ومن الخيانة إلى الأمانة ، ومن الكبر إلى التواضع ، ومن سوء الخلق إلى حسن الخلق ، ومن التباغض والتهاجر والتقاطع ، إلى التحاب والتواصل والتوادد ، وغير ذلك من أنواع التزكية .
{ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ } أي : القرآن ، ألفاظه ومعانيه ، { وَالْحِكْمَةَ } قيل : هي السنة ، وقيل : الحكمة ، معرفة أسرار الشريعة والفقه فيها ، وتنزيل الأمور منازلها .
فيكون - على هذا - تعليم السنة داخلا في تعليم الكتاب ، لأن السنة ، تبين القرآن وتفسره ، وتعبر عنه ، { وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } لأنهم كانوا قبل بعثته ، في ضلال مبين ، لا علم ولا عمل ، فكل علم أو عمل ، نالته هذه الأمة فعلى يده صلى الله عليه وسلم ، وبسببه كان ، فهذه النعم هي أصول النعم على الإطلاق ، ولهي أكبر نعم ينعم بها على عباده ، فوظيفتهم شكر الله عليها والقيام بها ، فلهذا قال تعالى : { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ }
وبعد أن أنهى القرآن حديثه عن نعمة تحويل القبلة أتبعه بالحديث عن نعمة جليلة أخرى وهي نعمة ارسال الرسول فيهم لهدايتهم فقال - تعالى -
{ كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا . . . }
قوله - تعالى - : { كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ } . . إلخ متصل بما قبله ، والكاف للتشبيه وهي في موضع نصب على أنها نعت لمصدر محذوف وما مصدرية ، والتقدير : لقد حولت القبلة إلى شطر المسجد الحرام لأتم نعمتي عليكم إتماماً مثل إتمام نعمتي عليكم بإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم فيكم ، إجابة لدعوة إبراهيم وإسماعيل إذ قالا { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ . . . } وقيل إن قوله - تعالى - : { كَمَآ أَرْسَلْنَا } . . إلخ متصل بما بعده ، فتكون الكاف للمقابلة ، أي : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يعلمكم الدين القويم ، والخلق المستقيم ومنحتكم هذه النعمة فضلا مني وكرماً ، فاذكروني بالشكر عليها أذكركم برحمتي وثوابي . وقوله : { فِيكُمْ } متعلق " بأرسلنا " وقدم على المفعول تعجيلا بإدخال السرور : وقوله : { مِّنْكُمْ } في موضع نصب ، لأنه صفة لقوله : { رَسُولاً } والمخاطبون بهذه الآية الكريمة هم العرب .
وفي إرساله الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم وهو منهم نعمة تستوجب المزيد من الشكر ، لأن إرساله منهم يسبقه معرفتهم لنشأته الطيبة وسيرته العطرة ، ومن شأن هذه المعرفة أن تحملهم على المسارعة إلى تصديقه والإِيمان به ، ولأن في إرساله فيهم وهو منهم شرف عظيم لهم ، ومجد لا يعد له مجد ، حيث جعل - سبحانه - خاتم رسله من هذه الأمة ، ولأن المشهور من حالهم الأنفة الشديدة من الانقياط ، فكون الرسول منهم ادعى إلى إيمانهم به وقبولهم لدعوته . وقوله : { يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا } صفة ثانية للرسول صلى الله عليه وسلم .
والتلاوة : ذكرالكلمة بعد الكلمة على نظام متسق ، وأصله من الإِتباع ومنه تلاه ، أي : تبعه . والمراد من الآيات : آيات القرآن الكريم ، وتلاوتها قراءتها ، فإن البصير بأسليب البيان العربي يدرك من مجرد تلاوة آيات القرآن كيف ارتفع إلى الذروة التي كان بها معجزة ساطعة .
وفي هذه الجملة - كما قال الآلوسي - " إشارة إلى طريق إثبات نبوته - عليه الصلاة والسلام - لأن تلاوة الأمي للآيات الخارجة عن طوق البشر باعتبار بلاغتها واشتمالها على الإِخبار بالمغيبات والمصالح التي ينتظم بها أمر المعاد والمعاش أقوى دليل على نبوته "
وعبر بقوله : { يَتْلُواْ } لأن نزول القرآن مستمر ، وقراءة النبي صلى الله عليه وسلم له متوالية ، وفي كل قراءة يحصل علم المعجزات للسامعين .
ويجوز أن يراد بالآيات : دلائل التوحيد والنبوة والبعث ، وبتلاوتها التذكير بها حتى يزداد المؤمنون إيماناً بصدقها .
وقوله : { وَيُزَكِّيكُمْ } صفة ثالثة للرسول صلى الله عليه وسلم ، أي : ويطهركم من الشرك ، ومن الأخلاق الذميمة . وإذا أشرقت النفوس بنور الحق ، وتحلت بالأخلاق الحميدة ، قوبت على تلقى ما يرد عليها من الحقائق السامية .
وقوله : { وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } صفة رابعة للرسول صلى الله عليه وسلم .
والمراد بالكتاب : القرآن ، وتعليمه بيان ما يخفى من معانيه ، فهو غير التلاوة ، فلا تكرار بين قوله { يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا } وبين قوله { وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب } .
والحكمة : ما يصدر عنه صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال التي جعل الله للناس فيها أسوة حسنة .
قال بعضهم : وقدمت جملة { وَيُزَكِّيكُمْ } هنا على جملة { وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب والحكمة } عكس ما جاء في الآية السابقة في حكاية قول إبراهيم { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكِّيهِمْ } لأن المقام هنا للامتنان على المسلمين ، فقدم ما يفيد معنى المنفعة الحاصلة من تلاوة الآيات عليهم وهي منفعة تزكية نفوسهم اهتماماً بها ، وبعثاً لها بالحرص على تحصيل وسائلها وتعجيلا للبشارة بها . أما في دعوة إبراهيم فقد رتبت الجمل على حسب ترتيب حصول ما تضمنته في الخارج ، مع ما في ذلك التخالف من التفنن " .
وقوله - تعالى - : { وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } صفة خامسة له صلى الله عليه وسلم .
أي : " ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمونه مما لا طريق إلى معرفته سوى الوحي . ومما لم يكونوا يعملونه وعلمهم إياه صلى الله عليه وسلم وجوه واستنباط الأحكام من النصوص أو الأصول المستمدة منها ، وأخبار الأمم الماضية ، وقصص الأنبياء ، وغير ذلك مما لم تستقل بعلمه عقولهم . وبهذا النوع من التعليم صار الدين كاملا قبل انتهاء عهد النبوة .
ولقد كان العرب قبل الإِسلام في حالة شديدة من ظلام العقول وفساد العقائد . . . فلما أكرمهم الله - تعالى - برسالة رسوله صلى الله عليه وسلم وتلا عليهم الآيات ، وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون ، خرج منهم رجال صاروا أمثالا عالية في العقيدة السليمة ، والأخلاق القويمة والأحكام العادلة ، والسياسة الرشيدة لمختلف البيئات والنزعات .
قال الآلوسي : وكان الظاهر أن يقول : " ويعلمكم الكتاب والحكمة وما لم تكونوا تعلمون " بحذف الفعل " يعلمكم " من الجملة الآخيرة ، ليكون الكلام من عطف المفرد على المفرد ، إلا أنه - تعالى - كرر الفعل للدلالة على أنه جنس آخر غير مشارك لما قبله أصلا ، فهو تخصيص بعد التعميم مبين لكون إرساله صلى الله عليه وسلم نعمة عظيمة ، ولولاه لكان الخلق متحيرين في أمر دينهم لا يدرون ماذا يصنعون " .
واستطرادا مع هذا الغرض نرى السياق يستطرد في تذكير المسلمين بنعمة الله عليهم ، بإرسال هذا النبي منهم إليهم ، استجابة لدعوة أبيهم إبراهيم ، سادن المسجد الحرام قبلة المسلمين ؛ ويربطهم - سبحانه - به مباشرة في نهاية الحديث :
( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم ، يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ، ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون . فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون ) . .
والذي يلفت النظر هنا ، أن الآية تعيد بالنص دعوة إبراهيم التي سبقت في السورة ، وهو يرفع القواعد من البيت هو وإسماعيل . دعوته أن يبعث الله في بنيه من جيرة البيت ، رسولا منهم ، يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم . . ليذكر المسلمين أن بعثة هذا الرسول فيهم ، ووجودهم هم أنفسهم مسلمين ، هو الاستجابة المباشرة الكاملة لدعوة أبيهم إبراهيم . وفي هذا ما فيه من إيحاء عميق بأن أمرهم ليس مستحدثا إنما هو قديم ؛ وأن قبلتهم ليست طارئة إنما هي قبلة أبيهم إبراهيم ، وأن نعمة الله عليهم سابغة فهي نعمة الله التي وعدها خليله وعاهده عليها منذ ذلك التاريخ البعيد .
إن نعمة توجيهكم إلى قبلتكم ، وتمييزكم بشخصيتكم هي إحدى الآلاء المطردة فيكم ، سبقتها نعمة إرسال رسول منكم :
( كما أرسلنا فيكم رسولا منكم ) . .
فهو التكريم والفضل أن تكون الرسالة فيكم ، وأن يختار الرسول الأخير منكم ، وقد كانت يهود تستفتح به عليكم !
فما يتلو عليكم هو الحق . . والإيحاء الآخر هو الإشعار بعظمة التفضل في أن يخاطب الله العبيد بكلامه يتلوه عليهم رسوله . وهو تفضل يرتعش القلب إزاءه حين يتعمق حقيقته . فمن هم هؤلاء الناس ؟ من هم وما هم ؟ حتى يخاطبهم الله سبحانه بكلماته ، ويتحدث إليهم بقوله ، ويمنحهم هذه الرعاية الجليلة ؟ من هم وما هم لولا أن الله يتفضل ؟ ولولا أن فضل الله يفيض ؟ ولولا أنه - سبحانه - منذ البدء منحهم فضل النفخة من روحه ليكون فيهم ما يستأهل هذا الإنعام ، وما يستقبل هذا الإفضال ؟
ولولا الله ما زكي منهم من أحد ، ولا تطهر ولا ارتفع . ولكنه أرسل رسوله [ ص ]يطهرهم . يطهر أرواحهم من لوثة الشرك ودنس الجاهلية ، ورجس التصورات التي تثقل الروح الإنساني وتطمره . ويطهرهم من لوثة الشهوات والنزوات فلا ترتكس أرواحهم في الحمأة . والذين لا يطهر الإسلام أرواحهم في جنبات الأرض كلها قديما وحديثا يرتكسون في مستنقع آسن وبيء من الشهوات والنزوات تزري بإنسانية الإنسان ، وترفع فوقه الحيوان المحكوم بالفطرة ، وهي أنظف كثيرا مما يهبط إليه الناس بدون الإيمان ! ويطهر مجتمعهم من الربا والسحت والغش والسلب والنهب . . وهي كلها دنس يلوث الأرواح والمشاعر ، ويلطخ المجتمع والحياة . ويطهر حياتهم من الظلم والبغي . وينشر العدل النظيف الصريح ، الذي لم تستمتع به البشرية كما استمتعت في ظل الإسلام وحكم الإسلام ومنهج الإسلام . ويطهرهم من سائر اللوثات التي تلطخ وجه الجاهلية في كل مكان من حولهم ، وفي كل مجتمع لا يزكيه الإسلام بروحه ومنهجه النظيف الطهور . .
( ويعلمكم الكتاب والحكمة ) . .
وفيها شمول لما سبق من تلاوة الآيات وهي الكتاب ؛ وبيان للمادة الأصيلة فيه ، وهي الحكمة ، والحكمة ثمرة التعليم بهذا الكتاب ؛ وهي ملكة يتأتى معها وضع الأمور في مواضعها الصحيحة ، ووزن الأمور بموازينها الصحيحة ، وإدراك غايات الأوامر والتوجيهات . . وكذلك تحققت هذه الثمرة ناضجة لمن رباهم رسول الله [ ص ] وزكاهم بآيات الله .
( ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ) . .
وكان ذلك حقا في واقع الجماعة المسلمة ، فقد التقطها الإسلام من البيئة العربية لا تعلم إلا أشياء قليلة متناثرة ، تصلح لحياة القبيلة في الصحراء ، أو في تلك المدن الصغيرة المنعزلة في باطن الصحراء . فجعل منها أمة تقود البشرية قيادة حكيمة راشدة ، خبيرة بصيرة عالمة . . وكان هذا القرآن - مع توجيهات الرسول المستمدة كذلك من القرآن - هو مادة التوجيه والتعليم . وكان مسجد رسول الله [ ص ] الذي يتلى فيه القرآن والتوجيهات المستمدة من القرآن - هو الجامعة الكبرى التي تخرج فيها ذلك الجيل الذي قاد البشرية تلك القيادة الحكيمة الراشدة : القيادة التي لم تعرف لها البشرية نظيرا من قبل ولا من بعد في تاريخ البشرية الطويل .
وما يزال هذا المنهج الذي خرج ذلك الجيل وتلك القيادة على استعداد لتخريج أجيال وقيادات على مدار الزمان ، لو رجعت الأمة المسلمة إلى هذا المعين ، ولو آمنت حقا بهذا القرآن ، ولو جعلته منهجا للحياة لا كلمات تغنى باللسان لتطريب الأذان !
يُذكر تعالى عباده المؤمنين ما أنعم به عليهم من بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ، يتلو عليهم آيات الله مبينات وَيُزَكِّيهم ، أي : يطهرهم من رذائل الأخلاق ودَنَس النفوس وأفعال الجاهلية ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ، ويعلمهم الكتاب - وهو القرآن - والحكمة - وهي السنة - ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون . فكانوا في الجاهلية الجَهْلاء يُسفَهُون بالقول الفرَى ، فانتقلوا ببركة رسالته ، ويُمن سفارته ، إلى حال الأولياء ، وسجايا العلماء فصاروا أعمق الناس علمًا ، وأبرهم قلوبًا ، وأقلهم تكلفًا ، وأصدقهم لهجة . وقال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } الآية [ آل عمران : 164 ] . وذم من لم يعرف قدر هذه النعمة ، فقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ } [ إبراهيم : 28 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكّيكُمْ وَيُعَلّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلّمُكُم مّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ }
يعني بقوله جل ثناؤه : ( كَمَا أرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً ) ، ولأتمّ نعمتي عليكم ببيان شرائع ملتكم الحنيفية ، وأهديكم لدين خليلي إبراهيم عليه السلام ، وأجعل لكم دعوته التي دعاني بها ومسألته التي سألنيها فقال : ( رَبّنا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرّيّتِنَا أُمّةً مُسْلِمَةً لَكَ وأرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنَا إنّكَ أنْتَ التّوّابُ الرّحيمُ ) كما جعلت لكم دعوته التي دعاني بها ومسألته التي سألنيها ، فقال : رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ويُعَلّمُهُمُ الكِتَابَ والحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إنّكَ أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيم ، فابتعثت منكم رسولي الذي سألني إبراهيم خليلي وابنه إسماعيل أن أبعثه من ذرّيتهما . ف«كما » إذ كان ذلك معنى الكلام صلة لقول الله عز وجل : وَلأُتِمّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ ولا يكون قوله : كَمَا أرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ متعلقا بقوله : فَاذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ .
وقد قال قوم : إن معنى ذلك : فاذكروني كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم أذكركم . وزعموا أن ذلك من المقدّم الذي معناه التأخير ، فأغرقوا النزع ، وبعدوا من الإصابة ، وحملوا الكلام على غير معناه المعروف وسوى وجهه المفهوم . وذلك أن الجاري من الكلام على ألسن العرب المفهوم في خطابهم بينهم إذا قال بعضهم لبعض : «كما أحسنت إليك يا فلان فأحسن » أن لا يشترطوا للاَخر ، لأن الكاف في «كما » شرط معناه : افعل كما فعلت ، ففي مجيء جواب : اذْكُرُونِي بعده وهو قوله : أذْكُرْكُمْ أوضح دليل على أن قوله : كَمَا أرْسَلْنَا من صلة الفعل الذي قبله ، وأن قوله : اذْكُرُونِي أذْكُرْكُمْ خبر مبتدأ منقطع عن الأول ، وأنه من سبب قوله : كَمَا أرْسَلْنَا فِيكُمْ بمعزل .
وقد زعم بعض النحويين أن قوله : فَاذْكُرُونِي إذا جعل قوله : كَمَا أرْسَلْنَا فِيكُمْ جوابا له مع قوله : أذْكُرْكُمْ نظير الجزاء الذي يجاب بجوابين ، كقول القائل : إذا أتاك فلان فأته ترضه ، فيصير قوله «فأته » و «ترضه » جوابين لقوله : إذا أتاك ، وكقوله : إن تأتني أحسن إليك أكرمك . وهذا القول وإن كان مذهبا من المذاهب ، فليس بالأسهل الأفصح في كلام العرب . والذي هو أولى بكتاب الله عزّ وجل أن يوجه إليه من اللغات الأفصح الأعرف من كلام العرب دون الأنكر الأجهل من منطقها هذا مع بعد وجهه من المفهوم في التأويل .
ذكر من قال : إن قوله : كَمَا أرْسَلْنَا جواب قوله : فاذْكُرُونِي .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، قال : سمعت ابن أبي نجيح يقول في قول الله عز وجل : كَمَا أرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ كما فعلت فاذكروني .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
قوله : كَمَا أرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ فإنه يعني بذلك العرب ، قال لهم جل ثناؤه : الزموا أيها العرب طاعتي ، وتوجهوا إلى القبلة التي أمرتكم بالتوجه إليها ، لتنقطع حجة اليهود عنكم ، فلا تكون لهم عليكم حجة ، ولأتمّ نعمتي عليكم وتهتدوا ، كما ابتدأتكم بنعمتي فأرسلت فيكم رسولاً إليكم منكم ، وذلك الرسول الذي أرسله إليهم منهم محمد صلى الله عليه وسلم . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : كَمَا أرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم .
وأما قوله : يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا فإنه يعني آيات القرآن ، وبقوله : وَيُزَكّيكُمْ ويطهركم من دنس الذنوب ، وَيُعَلّمُكُمُ الْكِتَابَ وهو الفرقان ، يعني أنه يعلمهم أحكامه ، ويعني بالحكمة : السنن والفقه في الدين . وقد بينا جميع ذلك فيما مضى قبل بشواهده .
وأما قوله : وَيُعَلّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ فإنه يعني : ويعلمكم من أخبار الأنبياء ، وقصص الأمم الخالية ، والخبر عما هو حادث وكائن من الأمور التي لم تكن العرب تعلمها ، فعلموها من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأخبرهم جل ثناؤه أن ذلك كله إنما يدركونه برسوله صلى الله عليه وسلم .