{ 37-39 } { وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا * ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا }
يقول تعالى : { وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا } أي : كبرا وتيها وبطرا متكبرا على الحق ومتعاظما على الخلق .
{ إِنَّكَ } في فعلك ذلك { لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا } في تكبرك بل تكون حقيرا عند الله ومحتقرا عند الخلق مبغوضا ممقوتا قد اكتسبت أشر الأخلاق واكتسيت أرذلها من غير إدراك لبعض ما تروم .
ثم ينتقل القرآن الكريم من النهى عن أن يتبع الإِنسان ما لا علم له به ، إلى النهى عن التفاخر والتكبر والإِعجاب فى النفس فيقول : { وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً . . . } .
والمرح فى الأصل : شدة الفرح ، والتوسع فيه ، مع الخيلاء والتعالى على الناس ، يقال : مرح - بزنة فرح - يمرح مرحا ، إذا اشتد فرحه ومشى مشية المتكبرين . وهو مصدر وقع موقع الحال .
أى : ولا تمش - أيها الانسان - فى الأرض مشية الفخور المتكبر المختال بل كن متواضعا متأدبا بأدب الإِسلام فى سلوكك .
وتقييد النهى بقوله { فى الأرض } للتذكير بالمبدأ والمعاد ، المانعين من الكبر والخيلاء ، إذ من الأرض خلق وإليها يعود ، ومن كان كذلك كان جديرا به أن يتواضع لا أن يتكبر .
قال - تعالى - : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى } وقوله - سبحانه - : { إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً } تعليل للنهى عن التفاخر مع السخرية والتهكم من المتفاخر المغرور .
أى : إنك - أيها الماشى فى الأرض مرحا - لن تخرق الأرض بوطئك عليها ، أو بمشيك فوقها ، ولن تبلغ - مهما ارتفعت قامتك - الجبال فى الطول والعلو . وما دام شأنك كذلك ، فكن متواضعا ، فمن تواضع لله - تعالى - رفعه .
وقوله { طولا } تمييز محول عن الفاعل . أى : لن يبلغ طولك الجبال .
وشبيه بهذه الآية فى النهى عن التعالى والتطاول ، قوله - تعالى - : { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } وقد أمر النبى صلى الله عليه وسلم بالتواضع ، ونهى عن التكبر والغرور ، وبين سوء عاقبة ذلك فى أحاديث كثيرة ، منها ما رواه مسلم فى صحيحه عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله - تعالى - أوحى إلى أن تواضعوا ، حتى لا يفخر أحد على أحد ، ولا يبغى أحد على أحد " .
وروى الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا " .
وروى الترمذى عن سلمة بن الأكوع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يزال الرجل يذهب بنفسه - أى يرتفع ويتكبر - حتى يكتب فى الجبارين - فيصيبه ما أصابهم " .
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا . . . فكم تحتها قوم همو منك أرفع
وإن كنت فى عز وحِرْزٍ ومَنْعَة . . . فكم مات من قوم همو منك أمنع
وتختم هذه الأوامر والنواهي المرتبطة بعقيدة التوحيد بالنهي عن الكبر الفارغ والخيلاء الكاذبة :
( ولا تمش في الأرض مرحا . إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ) . .
والإنسان حين يخلو قلبه من الشعور بالخالق القاهر فوق عباده تأخذه الخيلاء بما يبلغه من ثراء أو سلطان ، أو قوة أو جمال . لو تذكر أن ما به من نعمة فمن الله ، وأنه ضعيف أمام حول الله ، لطامن من كبريائه ، وخفف من خيلائه ، ومشى على الأرض هونا لا تيها ولا مرحا .
والقرآن يحبه المتطاول المختال المرح بضعفه وعجزه وضآلته : ( إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ) فالإنسان بجسمه ضئيل هزيل ، لا يبلغ شيئا من الأجسام الضخمة التي خلقها الله . إنما هو قوي بقوة الله ، عزيز بعزة الله ، كريم بروحه الذي نفخه الله فيه ، ليتصل به ويراقبه ولا ينساه .
ذلك التطامن والتواضع الذي يدعو إليه القرآن بترذيل المرح والخيلاء ، أدب مع الله ، وأدب مع الناس . أدب نفسي وأدب اجتماعي . وما يترك هذا الأدب إلى الخيلاء والعجب إلا فارغ صغير القلب صغير الاهتمامات . يكرهه الله لبطره ونسيان نعمته ، ويكرهه الناس لانتفاشه وتعاليه .
وفي الحديث : من تواضع لله رفعه فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير . ومن استكبر وضعه الله ، فهو في نفسه كبير وعند الناس حقير . حتى لهو أبغض إليهم من الكلب والخنزير .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا تمش في الأرض مرحا}، يعني: بالعظمة، والخيلاء، والكبرياء،
{إنك لن تخرق الأرض} إذا مشيت بالخيلاء والكبرياء،
{ولن تبلغ} رأسك، {الجبال طولا}، إذا تكبرت...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولا تمش في الأرض مختالاً مستكبرا. "إنّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ "يقول: إنك لن تقطع الأرض باختيالك... يعني بالمخترق: المقطع. "وَلَنْ تَبلُغَ الجِبالَ طُولاً" بفخرك وكبرك. وإنما هذا نهي من الله عباده عن الكبر والفخر والخُيَلاء، وتقدم منه إليهم فيه معرّفهم بذلك أنهم لا ينالون بكبرهم وفخارهم شيئا يقصر عنه غيرهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولا تمش في الأرض مرحا} ليس النهي عن المشي نفسه، إنما النهي للمشي المرح. ثم النهي عن الشيء، يوجب ضده...
وقال بعضهم: {مرحا} بطرا وأشرا، وقيل: متعظما متكبرا بالخيلاء...
{إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا} قال بعضهم: ذكر خرق الأرض وبلوغ الجبال طولا لأن من الخلائق من يخرق الأرض ويدخلها، ويبلغ الجبال، وهم الملائكة، ثم لم يتكبروا على الله، ولا تعظموا عليه ولا على رسوله، بل خضعوا له، فمن لم يبلغ في القوة والشدة ذلك أحرى أن يخضع له، ويتواضع، ولا يتكبر... ويحتمل أن يكون ذكر هذا لما أنهم كانوا يسعون في إطفاء هذا الدين وقهر رسول الله صلى الله ليه وسلم فيقول: كما لم يتهيأ لكم خرق الأرض وبلوغ الجبال طولا لم يتهيأ لكم إطفاء دين الله وقهر رسوله، وهو ما ذكر: {إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه} (غافر: 56)... وكيف تتكبر، وتمرح على غيرك، وهو مثلك في القوة والشدة... وأصل الكبر أن من عرف نفسه على ما هي عليه من الأحداث والآفات وأنواع الحوائج لم يتكبر على مثله...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الخُيَلاءُ والتجبُّر، والمدح والتكّبُر -كل ذلك نتائجُ الغيبة عن الذكر، والحجبة عن شهود الحقِّ؛ فإنَّ اللَّهَ إذا تجلَّى لشيءٍ خشع له بذلك وَرَدَ الخبر. فأمَّا في حال حضورِ القلبِ واستيلاءِ الذكر وسلطان الشهود. فالقلبُ مُطْرِقٌ، وحُكْمُ الهيبة غالِبٌ. ونعتُ المدحِ وصفةُ الزَّهْوِ وأسبابُ التفرقة- كل ذلك ساقط... والناسُ- في الخلاص من صفة التكبر- أصنافٌ: فأصحابُ الاعتبار إِذْ عرفوا أنهم مخلوقونَ من نطفة أمشاج، وما تحمله أبدانهم مما يترشح من مسامهم من بقايا طعامهم وشرابهم.. تعلو هِمَمُهم عن التضييق والتدنيق، ويَبْعُدُ عن قلوبهم قيامُ أَخْطارٍ للأشياء، ولا يخطر على داخلهم إلا ما يزيل عنهم التكبر، وينزع عنهم لباس التجبُّر...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{إنك لن تخرق الأرض} لن تثقبها حتى تبلغ آخرها ولا تطاول الجبال. والمعنى إن قدرتك لا تبلغ هذا المبلغ فيكون ذلك وصلة إلى الاختيال، يريد إنه ليس ينبغي للعاجز أن يبذخ ويستكبر...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَن تَخْرِقَ الأرض} لن تجعل فيها خرقاً بدوسك لها وشدّة وطأتك... {وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً} بتطاولك. وهو تهكم بالمختال...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قرأ الجمهور «مرَحاً» بفتح الراء مصدر من مرَح يمرَح إذا تسبب مسروراً بدنياه مقبلاً على راحته، فهذا هو المرح، فنهي الإنسان في هذه الآية أن يكون مشيه في الأرض على هذا الوجه، ثم قيل له إنك لن تقطع الأرض وتمسحها بمشيك، ولن تبلغ أطوال الجبال فتنالها طولاً، فإذا كنت لا تستوي في الأرض بمشيك فَقَصْرُكَ نفسك على ما يوجبه الحق من المشي والتصرف أولى وأحق، وخوطب النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية والمراد الناس كلهم...
الأول: أن المشي إنما يتم بالارتفاع والانخفاض فكأنه قيل: إنك حال الانخفاض لا تقدر على خرق الأرض ونقبها، وحال الارتفاع لا تقدر على أن تصل إلى رؤوس الجبال، والمراد التنبيه على كونه ضعيفا عاجزا فلا يليق به التكبر.
الثاني: المراد منه أن تحتك الأرض التي لا تقدر على خرقها. وفوقك الجبال التي لا تقدر على الوصول إليها، فأنت محاط بك من فوقك وتحتك بنوعين من الجماد، وأنت أضعف منهما بكثير، والضعيف المحصور لا يليق به التكبر فكأنه قيل له: تواضع ولا تتكبر فإنك خلق ضعيف من خلق الله المحصور بين حجارة وتراب فلا تفعل فعل المقتدر القوي...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الكبر والأنفة أعظم موقف عن العلم الداعي إلى كل خير، ومرض بمرض الجهل الحامل على كل شر، قال تعالى: {ولا تمش} أي مشياً ما، وحقق المعنى بقوله تعالى: {في الأرض} أي جنسها {مرحاً} وهو شدة الفرح التي يلزمها الخيلاء، لأن ذلك من رعونات النفس بطيش الهوى وداعي الشهوة وما طبعت عليه من النقائص، فإنه لا يحسن إلا بعد بلوغ جميع الآمال التي تؤخذ بالجد ولن يكون ذلك لمخلوق، ولذلك علله بقوله تعالى: {إنك لن تخرق} أي ولو بأدنى الوجوه {الأرض} أي تقطعها سيراً من مكانك إلى طرفها {ولن تبلغ} أي بوجه من الوجوه {الجبال طولاً} أي طول الجبال كلها بالسير فيها، فإذا كنت تعجز في قدرتك وعلمك عن خط مستقيم من عرض الأرض مع الجد والاجتهاد وعن التطاول على أوتادها فبماذا تفخر؟ وبأيّ شيء تتكبر حتى تتبختر؟ وذلك من فعل من بلغ جميع ما أمل.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
وفيه تعريضٌ بما عليه المختالُ من رفع رأسه ومشيِه على صدور قدميه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والإنسان حين يخلو قلبه من الشعور بالخالق القاهر فوق عباده تأخذه الخيلاء بما يبلغه من ثراء أو سلطان، أو قوة أو جمال. لو تذكر أن ما به من نعمة فمن الله، وأنه ضعيف أمام حول الله، لطامن من كبريائه، وخفف من خيلائه، ومشى على الأرض هونا لا تيها ولا مرحا...
ذلك التطامن والتواضع الذي يدعو إليه القرآن بترذيل المرح والخيلاء، أدب مع الله، وأدب مع الناس. أدب نفسي وأدب اجتماعي. وما يترك هذا الأدب إلى الخيلاء والعجب إلا فارغ صغير القلب صغير الاهتمامات. يكرهه الله لبطره ونسيان نعمته، ويكرهه الناس لانتفاشه وتعاليه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
نهي عن خصلة من خصال الجاهلية، وهي خصلة الكبرياء، وكان أهل الجاهلية يتعمدونها... والخطاب لغير معين ليعم كل مخاطب، وليس خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم إذ لا يناسب ما بَعده...
والمَرح بفتح الميم وفتح الراء: شدة ازدهاء المرء وفرحه بحاله في عظمة الرزق... و {مرحاً} مصدر وقع حالاً من ضمير {تمش}. ومجيء المصدر حالاً كمجيئه صفة يرد منه المبالغة في الاتصاف. وتأويله باسم الفاعل، أي لا تمش مارحاً، أي مشية المارح، وهي المشية الدالة على كبرياء الماشي بتمايل وتبختُر. ويجوز أن يكون {مرحاً} مفعولاً مطلقاً مبيناً لفعل {تمش} لأن للمشي أنواعاً، منها: ما يدلّ على أن صاحبه ذو مَرح. فإسناد المرح إلى المشي مجاز عقلي. والمشي مرحاً أن يكون في المشي شدة وطْء على الأرض وتطاول في بَدن الماشي... والخَرْق: قطع الشيء والفصل بين الأديم، فخرق الأرض تمزيق قشر التراب. والكلام مستعمل في التغليظ بتنزيل الماشي الواطئ الأرض بشدة منزلة من يبتغي خرق وجه الأرض وتنزيله في تطاوله في مشيه إلى أعلى منزلة من يريد أن يبلغ طول الجبال... والمقصود من التهكم التشنيع بهذا الفعل. فدل ذلك على أن المنهي عنه حرام لأنه فساد في خلق صاحبه وسوء في نيته وإهانة للناس بإظهار الشفوف عليهم وإرهابهم بقوته... وإظهار اسم (الأرض) في قوله: {لن تخرق الأرض} دون إضمار ليكون هذا الكلام مستقلاً عن غيره جارياً مجرى المثل...
{ولا تمش في الأرض مرحاً}: أي: فخراً واختيالاً، أو بطراً أو تعالياً؛ لأن الذي يفخر بشيء ويختال به، ويظن أنه أفضل من غيره، يجب أن يضمن لنفسه بقاء ما افتخر به، بمعنى أن يكون ذاتياً فيه، لا يذهب عنه ولا يفارقه، لكن من حكمة الله سبحانه أن جعل كل ما يمكن أن يفتخر به الإنسان هبة له، وليست أصيلة فيه. فالتواضع والأدب أليق بك، والتكبر والتعالي لا يكون إلا للخالق سبحانه وتعالى، فكيف تنازعه سبحانه صفة من صفاته؟ وقد نهانا الحق سبحانه عن ذلك؛ لأنه لا يستحق هذه الصفة إلا هو سبحانه وتعالى، وكون الكبرياء لله تعالى يعصمنا من الاتضاع للكبرياء الكاذب من غيرنا. ومن أحب أن يرى مساواة الخلق أمام الخالق سبحانه، فلينظر إلى العبادات، ففيها استطراق العبودية في الناس.