وقوله : { وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ } والحق هو ما أوحاه الله إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فأمره الله أن يقول ويعلن ، قد جاء الحق الذي لا يقوم له شيء ، وزهق الباطل أي : اضمحل وتلاشى .
{ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } أي : هذا وصف الباطل ، ولكنه قد يكون له صولة وروجان إذا لم يقابله الحق فعند مجيء الحق يضمحل الباطل ، فلا يبقى له حراك .
ولهذا لا يروج الباطل إلا في الأزمان والأمكنه الخالية من العلم بآيات الله وبيناته .
ثم بشره - سبحانه - بأن النصر له آت لا ريب فيه فقال - تعالى - { وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً } .
والحق فى لغة العرب : الشئ الثابت الذى ليس بزائل ولا مضمحل . والباطل على النقيض منه .
والمراد بالحق هنا : حقائق الإِسلام وتعاليمه التى جاء بها النبى صلى الله عليه وسلم من عند ربه - عز وجل - .
والمراد بالباطل : الشرك والمعاصى التى ما أنزل الله بها من سلطان ، والمراد بزهوقه : ذهابه وزواله . يقال : فلان زهقت روحه ، إذا خرجت من جسده وفارق الحياة .
أى : وقل - أيها الرسول الكريم - على سبيل الشكر لربك ، والاعتراف له بالنعمة ، والاستبشار بنصره ، قل : جاء الحق الذى أرسلنى به الله - تعالى - وظهر على كل ما يخالفه من شرك وكفر ، وزهق الباطل ، واضمحل وجوده وزالت دولته ، إن الباطل كان زهوقاً ، أى : كان غير مستقر وغير ثابت فى كل وقت . كما قال - تعالى - : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق عَلاَّمُ الغيوب قُلْ جَآءَ الحق وَمَا يُبْدِىءُ الباطل وَمَا يُعِيدُ }
( وقل : جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ) . .
بهذا السلطان المستمد من الله ، أعلن مجيء الحق بقوته وصدقه وثباته ، وزهوق الباطل واندحاره وجلاءه . فمن طبيعة الصدق أن يحيا ويثبت ، ومن طبيعة الباطل أن يتوارى ويزهق . .
( إن الباطل كان زهوقا ) . . حقيقة لدنية يقررها بصيغة التوكيد . وإن بدا للنظرة الأولى أن للباطل صولة ودولة . فالباطل ينتفخ ويتنفج وينفش ، لأنه باطل لا يطمئن إلى حقيقة ؛ ومن ثم يحاول أن يموه على العين ، وأن يبدو عظيما كبيرا ضخما راسخا ، ولكنه هش سريع العطب ، كشعلة الهشيم ترتفع في الفضاء عاليا ثم تخبو سريعا وتستحيل إلى رماد ؛ بينما الجمرة الذاكية تدفى ء وتنفع وتبقى ؛ وكالزبد يطفو على الماء ولكنه يذهب جفاء ويبقى الماء .
( إن الباطل كان زهوقا ) . . لأنه لا يحمل عناصر البقاء في ذاته ، إنما يستمد حياته الموقوتة من عوامل خارجية وأسناد غير طبيعية ؛ فإذا تخلخلت تلك العوامل ، ووهت هذه الأسناد تهاوى وانهار . فأما الحق فمن ذاته يستمد عناصر وجوده . وقد تقف ضده الأهواء وتقف ضده الظروف ويقف ضده السلطان . . ولكن ثباته واطمئنانه يجعل له العقبى ويكفل له البقاء ، لأنه من عند الله الذي جعل )الحق )من أسمائه وهو الحي الباقي الذي لا يزول .
( إن الباطل كان زهوقا ) . . ومن ورائه الشيطان ، ومن ورائه السلطان . ولكن وعد الله أصدق ، وسلطان الله أقوى . وما من مؤمن ذاق طعم الإيمان ، إلا وذاق معه حلاوة الوعد ، وصدق العهد . ومن أوفى بعهده من الله ? ومن أصدق من الله حديثا ?
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقُلْ جَآءَ الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً * وَنُنَزّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظّالِمِينَ إَلاّ خَسَاراً } .
يقول تعالى ذكره : وقل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين كادوا أن يستفزّونك من الأرض ليخرجوك منها : جاءَ الحَقّ وَزَهَقَ الباطِلُ .
واختلف أهل التأويل في معنى الحقّ الذي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُعْلم المشركين أنه قد جاء ، والباطل الذي أمره أن يعلمهم أنه قد زَهَق ، فقال بعضهم : الحقّ : هو القرآن في هذا الموضع ، والباطل : هو الشيطان . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَقُلْ جاءَ الحَقّ قال : الحقّ : القرآن وَزَهَقَ الباطِلُ إنّ الباطِلَ كانَ زَهُوقا .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَقُلْ جاءَ الحَقّ قال : القرآن : وَزَهَقَ الباطِلُ قال : هلك الباطل وهو الشيطان .
وقال آخرون : بل عُنِي بالحقّ جهاد المشركين وبالباطل الشرك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : وَقُلْ جاءَ الحَقّ قال : دنا القتال وَزَهَقَ الباطِلُ قال : الشرك وما هم فيه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أبي معمر ، عن ابن مسعود ، قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، وحول البيت ثلاثُ مئة وستون صنما ، فجعل يطعنها ويقول : جاءَ الحَقّ وَزَهَقَ الباطِلُ إنّ الباطِلَ كانَ زَهُوقا .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : أمر الله تبارك وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أن يخبر المشركين أن الحقّ قد جاء ، وهو كلّ ما كان لله فيه رضا وطاعة ، وأن الباطل قد زهق : يقول : وذهب كلّ ما كان لا رضا لله فيه ولا طاعة مما هو له معصية وللشيطان طاعة ، وذلك أن الحقّ هو كلّ ما خالف طاعة إبليس ، وأن الباطل : هو كلّ ما وافق طاعته ، ولم يخصص الله عزّ ذكره بالخبر عن بعض طاعاته ، ولا ذهاب بعض معاصيه ، بل عمّ الخبر عن مجيء جميع الحقّ ، وذهاب جميع الباطل ، وبذلك جاء القرآن والتنزيل ، وعلى ذلك قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك بالله ، أعني على إقامة جميع الحقّ ، وإبطال جميع الباطل .
وأما قوله عزّ وجلّ : وَزَهَقَ الباطِلُ فإن معناه : ذهب الباطل ، من قولهم : زَهَقت نفسه : إذا خرجت وأزهقتها أنا ومن قولهم : أزهق السهم : إذا جاوز الغرض فاستمرّ على جهته ، يقال منه : زهق الباطل ، يزهَق زُهوقا ، وأزهقه الله : أي أذهبه . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس إنّ الباطِلَ كانَ زَهُوقا يقول : ذاهبا .
أعقب تلقينه الدعاءَ بسداد أعماله وتأييده فيها بأن لقنه هذا الإعلان المنبىء بحصول إجابة الدعوة المُلْهَمَة بإبراز وعده بظهور أمره في صورة الخبر عن شيء مضى .
ولما كانت دعوة الرسول هي لإقامة الحق وإبطالِ الباطل كان الوعد بظهور الحق وعداً بظهور أمر الرسول وفوزه على أعدائه ، واستحفظه الله هذه الكلمة الجليلة إلى أن ألقاها يوم فتح مكة على مسامع من كانوا أعداءه فإنه لما دخل الكعبة ووجد فيها وحولها الأصنام جعل يشير إليها بقضيب ويقول : { جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً } فتسقط تلك الأنصاب على وجوهها .
ومجيء الحق مستعمل مجازاً في إدراك الناس إياه وعملهم به وانتصار القائم به على معاضديه تشبيهاً للشيء الظاهر بالشيء الذي كان غايباً فورد جائياً .
و { زهَق } اضمحل بعد وجوده . ومصدره الزُهوق والزَهَق . وزهوق الباطل مجاز في تركه أصحابه فكأنه كان مقيماً بينهم ففارقهم . والمعنى : استقر وشاع الحق الذي يدعو إليه النبي وانقضى الباطل الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عنه .
وجملة { إن الباطل كان زهوقاً } تذييل للجملة التي قبله لما فيه من عموم يشمل كل باطل في كل زمان . وإذا كان هذا شأن الباطل كان الثبات والانتصار شأن الحق لأنه ضد الباطل فإذا انتفى الباطل ثبت الحق .
وبهذا كانت الجملة تذييلاً لجميع ما تضمنته الجملة التي قبلها . والمعنى : ظهر الحق في هذه الأمة وانقضى الباطل فيها ، وذلك شأن الباطل فيما مضى من الشرائع أنه لا ثبات له .
ودل فعل { كان } على أن الزهوق شنشنة الباطل ، وشأنه في كل زمان أنه يظهر ثم يضمحل ، كما تقدم في قوله تعالى : { أكان للناس عجباً } في صدر سورة [ يونس : 2 ] .