{ وَقَالُوا } عند دخولهم فيها واستقرارهم ، حامدين ربهم على ما أولاهم ومنَّ عليهم وهداهم : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } أي : وعدنا الجنة على ألسنة رسله ، إن آمنا وصلحنا ، فوفَّى لنا بما وعدنا ، وأنجز لنا ما منَّانا . { وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ } أي : أرض الجنة { نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ } أي : ننزل منها أي مكان شئنا ، ونتناول منها أي نعيم أردنا ، ليس ممنوعا عنا شيء نريده . { فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } الذين اجتهدوا بطاعة ربهم ، في زمن قليل منقطع ، فنالوا بذلك خيرا عظيما باقيا مستمرا .
وهذه الدار التي تستحق المدح على الحقيقة ، التي يكرم اللّه فيها خواص خلقه ، . ورضيها الجواد الكريم لهم نزلا ، وبنى أعلاها وأحسنها ، وغرسها بيده ، وحشاها من رحمته وكرامته ما ببعضه يفرح الحزين ، ويزول الكدر ، ويتم الصفاء .
ثم بين - سبحانه - ما يقوله المتقون عند دخولهم الجنة على سبيل الشكر لله - تعالى - : فقال : { وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } بأن بعثنا من مرقدنا ، ومنحنا المزيد من عطائه ونعمه { وَأَوْرَثَنَا الأرض } أى : أرض الجنة التى استقروا فيها .
{ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ } أى : ينزل كل واحد منا من جنته الواسعة حيث يريد ، دون أن يزاحمه فيها مزاحم ، أو ينازعه منازع .
{ فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } الجنة التى منحها - سبحانه - لعباده المتقين .
هنا تهينم أصوات أهل الجنة بالتسبيح والتحميد :
( وقالوا : الحمد لله . الذي صدقنا وعده ، وأورثنا الأرض ، نتبوأ من الجنة حيث نشاء ) . فهذه هي الأرض التي تستحق أن تورث . وهم يسكنون فيها حيث شاءوا وينالون منها الذي يريدون .
ثم يختم المشهد بما يغمر النفس بالروعة والرهبة والجلال ، وما يتسق مع جو المشهد كله وظله ، وما يختم سورة التوحيد أنسب ختام ؛ والوجود كله يتجه إلى ربه بالحمد ؛ في خشوع واستسلام . وكلمة الحمد ينطق بها كل حي وكل موجود في استسلام :
وقوله : وَقالُوا الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ يقول : وقال الذين سيقوا زمرا ودخلوها : الشكر خالص لله الذي صدقنا وعده ، الذي كان وعدناه في الدنيا على طاعته ، فحققه بإنجازه لنا اليوم ، وأوْرَثَنا الأرْضَ يقول : وجعل أرض الجنة التي كانت لأهل النار لو كانوا أطاعوا الله في الدنيا ، فدخلوها ، ميراثا لنا عنهم ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأوْرَثَنا الأرْضَ قال : أرض الجنة .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وأوْرَثَنا الأرْضَ أرض الجنة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأوْرَثَنا الأرْضَ قال : أرض الجنة ، وقرأ : أنّ الأرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصّالِحُونَ .
وقوله : نَتَبَوّأُ مِنَ الجَنّةِ حَيثُ نَشاءُ يقول : نتخذ من الجنة بيتا ، ونسكن منها حيث نحبّ ونشتهي ، كما :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ نَتَبَوّأُ مِنَ الجَنّةِ حَيْثُ نَشاءُ ننزل منها حيث نشاء .
وقوله : فَنِعْمَ أجْرُ العامِلِينَ يقول : فنعم ثواب المطيعين لله ، العاملين له في الدنيا الجنة لمن أعطاه الله إياها في الاَخرة .
عطف هذا الكلام يؤذن بأن قولهم ذلك غيرُ جواب لقول الملائكة بل حَمدوا الله على ما منحهم من النعيم الذي وعَدهم به ، وإنما وعدهم به بعنوان الأعمال الصالحة فلما كانوا أصحاب الأعمال الصالحة جعَلوا وعد العاملين للصالحات وعداً لهم لتحقق المعلق عليه الوعدُ فيهم . ومعنى { صدقنا } حقق لنا وعده .
وقوله : { أورثنا الأرض } كلام جرى مجرى المثل لمن ورث الملك قال تعالى : { أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } [ الأنبياء : 105 ] فعبر القرآن عن مراد أهل الجنة المختلفي اللغات بهذا التركيب العربي الدال على معاني ما نطقوا به من لغاتهم المختلفة . ويجوز أن يكون أهل الجنة نطقوا بكلام عربي ألهمهم الله إياه فقد جاء في الآثار أن كلام أهل الجنة بالعربية الفصحى . ولفظ { الأرض } جار على مراعاة التركيب التمثيلي لأن الأرض قد اضمحلت أو بدلت . ويجوز أن يكون لفظ { الأرض } مستعاراً للجنّة لأنها قرارهم كما أن الأرض قرار الناس في الحياة الأولى .
وإطلاق الإِيراث استعارة تشبيهاً للإِعطاء بالتوريث في سلامته من تعب الاكتساب .
والتبؤ : السكني والحلول ، والمعنى : أنهم يتنقلون في الغرف والبساتين تفنناً في النعيم .
وأرادوا ب { العاملين } أنفسَهم ، أي عاملي الخير ، وهذا من التصريح بالحقائق فليس فيه عيب تزكية النفس ، لأن ذلك العالم عالم الحقائق الكاملة المجردة عن شوب النقائص .
واعلم أن الآيات وَصفت مصير أهل الكفر ومصير المتقين يوم الحشر ، وسكتت عن مصير أهل المعاصي الذين لم يلتحقوا بالمتقين بالتوبة من الكبائر وغفراننِ الصغائر باجتناب الكبائر ، وهذه عادة القرآن في الإِعراض عن وصف رجال من الأمة الإِسلامية بمعصية ربهم إلا عند الاقتضاء لبيان الأحكام ، فإن الكبائر من أمر الجاهلية فما كان لأهل الإِسلام أن يقعوا فيها فإذا وقعوا فيها فعليهم بالتوبة ، فإذا ماتوا غير تائبين فإن الله تعالى يحصي لهم حسنات أعمالهم وطيبات نواياهم فيُقاصُّهم بها إن شاء ، ثم هم فيما دون ذلك يقتربون من العقاب بمقدار اقترابهم من حال أهل الكفر في وفرة المعاصي فيؤمر بهم إلى النار ، أو إلى الجنة ، ومنهم أهل الأعراف . وقد تقدمت نبذة من هذا الشأن في سورة الأعراف .