{ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } فلا يتصرف منهم متصرف ، ولا يتحرك متحرك ، ولا يسكن ساكن ، إلا بمشيئته ، وليس للملوك وغيرهم الخروج عن ملكه وسلطانه ، بل هم مدبرون مقهورون ، فإذا كان هو القاهر وغيره مقهورا ، كان هو المستحق للعبادة .
{ وَهُوَ الْحَكِيمُ } فيما أمر به ونهى ، وأثاب ، وعاقب ، وفيما خلق وقدر . { الْخَبِيرُ } المطلع على السرائر والضمائر وخفايا الأمور ، وهذا كله من أدلة التوحيد .
ثم بين - سبحانه - كمال قدرته ، وعظيم سلطانه فقال : { وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الحكيم الخبير } .
أى أنه - كما قال ابن كثير - " هو الذى خضعت له الرقاب ، وذلت له الجباه . وعنت له الوجوه ، وقهر كل شىء ، ودانت له الخلائق ، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه الأشياء ، وتضاءلت بين يديه وتحت قهره وحكمه " .
ثم إنه لماذا يتخذ غير الله وليا ، ويعرض نفسه للشرك الذي نهى عنه وللمخالفة عن الإسلام الذي أمر به ، ولما يعقب المعصية من هذا العذاب الهائل الرعيب ؟ . . ألعل ذلك رجاء جلب نفع أو دفع ضر في هذه الحياة الدنيا ؟ رجاء نصرة الناس له في الضراء ؛ ورجاء نفع الناس له بالسراء ؟ . . إن هذا كله بيد الله ؛ وله القدرة المطلقة في عالم الأسباب ؛ وله القهر كذلك على العباد ؛ وعنده الحكمة والخبرة في المنع والعطاء :
( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ، وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير . وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ) . .
إنه تتبع هواجس النفس ووساوس الصدر ؛ وتتبع مكامن الرغائب والمخافات ، ومطارح الظنون والشبهات وتجليه هذا كله بنور العقيدة ، وفرقان الإيمان ، ووضوح التصور ، وصدق المعرفة بحقيقة الألوهية . ذلك لخطورة القضية التي يعالجها السياق القرآني في هذا الموضع ، وفي جملة هذا القرآن :
القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } . .
يعني تعالى ذكره بقوله : «وهو » نفسه يقول : والله القاهر فوق عباده . ويعني بقوله : القاهِرُ : المذلل المستعبد خلقه العالي عليهم . وإنما قال : «فوق عباده » ، لأنه وصف نفسه تعالى بقهره إياهم ، ومن صفة كلّ قاهر شيئا أن يكون مستعليا عليه .
فمعنى الكلام إذن : والله الغالب عباده ، المذلّلهم ، العالي عليهم بتذليله لهم وخلقه إياهم ، فهو فوقهم بقهره إياهم ، وهم دونه . وهُوَ الحَكِيمُ يقول : والله الحكيم في علّوه على عباده وقهره إياهم بقدرته وفي سائر تدبيره ، الخبير بمصالح الأشياء ومضارّها ، الذي لا يخفى عليه عواقب الأمور وبواديها ، ولا يقع في تدبيره خلل ، ولا يدخل حكمه دخل .
وقوله تعالى : { وهو القاهر } الآية ، أي وهو عز وجل المستولي المقتدر ، و { فوق } نصب على الظرف لا في المكان بل في المعنى الذي تضمنه لفظ القاهر ، كما تقول زيد فوق عمرو في المنزلة ، وحقيقة فوق في الأماكن ، وهي في المعاني مستعارة شبه بها من هو أرفع رتبة في معنى ما ، لما كانت في الأماكن تنبىء حقيقة عن الأرفع{[4847]} وحكى المهدوي : أنها بتقدير الحال ، كأنه قال : وهو القاهر غالباً .
قال القاضي أبو محمد : وهذا لا يسلم من الاعتراض أيضاً والأول عندي أصوب : و «العباد » بمعنى العبيد وهما جمعان للعبد ، أما أنا نجد ورود لفظة العباد في القرآن وغيره في مواضع تفخيم أو ترفيع أو كرامة ، وورود لفظ العبيد في تحقير أو استضعاف أو قصد ذم ، ألا ترى قول امرىء القيس : [ السريع ]
قولا لدودانَ عبيدِ العَصَا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . {[4848]}
ولا يستقيم أن يقال هنا عباد العصا ، وكذلك الذين سموا العباد لا يستقيم أن يقال لهم العبيد لأنهم أفخم من ذلك ، وكذلك قول حمزة رضي الله عنه وهل أنتم إلا عبيد لأبي ، لا يستقيم فيه عباد{[4849]} .
و { الحكيم } بمعنى المحكم ، و { الخبير } دالة على مبالغة العلم ، وهما وصفان مناسبان لنمط الآية .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.