ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما قاله زكريا بعد هذه البشارة السارة . فقال - تعالى - : { قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } .
فالجملة الكريمة استئناف مبنى على سؤال تقديره : فماذا قال زكريا عندما بشره الله - تعالى - بيحيى ؟
ولفظ { أنى } بمعنى : كيف . أو بمعنى : من أين .
أى : قال زكريا مخاطباً ربه بعد أن بشره بابنه يحيى : يا رب كيف يكون لى غلام ، وحال امرأتى أنها كانت عاقراً فى شبابها وفى شيخوختها ، وحالى أنا أننى قد بلغت من الكبر عتيا ، أى : قد تقدمت فى السن تقدماً كبيراً
يقال : عتى الشيخ يعتو عتيا - بكسر العين وضمها - إذا بلغ النهاية فى الكبر .
قال ابن جرير : " قوله : { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً } يقول : وقد عتوت من الكبر فصرت نحيل العظام يابسها ، يقال منه للعود اليابس : عات وعاس . وقد عتا يعتو عتوا وعتيا . . . وكل متناه فى كبر أو فساد أو كفر فهو عات . . . " .
فإن قيل : " ما المراد باستفهام زكريا - عليه السلام - مع علمه بقدرة الله - تعالى - على كل شىء ؟
فالجواب أن استفهامه إنما هو على سبيل الاستعلام والاستخبار ، لأنه لم يكن يعلم أن الله - تعالى - سيرزقه بيحيى عن طريق زوجته العاقر ، أو عن طريق الزواج بامرأة أخرى ، فاستفهم عن الحقيقة ليعرفها .
ويصح أن يكون المقصود بالاستفهام التعجب والسرور بهذا الأمر العجيب حيث رزقه الله الولد مع تقدم سنه وسن زوجته .
ويجوز أن يكون المقصود بالاستفهام الاستبعاد لما جرت به العادة من أن يأتى الغلام مع تقدم سنه وسن زوجته . وليس المقصود به استحالة ذلك على قدرة الله - تعالى - لأنه - سبحانه - لا يعجزه شىء .
وكأنما أفاق زكريا من غمرة الرغبة وحرارة الرجاء ، على هذه الاستجابة القريبة للدعاء . فإذا هو يواجه الواقع . . إنه رجل شيخ بلغ من الكبر عتيا ، وهن عظمه واشتعل شيبه ، وامرأته عاقر لم تلد له في فتوته وصباه : فكيف يا ترى سيكون له غلام ? إنه ليريد أن يطمئن ، ويعرف الوسيلة التي يرزقه الله بها هذا الغلام : ( قال : رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا ? ) .
إنه يواجه الواقع ، ويواجه معه وعد الله . وإنه ليثق بالوعد ، ولكنه يريد أن يعرف كيف يكون تحقيقه مع ذلك الواقع الذي يواجهه ليطمئن قلبه . وهي حالة نفسية طبيعية . في مثل موقف زكريا النبي الصالح . الإنسان ! الذي لا يملك أن يغفل الواقع ، فيشتاق أن يعرف كيف يغيره الله !
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ رَبّ أَنّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً } .
يقول تعالى ذكره : قال زكريا لما بشره الله بيحيى : ربّ أنّي يكونُ لي غُلام ، ومن أيّ وجه يكون لي ذلك ، وامرأتي عاقر لا تحبل ، وقد ضعُفت من الكبر عن مباضعة النساء أبأن تقوّيني على ما ضعفت عنه من ذلك ، وتجعل زوجتي ولودا ، فإنك القادر على ذلك وعلى ما تشاء ، أم بأن أنكح زوجة غير زوجتي العاقر ، يستثبت ربه الخبر ، عن الوجه الذي يكون من قبله له الولد ، الذي بشره الله به ، لا إنكارا منه صلى الله عليه وسلم حقيقة كون ما وعده الله من الولد ، وكيف يكون ذلك منه إنكارا لأن يرزقه الولد الذي بشّره به ، وهو المبتدىء مسألة ربه ذلك بقوله : فَهَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ بعد قوله إنّي وَهَنَ العَظْمُ مِني وَاشْتَعَلَ الرّأسُ شَيْبا . وقال السدّي في ذلك ما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : نادى جبرائيل زكريا : إنّ اللّهَ يُبَشّرُكَ بغُلام اسمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّا فلما سمع النداء ، جاءه الشيطان فقال : يا زكريا إن الصوت الذي سمعت ليس من الله ، إنما هو من الشيطان يسخر بك ، ولو كان من الله أوحاه إليك كما يوحي إليك غيره من الأمر ، فشكّ وقال : إنّي يَكُونُ لي غُلامٌ يقول : من أين يكون وَقَدْ بَلَغَنِيَ الكِبَرُ وَامْرَأتِي عاقِرٌ .
وقوله : وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عِتِيّا يقول : وقد عتوت من الكبر فصرت نحل العظام يابسها ، يقال منه للعود اليابس : عود عاتٍ وعاسٍ ، وقد عتا يعتو عِتِيّا وعُتُوّا ، وعسى يعسو عِسِيا وعسوّا ، وكلّ متناه إلى غايته في كبر أو فساد ، أو كفر ، فهو عات وعاس . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قد علمتُ السنة كلها ، غير أني لا أدري أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر أم لا ، ولا أدري كيف كان يقرأ هذا الحرف : وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عِتِيّا أو «عِسِيّا » .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ عِتِيّا قال : يعني بالعِتيّ : الكبر . .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله عِتِيّا قال : نُحول العظم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله مِنَ الكِبَرِ عِتِيّا قال : سنّا ، وكان ابن بضع وسبعين سنة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَقَدْ بَلَغْت مِنَ الكِبَرِ عِتِيّا قال : العتيّ : الذي قد عتا عن الولد فيما يرى نفسه لا يولد له .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَقَدْ بَلَغْتُ منَ الكبَرِ عتيّا قال : هو الكبر .
{ قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا } جساوة وقحولا في المفاصل ، وأصله عتو وكقعود فاستثقلوا توالي الضمتين والواوين فكسروا التاء فانقلبت الواو الأولى ياء ، ثم قلبت الثانية وأدغمت وقرأ حمزة والكسائي وحفص { عتيا } بالكسر ، وإنما استعجب الولد من شيخ فان وعجوز عاقر اعترافا بأن المؤثر فيه كمال قدرته وأن الوسائط عند التحقيق ملغاة ولذلك : { قال } .